مجلة الرسالة/العدد 256/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 256/رسالة الفن
فرنتس شوبرت
للأستاذ محمد كامل حجاج
أتشرف بالتحدث اليوم إلى قراء الرسالة الأفاضل عن عبقرية نادرة ونابغة عالمي في الموسيقى وقد عرقه الشعب المصيري أكثر من غيره كبار الموسيقيين من كثرة عرض فلمه (السانفوني الناقصة) ولا يخفى عليكم أن السينما لا تتوخى الحقيقة دائما بل يتعمد الانحراف مبرراً موقفه ولو بأضعف الأسانيد المشكوك في صحتها إن كان في سردها ما يشوق النظارة أو يترك فيهم أثراً عنيفاً
ولد المترجم له في 31 يناير سنة 1797 على مقربة من فينا وعاجلته المنية في ربيعه الحادي والثلاثين أي سنة 1828 وقد ترك بعد هذه الحياة القصيرة كثيراً من مختلف أنواع التلحين إذ بلغت مؤلفاته في طبعه سنة 97 - 1885 أربعين مجلداً
ولع منذ نعومة أظفاره بالموسيقى فتلقى تعليمه الأول على ميشل هولزر وأخذ يدرس في الوقت نفسه البيانو وعدة آلات وتريه حتى أتقنها، وعهد إليه بدور الكمان الأولى في الأوركستر وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم تلقى دروس الأرموني على أورجانست البلاط الأمبراطوري وتلقى الغناء والتلحين على سالييري مؤلف أوبيرا داناييد
ولقد أحصى ما ألفه في سنة 1815 وكان في ربيعه الثامن عشر فوجد 6 مؤلفات للمسرح وقداسان وو (وهما نوعان من الموسيقى الدينية) و 12 و 8 و 10 تنويعات للبيانو و 2 من السانفوني و 4 سوناتات وأكثر من 130 من الأغاني المعروفة بالليدر فيكون المجموع 176 قطعة. وقد عال عنه بيتهوفن وهو على فراش الموت: (إن في هذا العقل لشرارة ربانية)
كان أبوه صاحب مدرسة وتزوج مرتين رزق فيهما من الأبناء والبنات ثمانية عشر. وإنه لمن الصعب أن يميز الإنسان أدوار حياة قصيرة؛ ولكننا نستطيع أن نعتبر منها تاريخين بلغ فيهما أعلى ذرى مجد وهما سنة 1819 التي ظهرت فيها قطعته المشهورة (شكوى الراعي) وسمعها الجمهور لأول مرة وحازت قبولاً عظيماً وعام 1821 إذ مثلت فيها (ملك الأون) وهي من أوبيراته الشائقة وقد غناها المغني المشهور ميكاييل فوجل، ومن هذ العهد ذاع صيته وملأ الآفاق. ولقد كان مثل موزار في ذكائه المشتعل في صباه المبكر، ويظهر أن القواعد الابتدائية للفن قد نقشتها الطبيعة في عقله فما كان منه إلا أن يشعر بتطلبات الظروف مثل مبادئ العقل والأخلاق
ولقد قال أستاذه هولزر: (بماذا أستطيع أن أفيده؟ إذ حينما أريد أن أعلمه شيئاً وجدته عالماً به من قبل). ولرخامة صوته وذكائه الموسيقي عين منشداً في كورس كنيسة الإمبراطور وانتظم في سلك طلبه المعهد الموسيقي الملحق بها إلى أن خرج منه سنة 1813، ثم جعله والده مساعداً له في مدرسته ولبث فيها ثلاثة أعوام ولما كثر المعجبون به أرادوا أن يعرفوه للناس فأرسلوا جانباً من الليدر التي كتبها إلى جوته ولكنه لم يرد عليهم، فلم ييأسوا وأرسلوها إلى المغني الشهير ميكاييل فوجل فدهش منها وطفق يحضرها ويغنيها
