مجلة الرسالة/العدد 257/بونا انطون
مجلة الرسالة/العدد 257/بونا انطون
الآنسة وداد سكاكيني
لما قرأت رواية (بونا انطون) للأستاذ كرم ملحم كرم لمست بخاطري
رواية نوتردام دو باري لشاعر الفرنسيس فيكتور هوجو، وخفق أمام
عيني مسرح الراهب كلود فرولو وقد ملأها الهواء فانتفخت حتى بدت
وراء ظهره كالقربة؛ تمثلته بالخيال يصعد عجلان سلالم الكنيسة، لا
حقاً بالرقصة الحسناء (ازميرالدا) ملحاً عليها بأن تحبه فيجثوا أمامها
ضارعاً لهيفاً، كما يجثو أمام المذبح في المعبد، ويناشدها الغرام الأثيم
ثم يقول لها: تخيري أحد أمرين: إما شهوتي العاتية وإما الموت
الزؤام، فاختارت الثاني فطوح بها هذا السفاح في مهاوي الردى وقد
اتهمها بالقتل، وما قتلت إلا يده الجانية وغيرته الطاغية فهو الذي طعن
حبيبها الأمير فوبوس من خلفه إذ كان إلى جنبها يناجيها في ليلة هادئة
مقمرة
ذكرت هذا كله حين قرأت رواية (بونا انطون) لنابغة القصة العربية في لبنان كرم ملحم كرم وقلت: بأبي الحق وأمي إن جاء من أهله! لقد كتب الأستاذ كرم روايته عن كاهن خبيث فصور لنا حياته الخفية التي لا يراها الناس، وعبر عن نزواته الصارخة واحتياله الوضيع بأسلوب رشيق أخاذ. لقد كان هذا الأب يغدو كل صباح إلى سيدة مهذبة فاضلة فيباركها ولا يكاد يقترب المساء حتى يهب في ديره إلى ارتداء قلنسوته ومسوحه فيمسح بيده طيباً، وينطلق إلى بيت السيدة التي سبته وسامتها وخلبته براعتها، فأصبح لها عاشقاً وامقاً، فيبارك عليها مرة وأخرى ويرمقها خلسة بعد خلسة بلحاظ لاهبة ذاهلة
كان هذا الكاهن يتابع زوراته واعظاً باسم الدين، ذئباً في صورة إنسان، حتى كشفت المرأة الذكية عن نيته وطويته، فإذا هو يحمل لها في قلبه حباً أقوى من حب روميو، ويكظم في نفسه شهوة لها أشد من شهوة كازانوفا؛ ولكن ماذا تفعل به وهي من المحصنات ولها زوج كريم؟ فصدته عن السوء، وكفته عما أخذ بأطرافه من مراودة عن نفسها، فلم يستعصم، وما يئس. وحين لم تستطع على جماحه كبحاً، أمرت الخادم أن لا تفتح الباب للكاهن. فلما أحس مقتها ونفوها، فار الدم في عروقه من الغيض وثارت في صدره وساوس الحقد والثأر، فآلى على نفسه أن يهدر سعادة المرأة الشريفة ويذيقها العذاب الأليم، فنصب لزوجها شراك الشر وشباك الضلال، بتسخير امرأة خليعة ما جنة تغريه بالمعصية وتغويه بالفجور، وقد ترضاها الكاهن بشفاعة وغفرانه فأذعنت له وصرفت الزوج عن امرأته وبيته، ثم عاود الكاهن زوراته لعل المحبوبة الأنوف تخفف من غلوائها وتفئ إلى حبه، فتبرمت به وهدمت بعفافها زهادته الكاذبة وتبتله الموهوم
هذا طرف من سياق الرواية الطريفة (بونا انطون) وهي رواية حافلة بالتحليل العميق والوصف الدقيق، وقد فاضت بالحياة الصاخبة ونضحت بالصراحة العارية. كل سطر فيها كالعرق النابض، وكل قارئ لها كالطبيب الحاذق يستطيع أن يعرف حالة عرق فيصف دواء الأخلاق المريضة
لما نشر الأستاذ كرم ملحم كرم روايته في بيروت قامت عليه قيامة رجل من رجال الكنيسة فأقام الدعوى على الأديب القصصي، وادعى فيها أنه هو المقصود بالأب انطون، واخذ يؤلب الحكام عليه ويسخر بعض الموتورين لذمة وتسفيه روايته واستهجان ما فيها، فذكرني مرة ثانية بما كان من أمر القصصيين الغربيين وكيف أقام عليهم الدعاوى أناس ظنوا أنهم هم المقصودون في القصص، ثم خرج كتابها أبرياء، ونفضوا عن أكتافهم غبار الأعداء، فطاح به الريح وأذراه في هبوبه وذاب رغاؤهم وزبدهم، وبقي القصاص وضاح الجبين مرهف القلم رفيع الهدف، لأنه هو الذي ينفع الناس، وهكذا خرج الأستاذ كرم ظافراً مغبراً في وجوه حساده وأعدائه، وبقيت روايته حية خالدة
إن القصة العربية آخذة في السمو والإشراق، ولا يمضي عليها ردح من الزمن حتى تسابق القصة الغربية وتماثلها قيمة ومقاماً؛ فالأقلام تمارسها بقوة ورغبة، والقراء يتقبلونها بشوق ولذة. ولا بدع إذا نهضت القصة والرواية في لبنان فان الأستاذ كرماً مهد السبيل لهذا الفن العريق فيه عهداً جديداً. وها إن المطبعة العربية في لبنان تزجي إلينا القصة أثر القصة، والرواية تلو الرواية، وقلم الأستاذ كرم لا ينقطع عن قرطاسه فما تقع عيناه على أحداث الحياة في لبنان وما جاوره من بلاد العرب حتى يستوحي جوها ويستنطق بيئتها، فيسبر غورها، ويبادر إلى تصويرها بما فيها من قلق واضطراب ونقص وإخفاق. وإن له من ثقافته الأدبية وتضلعه من اللغة العربية وفطرته في القصة معيناً لا ينضب. ومصداق القول قصصه العديدة الرائعة ورواياته، وآخرها (بونا انطون) التي كتبها على ضوء الفن والواقع والجرأة وخلع عليها أسلوبه الحر الصقيل، فنزهها عن مزالق اللهجة الصحافية والكلام الدخيل.
وداد سكاكيني