انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 252/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 252/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 28 -

(قرأت كلمة الأستاذ سيد قطب (بين العقاد والرافعي) في العدد السالف من الرسالة؛ وأنا أعمل الآن عمل المؤرخ لحياة قد استأثر بها التاريخ، والأستاذ قطب يريد أن يكون ناقداً، وفي مذهبه أنه (لا يصح أن يكون الموت معطلاً للنقد). . . وفي مذهبنا أنه لا ينبغي أن يكون بيني وبينه جدال يعطل التاريخ؛ ومع ذلك فإن ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا. ولقد مات الرافعي ولكنه خلف طائفة كريمة من الأدباء، كلهم أمين على أدبه حريص على تراثه؛ فلا جرم أن يتولى تزييف هذا النقد أو تعديله رجل غيري ممن خلف الرافعي لهم أدبه أمناء عليه، لأفرغ لما أنا فيه؛ فلينتدب له صديقنا (الأستاذ محمود محمد شاكر)، فتلك من أمانات الرافعي في عنقه)

العريان

الملاح التائه

بعد ما أنشأ الرافعي مقالة (وحي الهجرة في نفسي) للعدد الممتاز من الرسالة في سنة 1353هـ، أهدى إليه الشاعر المهندس علي محمود طه ديوانه (الملاح التائه)، وأحسبه طلب إليه أن يكتب عنه. وكان بين الرافعي والشاعر المهندس صلة قديمة من الود، أظنها نشأت في حجرة الأستاذ فؤاد صروف محرر المقتطف، حيث كان الرافعي يقضي أكثر أوقات فراغه كلما هبط إلى القاهرة لعمل من أعماله. وهناك كان يلتقي الرافعي، وصروف وإسماعيل مظهر، ومحمود شاكر، والمعلوف، وغيرهم من أدباء العربية، فيحتدم الجدل ساعات في موضوعات شتى من الأدب. ولم يكن للرافعي ندوة أدبية يقصد إليها كلما جاء القاهرة منذ هجر فلانة - أحب إليه من دار المقتطف، ثم صار له ندوة ثانية من بعد حين اتصل سببه بالرسالة؛ فكان يقضي وقته بين عيادة الدكتور شخاشيري في فم الخليج، وعبد القادر حمزة والمازني في البلاغ، وإخوان صروف في المقتطف، والزيات في دار الرسالة. ولم يلتق إلا مرة أو مرتين بالأستاذ أحمد أمين والدكتور عزام في لجنة التأليف والترجمة والنشر، عندما كانت اللجنة قائمة على طبع كتابه وحي القلم

قلت: إنه كانت بين الرافعي والشاعر علي محمود طه صلة من الود، ومنها أن الشاعر المهندس وضع له رسماً (تصميماً) للبيت الذي كان في نيته أن يبنيه لينتقل إليه وينقل دار كتبه قبل أن يموت. ولهذا البيت قصة لم تتم، لأن هذا البيت لم يتم. .، فقد كان كل ما ادخره الرافعي من جهاده بضعاً وثلاثين سنة بضع مئات من الجنيهات، اشترى بنصفها قراريط لينشئ فيها حديقة وبيتاً يسكنه - إذ كان ومازال إلى أن مات يسكن بيت أبيه - وبقي معه بعد ذلك قدر من المال لا يكفي نفقات البناء والإنشاء، فآثر أن ينتظر حتى يجتمع إليه شيء، وأسلف صهره ما بقي عنده من المال إلى أجل، وفي النفس أمل. . . ثم. . . ثم جاءت الأزمة فأكلت ثروة صهره جميعها لم تبق منها على شيء، وضاعت ذخيرة الرافعي فيما ضاع ولم يستطع المدين وفاء الدين، فلم يبق للرافعي من جهاده وما ادخر إلا الأرض الخربة، والأمل في عطف الله، وخطوط تبين حدود البيت وحجراته وأبهاءه وحديقته، مرسومة على ورقة زرقاء. . .!