وفي سنة 1818 استدعاه الكونت استر هازي ليعلم ابنتيه فذهب إلى قصر بالمجر وقضى فيه الصيف في هناءة وسرور معجباً بتلميذتيه. إن أعظم المراجع التاريخية لم تذكر شيئاً عن غرام شوبرت بكارولين ابنة الكونت استر هازي والبعض قال: إن هذه الإشاعة مشكوك في صحتها إذ لم يؤيدها أحد وغاية الأمر إنهم استنتجوا هذه الإشاعة من عناوين بعض القطع كالوداع وغيرها
وفي نوفمبر سنة 1818 رجع إلى فينا ورفض متابعة التدريس وطرده والده، فأواه أصدقاءه وتدبرا له في شراء بيانو. فكان يستيقظ مبكراً ويبتدئ التلحين في الساعة السابعة صباحاً ويستمر إلى الأولى بعد الظهر في الخلاء أو في المدينة أو في نزهة أو في المقاهي، وكان يمضي السهرة كلها مع أصدقائه الحميمين مثل: وو وو وغيرهم. وكانت هذه الفئة من الموسيقيين والشعراء يصرفون الليل في إلقاء الشعر والغناء، ويشربون ويمرحون، وكانت كؤوس الجعة تدور طول ليلهم وفي بعض الأوقات يرقصون، وكانت حفلات الشباب هذه الأدبية يعيدها شوبرت إذ كان لها بمثابة الروح للجسد، وأطلق عليها أسم: (شوبرتياد)
وقال صديقه (كنا جميعاً أخوة أصدقاء) وكان شوبرت يحب أصدقاءه حباً جماً حتى أنه كان يسكن معهم ويشاطرهم ملابسه ونقوده. وكان يحب اجتماعات الفتيات ويرتاح لسمرهن ولكنه كان يتحاشى أن يقع في حبائل الحب أو يعكر صفوه وخياله بآلامه لأنه كان يطمح إلى الرقى لأعلى ذروة في الموسيقى
وفي أبريل سنة 1821 تعاون أصدقاؤه على طبع كراسة من الليدر في محل وكتب السانفوني التي من مقام وهي أعمق مؤلفاته. وقد حاول أن يقترب من بنبهوفن ولكن هيهات الوصول إليه
أصابه مرض شديد سنة 1823 فخاب رجاؤه وانقطعت آماله فقال في إحدى رسائله: (إني لأتعس وأشقى رجل في العالم، فتصور بائساً لا تعتدل صحته قط، وقد خابت آماله ولم تسبب له مسرات الحب والصداقة إلا المتاعب والآلام، ولا أدري إنساناً يفهم آلام أو سعادة مثيله. ويظن دائماً أن الواحد يتجه دائماً نحو الآخر وغاية الأمر أنهما يسيران جنباً إلى جنب، فيالعذاب من يشعر بهذه الحقيقة المرة المؤلمة
رفضوا له أوبيرتين وهما (المتأمرون) و (فيرابراس) ولكن الرحلة له التي قام بها مع المغني الشهير فوجل في النمسا العليا قد صادفت نجاحاً عظيماً
وبعد عودته كتب ليدر (الطحانة الجميلة) وفيها صورة حية ناطقة للآلام الإنسانية ولكن أوبيرا التي مثلت في 20 ديسمبر سنة 1823 وكان عليها إقبال عظيم لم تمثل إلا مرتين
ساورته الكآبة والحزن لتدهور صحته وفقره، ولسوء حظه ما كان يجد من يشتري تأليفه، ثم ذهب سنة 1824 إلى قصر الكونت استرهازي وقضى به فصلاً ثانياً وكان يبحث في مخيلته عن شيء يتعزى به وكان يتصنع السرور رغماً عن كآبته وآلامه، استمر في العمل ولم يهجر المسرح وقد ربطته عري الصداقة مع المغنية الشهيرة أناملدر هوبتمان وكانت تغني في مسرح (ملك بورسيا). ثم قام برحلة جديدة مع فوجل المغني ورجع ومعه عدة مخطوطات ثم أرسل إلى جوته كبير شعراء الألمان ثلاثاً من الليدر فلم يرد عليه وحاول أن ينال وظيفة الرئيس الثاني لكنيسة الملك فأخفق
(البقية في العدد القادم)
محمد كامل حجاج
عضو مؤتمر الموسيقى العربية