مجلة الرسالة/العدد 252/ليلى المريضة في العراق
مجلة الرسالة/العدد 252/ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
- 17 -
أمري إلى الحب!
أمري إلى الهوى!
بل أمري إلى الله الذي يقلب القلوب
كانت ليلتي في قطار البصرة ليلة شاتية وما كنت أخذت أُهبتي لمكافحة البرد في قطار البصرة، وهل كنت أعلم أن البرد في قطار البصرة له تواريخ؟
لقد عشت دهري مفتوناً بشبابي، لأني نشأت في أسرة كان أكثر رجالها من العماليق
وكذلك يزين لي الفتون أن أمتطي قطار البصرة في ليلة شاتية بلا غطاء
دخلت البصرة محموماً، دخلتها أهذي هذيان المحمومين
ولكني تذكرت فجأة أن سعادة السيد عبد الجبار الراوي حاكم الحلة كان كلفني تبليغ التحية إلى سعادة الدكتور عبد الحميد الطوخي مدير الصحة بالبصرة، وتذكرت أن هذا الطبيب مصري صقله العراق، وأنا على كل حال أحب المصريين، فقد شاع في بقاع الأرض أني مصري، ومن واجبي أن أحب مصر وفاءً أو رياءً.
ذهبت محموماً للتسليم على هذا الطبيب فكاد يطير من الفرح بلقائي. فقلت له: هون عليك، فما جئت إلا لأبلغك تحية حاكم الحلة، الحلة الجميلة التي تشبه شبين الكوم حاضرة المنوفية
وما هي إلا لحظة حتى نقلني هذا الطبيب إلى حاكم البصرة، والى مدير المعارف بالبصرة، وكان اليوم كله طوافاً بما في البصرة من غرائب وأعاجيب
وعند الغروب لقيني الدكتور عبد المجيد القصاب فقال: ارجع بنا إلى بغداد. فقلت: لا أستطيع. فقال: إنك ستلقي كلمة مصر في تأبين المغفور له ياسين باشا الهاشمي، واسمك في منهج الاحتفال
فقلت: أعرف ذلك، وأفهم قيمة الشرف الذي أظفر به في حفلة يخطب فيها فخامة رئيس الوزراء، وفخامة نوري باشا السعيد ولكني محموم، وما أستطيع أن أعاقر البرد في قطار البصرة ليلتين متواليتين وأرسلت برقية اعتذار، وأويت إلى فراشي بالفندق أعاني الغربة والمرض والحب. وشاع في البصرة أني مريض، فتفضل حاكم البصرة ومر بالفندق فترك لي كلمة عطف، وتفضل مدير الصحة بعيادتي فأزعجه حالي
وفي الصباح أفقت، فكان أكبر همي أن أزور قبر أستاذي في التصوف، مولاي الحسن البصري، ولكن كيف؟ لقد قضيت ليلتي محموماً وقضت السماء ليلها في بكاء
وأويت مرة ثانية إلى الفراش لأن المطر جعل ذهابي لزيارة قبر الحسن البصري غرضاً عزيز المنال
وطلبت الجرائد لأتلهى بها فرأيت في جريدة (الناس) وجريدة (الثغر) أنى سألقي محاضرة بنادي البصرة، فذهبت في الموعد وتكلمت نحو خمسين دقيقة عن ماضي البصرة، ثم مضيت إلى الفندق فأخذت أمتعتي لأعاقر البرد من جديد في طريقي إلى بغداد
هل يعرف قارئ هذه المذكرات كيف يشقى من يقضي ثلاث عشرة ساعة في القطار وهو محموم؟
علم ذلك عند الأستاذ النبيل الذي يدير إحدى المدارس في بغداد فقد أخرج ما في حقائبه من أغطية وملابس وألقاها فوق جسمي لأنجو من البرد الذي قتل أخانا أبا الدرداء
صرعني البرد في الذهاب والإياب، وأضرعتني الحمى فلم أدخل بغداد إلا وشفتي يزينها عقبول، والعقبول هو التشقق الذي يصيب الشفاه من وهج الحمى، ومنه جاءت عقابيل الحب، وكذلك اجتمعت العقابيل في قلبي وشفتي، وهو أول حادث يقع في التاريخ
كان هذا العقبول مزعجاً، فقد كان كل من يراني يحسب أني أصبت بأخت بغداد؛ ولو صح ما حسبوا لكانت نكبة، فأخت بغداد إذا أصابت الشفة كانت نذيراً بالحرمان من جميع أخوات بغداد
ومن أجل هذا العقبول حبست نفسي في المنزل أسبوعين قضيتهما في إنجاز كتاب (عبقرية الشريف الرضي)
ولكن هذا الحبس كانت له أيضاً عقابيل، فقد اشتغلت بالسياسة العراقية مع أني طلقت السياسة المصرية منذ أعوام طوال
وتفصيل ذلك أن مجلس النواب كان يستعد لدرس معاهدة الحدود بين العراق وإيران، وكان شط العرب محور النزاع، شط العرب الذي تغنيت به في البصرة ونشرت ثنائي عليه جريدة البلاد
كان العراق في فورة، وكنت في فورة، وما أشقى من يضطرم صدره تحت سماء العراق!
