مجلة الرسالة/العدد 257/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 257/رسالة الفن
فرنتس شوبرت
للأستاذ محمد كامل حجاج
بقية ما نشر في العدد الماضي
وقد أثر فيه موت بيتهوفن تأثيراً عميقاً، وما فتئ يظهر عليه البشر والحنان، هذا الوقت ظهرت قطعة المرنجلة والأوقات الموسيقية ولكنه كانت تزيد حالته سوءاً وبؤساً من يوم لآخر، فكان يشرب لينسى همومه؛ ثم كتب الأربعة عشر لحناً التي يقال أنهم وجدوها في أوراق بيتهوفن، وقد جمعت باسم (غناء البجع) أي الغناء الأخير، إذ يقولون أن هذا الطير يغني قبل موته. وفي 26 مارس سنة 1828 أقام حفلة موسيقية من مؤلفاته لأول مرة، فكان الإقبال عظيماً جداً والدخل وافراً. ولكن صحته كانت تتدهور من وقت لآخر حتى لزم الفراش في 11 نوفمبر ثم فاضت روحه المتألمة في التاسع عشر منه سنة 1828 وأصدقاؤه يحفون به، ودفن بجانب بيتهوفن. وفي سنة 1888 نقل الاثنان إلى المقبرة المركزية بفينا بجانب موزار وجلوك
وكانت هيئة شوبرت كألماني شريف ثقيل الحركة قليلاً، وكان ساذجاً مثل هيدن يلهو بأتفه الأشياء. له ولع شديد باجتماعات الأصدقاء التي تدار فيها كؤوس الجعة بكميات وافرة. يضع على عينيه نظارة. شعره جعد، كبير الوجه، غليظ الشفتين، ربعه، كبير البطن. وكان متأجج الشاعرية نابغاً مبدعاً نقي القلب ملك الأغاني كما عبرت عنه مدام ويظهر أن الحب لم يعبث بفؤاده إلا قليلاً جداً. ومن صفاته المميزة أنه كان ذا طبيعة سليمة كريمة مرهفة الحس لا تكتم في باطنها شيئاً. وقد قالت أخته كاتي: (كان طيب القلب جداً يأنف من الحسد، وكان لا يكتم سروره وطربه عند سماع الموسيقى الراقية، ويمسك بيديه رأسه ليتفرغ للإصغاء. وكان إعجابه بموزار وبتهوفن لا حد له. وقد جرى ذكر بيتهوفن على لسانه وهو يلفظ النفس الأخير، وهذا ما أولوه من أنه أراد أن يدفن بجانبه
كان شوبرت شاعر النفس، وقد قال عنه ليزث: (أنه أكبر شعراء الموسيقى على الإطلاق) وكان أشهى مجتمع له هذا النادي الأخوي الصغير المؤثث بأفقر الأثاث؛ وكان يرتجل فيه ألحانه الخالدة. وكانوا يسمون هذه الجلسات الرائعة (شوبرتياد) وكان النبوغ فيها ينير الشباب والصداقة. وقد قال ماير هوفر (إنني لا أنسى أبداً الساعات الهنيئة التي قضيناها في هذا المسكن الحقير ولم يكن عندنا غير بيانو رديء ومكتبة فقيرة وأثاث حقير ونور ضئيل؛ وفضلاً عن ذلك فإني قضيت هناك أسعد أوقات حياتي): وجاء في خطاب لصديقه الحميم شوبر أرسله إليه في 2 نوفمبر سنة 1821: (وددت لو كنت معنا لتنظر كيف تولد هذه الألحان الشجية وهي تموج بالفكر. وغرفتنا في كانت محبوبة جداً، وبها سريران وصفه ومدفأ حار وبيانو؛ وكنا نأتي بالجعة ليلا وندخن ونتسامر فيما مر في النهار ونطالع؛ وحينما تحضر صوفي ونيفل نشرع في الغناء
كانت هذه الاجتماعات الفقيرة البريئة التي تجمع أصدقاء شوبرت وهم يمرحون ويتسامرون ويغنون مؤلفاته التي كان يرتجلها تعد من اسعد أوقاته وأعظم عزاء لبؤسه وشقائه وسط قومه الذين لا يفهمون موسيقاه الساحرة ولا يقدرونها
إننا نستطيع أن ميز في مؤلفات شوبرت عدة مجموعات غنية قيمة غير متساوية في القوة
أولاً: موسيقى البيانو - ثانياً: التربو والكواتوور والكنتيت، ثالثاً: السانفوني - رابعاً: المؤلفات المسرحية.
