مجلة الرسالة/العدد 256/حول اقتراح وزارة المعارف
مجلة الرسالة/العدد 256/حول اقتراح وزارة المعارف
توحيد الثقافة العامة
ونريد بالثقافة العامة القدر المشترك من المعرفة بين النشء في طوري التعليم الابتدائي والثانوي. وهذا القدر أشبه بالغرار يطبع عليه آحاد الشعب فيتحدون بالهوى ويتفقون في الطبع ويتقاربون في الرأي ويتسايرون إلى غاية واحدة تتجه إليها القوى وتصلح عليها الجماعة. وهذا المثال أو المنوال فقدته مصر والعالم منذ اقتبسنا المناهج الحديثة في التعليم، والنظم الأوربية في الحكم فكان في كل قطر من أقطار الإسلام ثقافتان مختلفتان في الخطر والأثر، إحداهما تقوم على الدين المشروع والسنة الموروثة وما يتصل بها من خصائص الجنس وتقاليد الشرق وأساطير التاريخ، والأخرى تقوم على أساس سطحي من أدب الغرب ومدنيته وعقليته ونظمه. والثقافة الأولى غالبة لصدورها على الفطرة والعقيدة والوراثة والبيئة. أما الثانية فكانت لنبوها عن الطباع تنال العقول والقلوب في أناة ورفق، وتغزو الرسوم والأوضاع في حذر وحيطة، حتى تم للغرب فتح الشرق فنشر فيه حضارته وثقافته بالإيحاء والإغراء والقوة. وهناك أخذ التنازع بين هاتين الثقافتين يفعل في الحياة فعله، فغير الوجهة وعوق السير وشعَّب الرأي وشتت الوحدة؛ فلم يكن للقائمين على سياسة التعليم بد من الطب لهذه العلة تفادياً لما ظهر من سوء أثرها في سياسة الدولة وإنهاض الأمة
وهاهي ذي وزارة المعارف تفكر أخيراً في توحيد القالب الثقافي في المدارس المدنية والمعاهد الدينية على وضع لا تزال تفاصيله مجهولة، لأن الفكرة ما برحت تتردد بين دار الوزارة وإدارة الأزهر. فإذا عرضنا لها اليوم فإنما نعرض للأساس الذي لا يتغير في التفصيل ولا في الجملة:
ليس بسبيلنا أن نبحث في أي الثقافتين أدنى إلى الإصلاح وأولى بالأخذ، فإنا نؤمن بأن لقانون التطور حكماً لا يدفع، وأن للتلاقح الاجتماعي بين الحضارات والثقافات أثراً لا ينكر في تمدن الإنسان وتقدم العالم. ولكننا نعتقد أن تغليب التعليم المدني بمنهاجه الحاضر على التعليم الديني أمر لا يغب غير الضرر؛ فإن التعليم المدني لا يزال عاجزاً يتلمس طريقه المطموس بين الاضطراب والفوضى، لا يقف عند تقليد، ولا يطمئن إلى تجربة، ولا يستقر على نظام. وقد أسفرت أكلافه وجهوده مدى نصف قرن عن جيل مشياً الخلق مشوش العقل ناقص الكفاية مشكل الوضع، فلا هو قارئ ولا أمي، ولا هو شرقي ولا غربي، ولا هو ديِّن ولا ملحد. وقد وسمه كلُّ عمل بالعجز، ورماه كل مشروع بالفشل، فلم يستطع إلا بث الضجر في الناس، ونشر الفساد في المجتمع، وإشاعة السخط على الحياة.
وأما التعليم الديني فكان على جموده وقصوره أهدى سبيلاً إلى الإصلاح، وأرجى منفعة للأمة، فقد دأب دهره الطويل بثقف الأفئدة، ويقوّم الألسنة، ويزود أتباعه بالأسلحة المواضي لمحاربة الرذيلة والأمية، فيرجعون إلى قومهم في المدن والقرى والضياع يتغلغلون فيها تتغلغل النيل، فيرشدون الغوي، ويعلمون الجاهل، ويؤاسون المصاب، وينشرون ظلالاً من الدين والمعرفة والمدنية على حياة الفلاح فبسعد بالسلام والوئام والبركة، بينما تجد (الأفندية) يتسكعون على أفاريز الطرق، أو يتقمعون على موائد المقاهي، ينتظرون وظيفة يعيشون عليها، أو جريمة يدخلون فيها
على أن التعليم الديني ليس صالحاً كله، والتعليم المدني ليس فاسداً كله؛ وملاك الأمر هو مزج الخير في هذا إلى بالخير في ذاك، فيكون منهما قوام صالح تتماسك عليه الأخلاق وترتقي به المدارك. وليس في التعليم الأزهري خير إلا في عناصره الأساسية الثلاثة: الدين والعربية والشرقية. فاحتفظوا بها واجعلوا ما عداها درج الرياح. اجعلوها بعد تنقيتها وتقويتها أساساً للثقافة العامة، فإن في الدين رياضة الروح، وفي العربي ثقافة الشعور، وفي الشرقية سلامة الشخصية. ولا يضيرنا إذا قام التعليم على هذه الأسس الثلاثة أن يكون ما تتعلمه أوربياً محضاً لا أثر لعلومنا فيه، ولا صلة لكتبنا به
نريد أن تبسط (المعاهد) سلطانها على التعليم في هذه الأمور الثلاثة، ثم تعلن للمدارس إذعانها فيما عدا ذلك. ولا يتحقق هذا السلطان إلا إذا كان لمادتي الدين واللغة حظ موفور من منهج المدرسة وكفاية المدرس وعناية الوزارة
فإذا سار الأمر في تعليمهما على الوجه الذي يسير عليه في المدارس الابتدائية والثانوية، اضطربت القواعد في الجامعة الأزهرية وأصابها من وهن الأساس وتصدع الجوانب ما أصاب كلية الآداب في الجامعة المصرية، فتبنى على الرمل، وتعتمد على الخواء، وتكتفي بهذه العناوين الضخمة والألقاب الفخمة والمظاهر الخداعة، ثم لا نكون قد فعلنا أكثر من أننا عمدنا إلى نظام مستقر يفيد بعض الفائدة، فحولناه إلى نظام مضطرب يضر كل الضرر
هذه كلمة عجلى في المشروع لا في الموضوع كتبناها توطئة لما ستنشره الرسالة متى وقفت على قرار الرأي فيه