ومضيت إلى رئيس الكتاب بالمجلس النيابي، وهو صديق عزيز، فطلبت تذكرة لحضور تلك الجلسة التاريخية. وكنت أول من دخل شرفة المجلس في ذلك اليوم، فهالني أن أرى خريطة شط العرب مرقومة بالطباشير على لوحة سوداء
كان الجو كله دخاناً في دخان، وكنت أكاد أختنق
ثم وقف وزير الخارجية يخطب، وما كان أروعه في ذلك اليوم، فقد بدد ما ران على صدري من ظلمات
وتدفق الخطباء بين معارض وموافق، وكانت جلسة برلمانية حقاً وصدقاً. كانت جلسة صريحة أبدى فيها النواب آراءهم بألفاظ لا مداورة فيها ولا التواء
خطب وزير الخارجية خطبتين في ذلك اليوم وكان بالتأكيد أشجع الخطباء، ولن أنسى أنه قال: كان في يقيني أن أقترح جعل هذه الجلسة سرية، ثم رأيت أن تكون علنية ليرى الجمهور بعينه أن الحكومة حريصة على أرض الوطن كل الحرص
وسألت أحد الصحفيين عن هذا الرجل فقال: أما تعرفه؟ هذا زميلك
فقلت: وكيف كان زميلي؟
فقال: هو سوربوني مثلك، هذا توفيق باشا السويدي خريج السوربون!
السوربون! السوربون!
رعى الله عهدي يوم كنت أجول فيها وأصول!
خرجت من مجلس النواب منشرح الصدر. ولقيني أحد النواب فقال: كيف رأيت؟ فأجبت: رأيت وجه الحق. ولكن آذاني أن تكون حجة الموافقين على معاهدة الحدود مقصورة على أن إيران جارة عزيزة. فما الذي كان يضيركم لو قلتم إن إيران أمة إسلامية، وإن المسلمين يجب أن يتسامح بعضهم مع بعض، نحن مسئولون عن الأخوة الإسلامية أما الله وأما التاريخ. مسئولون أمام الله الذي يكره أن يبغي المسلمون بعضهم على بعض، ومسئولون أمام الماضي الجميل الذي تعاونت فيه الأمة العربية والأمة الفارسية فأنجبتا أشرف ذخيرة من ذخائر الأدب والتشريع. إن العداوة بين العرب والفرس أجج جذوتها ناس من الأدباء، فما الذي يمنع من أن يقوم فريق من الأدباء المصلحين فيخلقوا الحب بين ايران والعراق؟
إن فرنسا لها مدرسة لنشر اللغة الفرنسية في إيران
فما الذي يمنع أن تقوم الحكومة المصرية أو الحكومة العراقية بإنشاء مدرسة لنشر اللغة العربية في إيران؟
حدق النائب في وجهي طويلاً وقال: هذا رأي وجيه، ولكن الظروف. . .
