انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 256/لو كنت الرافعي!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 256/لو كنت الرافعي!

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1938



للأستاذ محمد احمد الغمراوي

كنت أقرأ بعض كتابات الرافعي رحمه الله في بعض أعداد الرسالة حركني إلى قراءتها أني وقعت على (وحي القلم) في مجلد واحد نسيه الأستاذ عزام عند الدكتور الدرديري في جمعية الشبان المسلمين، فأخذته أجيل الطرف فيه، وكان كتابي وحي القلم قد استعاره أخ لي فلم أقراه مجموعاً وإن قرأت أكثره متفرقاً في (الرسالة)

قرأت من تلك المقالات الحسان مقالة (دعابة إبليس) وقد ضحكت لبعض تصويره للمواقف ما لم أضحكه من زمن طويل، وسرني أن إبليس شغله الأوربيون يوم الأحد فترك الرافعي يكتب هذا المقال بعد أن ظل يحاوره ويداوره ويعاجزه حتى كاد يعجزه، لولا أن الأوربيين لم يتركوا له وقتاً يوم الأحد!

ورجعت إلى المنزل أردد هذا المقال في خاطري وأجد له تطبيقات وتوجيهات عندي. ومن ذا الذي لا يشاغله إبليس ويعاجزه فيما يروم وفيما يحاول؟ ومن ذا الذي لا يسخر منه إبليس إذ يخدعه المرة بعد المرة عن الشيء بعد الشيء بنفس الطريقة وبنفس النتيجة؟ ومن ذا الذي كلما خدعه إبليس مرة لم يزل يرجو ويؤمل أن تكون تلك آخر مرة ثم يقع في نفس الشرك الذي وقع فيه من قبل - وهو يعلم أنه قد وقع من قبل فيه - يستزله الشيطان بالأمل والرجاء حتى يقع؟. . . كلنا ذلك الرجل فليس فينا مثلاً من لم يخدع مرة بعد المرة عن صلاة العشاء وهو متعب لينام، أو لكي يؤديها بعد في جوف الليل فيجتمع له بذلك مع الفريضة التهجد، فينام ولا يقوم - إن نام - إلا بعد الفجر. وليس فينا من لم يخدع عن الفجر، بل عن الصبح بتسويفه القيام خمس دقائق يتذوق فيها في يقظته بقية الراحة التي كان يجدها في نومه أو ليهدأ فيها جسمه، أو ليجف فيها عرقه، فلا يستيقظ بعدها إلا عند طلوع الشمس. كلنا ذلك الرجل على اختلاف تجاربنا مع الشيطان. وللشيطان طريقته في خدع كل إنسان، لكنني لا أشك في أنه وإن اختلفت خدعه وطرائقه التي يستزل بها الناس،، لا يزال يسوي بينهم جميعاً في شيء واحد هو كره على الواحد منهم المرة بعد المرة بنفس الأسلوب وبنفس النتيجة؛ فإذا خطر لأحدهم في موقف وقفه من قبل أن هذا من الشيطان وأن الشيطان خدعه بهذا من قبل ففوت عليه غرضه، مهد له الشيطان سب الانخداع عن طريق الرجاء وأوقع في نفسه أنه إن يكن ما فاته في الماضي فأن ذلك لن يفوته هذه المرة فسيستيقظ أو سيكتب أو سيعمل عمله الذي ينوي، ولكن فقط بعد أن ينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ مما هو فيه من موقف في قصة أو في لعبة أو في حديث. فينام أو يهدأ أو يستريح أو يفرغ ولكن غالباً مع تفويت ما كان يمني به نفسه أن يعمله بعد النوم أو الهدوء أو الراحة أو الفراغ. وهكذا دواليك. وليس أعجب في العراك بين خصمين من هذا النوع من الخدع والانخداع بين الشيطان والإنسان، فلو وزن كيد الشيطان هذا بأي ميزان غير ميزان الإنسان لشال فيه أقبح الشيل. وما كان للشيطان أن يغلب الإنسان أبداً بهذا النوع من الكيد بادي الضعف لولا أن الإنسان يعين الشيطان على نفسه بتصديقه إياه فيما قد ثبت له بالتجربة أنه يكذبه فيه. وما أظن الحديث الشريف:) لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) إلا منظوراً فيه في باطن الأمر إلى سد هذا الباب من كيد الشيطان وهو أوسع أبواب كيده. ولكن ما أبعد الإنسان من الوجهة العلمية عن صفات الأيمان!