خامساً: أغاني لليدر. سادساً: الموسيقى الدينية.
إن موسيقاه للبيانو لجديرة بأن توضع في صف واحد مع شومان وشوبان وستيفن هيلير وهي تشمل السوناتات والفانتيزي وأي المرتجلة. وقد كتب عشر سوناتات أشهرها الست الأخيرة. ولا نزعم أنه جدد في الشكل شيئاً ولكنه بث فيها صفاته العادية من الحنان واسترساله في التأملات والخيالات الرقيقة العاطفية؛ وأهم ما كتب في السونات الخامسة. وهي من مقام لامينور. وأما القطع المسماة فهي تستحق ما نالته من الشهرة والذيوع، وفيها من المهارة الفنية السهلة مالا يوجد عند من سبقوه من كتاب قطع البيانو. ولكن بعض مواضيع منها يؤخذ عليها أنها عادية، وهذا يرجع إلى سرعة الكتابة والتلحين؛ ولكن بعض هذه الهنات لا تحجب فتنتها الساحرة. إن نظرنا إليها وجدناها كالماء الصافي العميق نشاهد في قراره كل الخصال الشريفة المحبوبة التي تختلج في روح شوبرت وهذا النوع يتفاوت في الأهمية والقيمة أما موسيقاه الخاصة بالآلات الوترية فانه أظهر في بعضها نبوغاً مدهشاً، ولو طال أجله لارتفع إلى ذروة الفن كبيتهوفن. وقد ابتدأ بكتب الكواتوور وهو في الرابعة عشرة وله منها عشرون؛ وكتب كثيراً من الثريو والكنتيت يعد بعضها من خير ما جادت به القرائح الجبارة، ولاسيما ما كتبه منها سنة 1824 وسنة 1826 وهما الكواتوور والذي من مقام سي مينور
ولقد ترك لنا شوبرت ثمانية سانفونيات الأولى كتبها وهو في السادسة عشرة وأهمها اثنتان التي من مقام أي دو سنة 1828 أو السنة التي مات فيها وقد هجرت في أول الأمر لصعوبة توقيعها ثم عثر عليها شومان في أوراق فردينان شوبرت وكان من المعجبين به. وقد أغدق عليها شومان من أنواع التقريظ ما شاءت له حماسته وقال أنها تكاد توضع في صف سانفوني بيتهوفن
الموسيقى المسرحية
كتب شوبرت ثمانية عشر مؤلفا للمسرح منها اثنان مفقودان، وواحد لم يتم، وأربعة منها أوبريت، واثنان موسيقى للمسرح وفيها كورس وفاتحات وانتراكت وميلودرام ورقص ويبقى بعد ذلك خمس أوبرات بالمعنى الصحيح، أهمها سنة 1822 وفيرا براس سنة 1823 وكل مهما ذات ثلاثة فصول. يتساءل الناس لمَ لمْ ينجح شيء من مؤلفات شوبرت المسرحية؟ لأنه لم يوهب الذوق المسرحي، وقد دهش منه ليزت إذ قال: (إن الذوق الأدبي الذي برهن عليه منذ صغره في اختياره لمتون الليدر قد فارقه وخانه في متون الأوبرات إذ كان يظهر له الغث والسخيف قيما حسنا، وكان يكتب له متون أوبيراته أصدقاؤه الذين لم يضربوا بسهم وافر في البيان ولهذه الاعتبارات لم تعش موسيقاه المسرحية