فقلت: أي ظروف؟ إن أوربا يسرها أن نتمزق. وهي قد استطاعت بالفعل أن تؤلب المسلمين بعضهم على بعض وأن تضرب العرب بعضهم ببعض. وإذا استمر الحال كذلك ربع قرن فلن تجد من يرد عليك السلام في مصر، ولن أجد من يرد علي السلام في العراق
الحمد لله. تم الصفاء بين إيران والعراق، ومرت معاهدة الحدود بسلام، والله المسئول عن هداية العرب والمسلمين
ولكن شط العرب الذي عجز عن تكدير السلام بين العراق وإيران استطاع أن يكدر السلام بيني وبين ليلاي
كنت انقطعت عن زيارة ليلى إلى أن يذهب العقبول الذي شوه شفتي، فاستوحشت ليلى لغيابي، وأرسلت ظمياء للسؤال عني، فطار بي إليها الشوق، فلما وقع بصرها على شفتي قالت:
ما هذا الذي بشفتك؟
فأجبت: هذا عقبول
فقالت: أما آن لك أن تتوب؟
فقلت: ماذا تعنين؟
فأجابت: ما هذا عقبولاً يا حضرة الدكتور
فقلت: وما هو؟
فأجابت في سخرية: هذه عضة سمكة من أسماك شط العرب!
فأقسمت بالله والحب أنني ما حاولت الصيد في شط العرب حتى تعضني السمكات
وطالت اللجاجة بيني وبين ليلى، وحملني الغضب على أن أقول: اسمعي، أنا مستعد لما هو أخطر من ذلك
فقالت: إيش لون؟
فقلت: أنا مستعد لتقبيل ثغر الحية
فقالت وعيناها تقذفان بالشرر المتوقد: لن تقبل ثغر الحية.
فانزعجت وعرفت أنه وعيد
وانقضت السهرة في كلام تافه، وعند الانصراف لم تسألني ليلى متى أرجع؟
آه، ثم آه!
كانت ظمياء خدعتني حين قالت إنها وصلت مع ليلى إلى القاهرة في آذار شهر الأزهار والرياحين، فقد عرفت أن آذار القاهرة غير آذار بغداد. عرفت بالتجربة أن العراقيين على حق حين يحكمون بأن (آذار، شهر الزوابع والأمطار) فقد قضيت هذا الشهر في كروب وأحزان
ولكن أي كروب وأي أحزان؟
كنت أذهب لتأدية الدروس في الصباح، وكنت أذهب بعد العصر إلى المطابع لأصحح تجارب كتابي، ثم ارجع قبيل المغرب إلى البيت لأعاني وحشة الليل، الليل الهائل، ليل بغداد
وزاد الكرب أني انقطعت انقطاعاً تاماً عن المصريين والعراقيين
انقطعت عن المصريين للسبب الذي شرحته في كتاب (ذكريات باريس) وهو سبب يؤذيني أن أسجله مرة ثانية في هذه المذكرات، وأنا في الواقع أنسى مصر حين أفارق مصر، لأني أفهم أن مصر حين ترسلني إلى باريس أو بغداد لا تريد إلا أن أفهم باريس أو بغداد. ومصر لا تلعب، فهي تحب لأبنائها أن يفهموا روح الغرب وروح الشرق، وأنا فيما أزعم مصري تحبه مصر، وإن كانت لا تلقاني بغير العبوس
وانقطعت عن العراقيين لأن حسابي عندهم أثقل من الجبال. ولن أنسى السهرة التي قضيتها في منزل السيد محمد حسين الشبيبي فقد قضيت ثلاث ساعات وأنا أتدفق كالسيل دفاعاً عن الآراء التي أذعتها في مؤلفاتي، وآذاني ذلك الجهد فمرضت يومين
أين أذهب؟ لا أدري أين أذهب كنت أدخر ليلى لأيام الشقاء، وهي الآن في تغضب وتعتب.
كانت ليلى تقول حين أهم بالخروج: فراقك صعب سيدي،
وهي اليوم لا تقول شيئاً من ذلك ولا تسأل متى أرجع
كانت ليلى تقول: (ليش ما جيت عندنا من زمان يا دكتور؟)
وهي اليوم تسأل فيما أظن - وبعض الظن إثم - متى أرحل عن بغداد
عافاك الله يا ليلى وأسبغ عليك نعمة العافية!