رجعت إلى المنزل ولمقال الرافعي هذا صدًى يتردد في قلبي وذهني. وكنت أجد في نفسي إعجاباً بطريقته في التصوير وحنكته في التعبير وغوصه في التفكير. وكانت طرفة الطرف عندي في ذلك المقال الطريف خاتمته حين اشتد عجب الرافعي من ترك إبليس إياه يوم الأحد، يوم عطلة الأوربيين كأنهم لم يتركوا له وقتاً! وهي مفاجأة لم يكن يتوقعها القارئ، تدل على لطف ما للرافعي من فن. وتصورته وهو يكتب جاهداً ليفرغ من مقاله قبل أن يسترد إبليس بعض وقته الذي استغرقه الأوربيون ذلك اليوم! وإذا كنا كلنا سواء في الانخداع لإبليس فلسنا كلنا سواء والرافعيُّ في عدم الإلقاء إلى إبليس باليدين وفي التيقظ له وانتهاز الفرصة منه إن لاحت كما انتهز هو انشغال إبليس بالأوربيين يوم الأحد فكتب - رحمة الله عليه - للرسالة ذلك المقال الطريف

دخلت النزل وفي النفس ميل إلى القراءة فذهبت إلى أعداد الرسالة أتلمس ما كتب الرافعي فيها. وقبضت منها قبضة فإذا بيدي الأعداد 131 إلى 140 فقرأت مقالة (اجتلاء العيد)، وكنت وأنا أقرأه أعجب لانثيال كريم المعاني على ذلك العقل، وانحياز نبيل العواطف إلى ذلك القلب، أو بالأحرى تجدد عجبي مما جمع الله الرافعي رحمه الله من حظ في عمق الفكرة ونبل العاطفة ودقة العبارة، وعجبت لبعض من لا يقدرون الرافعي كيف لم يقرءوا له، أو كيف وقد قرءوا ولم يقدروا ما كتب عن الطفولة يوم العيد في مقالة (اجتلاء العيد)

ثم أخذت في قراءة المقال الثاني من مقالات المشكلة، انظر إلى استخراجه معنى الغيب من كلام المصلح المنتظر، ونابغة القرن العشرين، وإذا بصوت أسمعه رفع عيني وأرهف أذني، وأصغيت أتسمع لذلك الصوت ولآخر يجيبه، ولم يستغرق الصوتان إلا هنيهة أرخيت بعدها جفني أتأمل رنين الصوتين في نفسي فوجدتها مهتزة بمعان شعرت أني لا أحسن تصويرها لو حاولت. فقلت: قضية ولا أبا أحسن لها. لو كنت الرافعي!

وكان الصوت ينادي: (ما - ما) وكان الذي يجيبه صوت أمه هبت من منامها تقول: (نعم - حاضر) وقد رشح الصوتان إلى من خلال الجدار

كان الصوت صوت أبني المريض قد تماثل للشفاء بحمد الله ينادي أمه لبعض شأنه، فكان جوابها ذينك اللفظين تفصل بينها لحظة. وكان أحد اللفظين جواباً على النداء الذي سمعت، والثاني على الطلب الذي لم أسمع؛ وكان حس حركة في الغرفة يشير إلى بقية الجواب. وكان للنداء والجواب وقع في نفسي وشجن لا عهد لي به. ولست أدري أهي الرقة التي يجدها الوالد لطفله المريض، أم هي روح الرافعي في ما قرأت وفي ما كنت أقرأ هيأت نفسي فازداد تأثرها بذينك الصوتين حتى جاشت لهما؛ لكن الذي أدريه أني لو كنت الرافعي في ساعتي الحاضرة لأخرجت للناس من خير ما أخرج لهم رحمة الله عليه في (وحي القلم)

محمد احمد الغمراوي