لقد نبغ شوبرت في موسيقى الغناء حتى صاغها بمعنى عميق من التعبير الصوتي؛ وقد كتب نحو خمسين نشيداً (كور) لأصوات الرجال وعشرين لأصوات مختلفة، ولكنه قبل كل شيء صاحب الصولجان في الليدر التي سبكها في نحو مائة شكل من التعبير إذ تناول جميع أنواع الشعر فلحنها على جميع أنواع الأوزان إذ عالج كل ما وقع في يده من الشعر الوجداني والقصص والدرام؛ ورغماً من مرونة عبقريته وسهولتها كان يسود على موسيقاه تعبيره الشخصي إذ كان الرجل الحساس في القرن الثامن عشر إن ليدر شوبرت تمثل كل صفات الإبداع والابتكار التي أوجدتها الطبيعة فلا تجد فيها شيئاً مصطنعاً لأنها ليست نتيجة الثقافة، ولم تتفتح في حدائق المدنية بل تفجرت كالسيل في محراب عميق بطبيعة لم تنتهك حرمتها؛ وترى موج الألحان يسيل منها كمنبع لا ينضب ماؤه. تتسرب موسيقاه إلى أعماق النفس فتهيمن عليها ويشعر الإنسان حينما ينصت إليها بتأثير لا يستطيع أن يثبت أمامه كما نفتتن بصباح جميل عليل النسيم من أيام الربيع وقد كسا الطبيعة بأبهى حلله وعطر الأرجاء بعبقه الشذي. وقد تناول في تلحينه ليدر جوت وشيليروهين وولتر سكوت وأوسيان وغيرهم من الشعراء
الموسيقى الدينية
يذكر الناس أن شوبرت عرفنا بحالته النفسية في خطابه الذي كتبه في يوليه سنة 1825 عندما لحن نشيد العذراء إذ قال: (لا يمكنني أن أتناول موضوعاً دينياً ما لم أشعر بالتقوى حينما تتملكني. ولم يكفه أنه أقتعد أرفع مكانة في الليدر والسانفوني وموسيقى الغرف بل أراد أن يثبت للجمهور مكانة لا تقل عنها رفعة في الموسيقى الدينية
وخلاصة القول أن شوبرت يعد من أكبر الشخصيات التي يشار إليها بالبنان في عالم الموسيقى. وقد اختطفته المنية وهو في نضرة شبابه أي في الواحدة والثلاثين؛ ولو عاش لجلس مع كبار النوابغ في صف واحد. وكأنه أحس بقصر عمره فطفق يسرع في إنتاجه بشكل أدهش الناس كما فصلنا ذلك في موضعه. وكان يتعزى في بؤسه وسوء حظه وسقمه بأصدقاء حميمين يحيون معه هذه الحفلات الفنية البريئة حتى ينسوه آلامه. وهناك كان يرتجل الليدر الشجية. تلقى دروسه الأولى بشكل ناقص لا يثمر ولكنه كان معلم نفسه. وكان أستاذه هولزر يبتدئ له بالقاعدة فيسبقه بتعريفها بإلهامه وذكائه فكان يقول له: (إنني لا أستطيع أن أفيدك شيئاً!) وقد وهب شاعرية موسيقية لم يوهبها غيره تفيض على تلحينه فتكسبه أرق العواطف وابلغ التعبيرات وأدق الأوصاف، هذا بخلاف رنة الحزن الحلوة التي تسود تلحينه وتصل إلى سويداء القلوب
كان طيب مرهف الحس محباً للخير لا يحسد غيره من كبار الموسيقيين بل كان يعجب بهم ويغبطهم؛ وكان محبوباً لدى الشعب قبل الأخوان. كانت موسيقاه في تقدم مطرد نحو الرقي والكمال بدليل أن مؤلفاته في سنيه الأخيرة كانت من أرقى ما كتب؛ ولو طال عمره قليلاً لأتى بالمعجزات والمدهشات
محمد كامل حجاج