تباركت يا ربي وتعاليت
فما عانيت في حياتي بلاء إلا رأيت ما يصحبه من محمود العواقب.
فبفضل تغضب ليلى وتعتبها عرفت سراً من اغرب الأسرار، عرفت كيف ظل العراقيون أكثر من ثلاثمائة سنة يغنون هذين البيتين:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
أباها عليّ الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
لقد هدني غضب ليلى فلم أعد أعرف للحياة أي مذاق، وجزعت على ما صرت إليه أشد الجزع، فهذا الربيع يفيض على أرجاء العراق أرواح الابتهاج والانشراح، وقلبي وحده يعيش بلا ربيع
وجاء (نيسان، شهر الزيادة والنقصان) فلم يهش له قلبي، وبقيت أعاني ألم الوحشة والانفراد
كنت أستطيع غشيان بعض الملاهي لأنسى همومي وما في ذلك ما يضيرني، فقد كان السيد جمال الدين الأفغاني يجلس في قهوة متاتيا بالقاهرة يوم كان الجلوس في مثل تلك القهوة شيئاً غير لائق، وكان يقول: من حق الفيلسوف أن يجلس في قهوة متاتيا، وأنا دكتور في الفلسفة ومن حقي أن أجلس في قهوة متاتيون!
ولكن ملاهي بغداد فيها أغانٍ وألحان، وقد صرت بعد غضب ليلى مرهف الحس إلى حد مفزع، وأخشى أن أسمع الغناء مع الناس فتفضحني عندهم دموعي
وكان يتفق أن أسمع المذياع من حين إلى حين فأتوهمه يدمدم:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح ومن غريب ما وقع أن غضب ليلى قوبل بعوض مزعج هو كرم أهل العراق
كنت أدخل المطاعم للغداء أو للعشاء فأجد من يدفع عني من حيث لا أعرف. وكثر ذلك حتى أضجرني، وما كنت بخيلاً حتى أنكر الكرم، ولكن قلبي كان يهتف بقول الزميل القديم:
آل ليلى إن ضيفكُم ... واجد بالحي مذ نزلا
أمكِنوه من ثَنِيَّها ... لم يرد خمراً ولا عسلا
وفي حومة من هذه الحرب الوجدانية سمعت أن جماعة من الأطباء كتبوا يشكونني إلى الجمعية الطبية المصرية، وهم يزعمون أنني حنثت في اليمين، فقد أقسمت كما أقسموا ألا أفشي سراً لمريض، ولو كانوا يعقلون لعرفوا أن مرض ليلى أصبح معضلة دولية، ولكن هل يعقل من في قلوبهم مرض؟
آه ثم آه من حقد الزملاء
لم تسألني ليلى متى أرجع، ولكن لابد أن أرجع
وهل هنت على نفسي إلى هذا الحد؟
ما هنت على نفسي. فقد رعاني الله فعشت طول حياتي عزيزاً، ولكن هذه فرصة أختبر فيها أخلاقي. هذه فرصة ثمينة قد لا تعود. إن ليلى تحقد علي، وتتهمني بخيانة الحب، ومن واجبي نحو الأخلاق أن أرحم من يرتاب في أخلاقي، فما ارتاب في أخلاقي غير الضعفاء والمساكين
ولكن ليلى لها تاريخ، وأشقى الناس من يعشق امرأة لها تاريخ
وتاريخ ليلى ابتدأ في القاهرة واستفحل في بغداد، ومن الواجب أن أكون على بينة من تفاصيل ذلك التاريخ، وعلم ذلك عند ظمياء
- إيش لونك يا دكتور!
- أعاني ظلام الحب وظلام الليل، وإيش لون ليلى؟
- استراحت لمكايدتك فدبت في روحها العافية
- وكذلك أبني الأصدقاء ليهدموني يا ظمياء
- لا تندم على ما صنعت من جميل - سمعت وأطعت يا بنيتي الغالية، ولكن أحب أن نرجع إلى حديث ليلى مع الضابط عبد الحسيب
فانشرح صدر ظمياء وأخذت تقول. . .
(للحديث شجون)
زكي مبارك