وجاءه ديوان الشاعر علي محمود طه، وديوان الماحي؛ فدفعهما إلي لأختار له ما يقرأ من كليهما. ولم أكن عرف يومئذ ما بينه وبين الشاعر المهندس، ولكن رأيي في ديوانه وافق هواه؛ فما فرغت من قراءته حتى دفعته إليه وعلى هامشه إشارات بالقلم، وما دفعته إليه حتى تهيأ للكتابة عنه. . .

وأنشأ مقالة مسهبة نشرها في المقطم، تحدث فيها عن الشعر حديثاً يبين مذهبه وطريقته في فهم الشعر وفي إنشائه؛ ثم انثنى إلى الشاعر المهندس يمدح ويثني، وينتقد وينصح. . . وكان مؤمناً بما كتب، ولكن إيحاءات من الواعية الباطنة كانت تملي عليه بعض الحديث في التعريض ببعض الشعراء المعاصرين. . .

وتناول الأستاذ المازني ديوان (الملاح التائه) في البلاغ بعدما تناوله الرافعي، فعاب عليه أشياء كان يمتدحها الرافعي، وأخذ على الشاعر أنه كثير العناية باللفظ والعبارة وجزالة الأسلوب؛ فكانت مقالة الأستاذ المازني حافزة للرافعي على أن ينشئ مقالة للرسالة في الرد عليه، جعل عنوانها (الصحافة لا تجني على الأدب ولكن على فنيته)؛ فبهذه المقالة كان الرافعي يقصد الأستاذ المازني، دفاعاً عن صديقه الشاعر، أو دفاعاً عن مذهبه في الشعر. وكانت هذه أولى مقالات الرافعي في الرسالة بعد فترة من مقالة (وحي الهجرة) وقد أنشأها على نهجه القديم، وحاول فيها فناً من التهكم في قصة اخترعها عن الأصمعي الراوية في عهد الرشيد

في الرسالة

كان الرافعي مفتوناُ بمقالاته الثلاث التي أنشأها في هذه الفترة: البلاغة النبوية، وحقيقة المسلم، ووحي الهجرة. وكان حسن وقعها عند كثير من القراء حافزاً له على الاستمرار في هذا الباب من الأدب الديني، فعقد النية على أن يكتب السيرة النبوية كلها على هذا النسق الفلسفي، ليجعلها كتاباً بعنوانه، يتناول سيرة النبي المعظم - - على طريقة من التحليل والفلسفة، لا على نسق من الرواية. فأنشأ بعد ذلك مقالاته: (سمو الفقر)، و (الإنسانية العليا)، ثم بان له من بعد أن هذا الفن من الإنشاء عسر الهضم عند كثير من قراء الرسالة، فتركه إلى موضوعات أخرى يعالج بها بعض مشاكل الاجتماع في الحياة المصرية، على أن يكتب ما يتيسر له من المقالات النبوية نجوماً في فترات متباعدة حتى لا يمل قراءه أو يثقل عليهم. وسأتحدث من بعد عن كل مقال من المقالات التي أنشأها للرسالة في الفترة التي صحبته فيها، لعل ذلك يعين على فهم أدب الرجل ودوافعه ومعانيه؛ ولعله يبلغ بي الوسيلة إلى الذين لا يفهمون أدب الرافعي ثم يحاولون أن يتحدثوا عن أدب الطبع وأدب الذهن، أو الأدب الفني والأدب النفسي. . .

ولكن علي قبل أن أبدأ هذا الحديث، أن أصف الرافعي حين يهم بموضوعه، ثم حين يفكر فيه، ثم حين يتهيأ لكتابته، ثم حين يمليه علي من القصاصات المبعثرة على مكتبه، فإن ذلك من الموضوع فاتحته وأوله:

اختيار الموضوع كان أول عمل يحتفل له الرافعي؛ وإذ كان لم يعمل في الصحافة قبل اشتغاله بالرسالة، فإنه لم يتعود من قبل أن يفتش عن الموضوع؛ ولم يكن يحاول الكتابة إلا أن يدفعه إلى الكتابة دافع يجده في نفسه قبل أن يطلبه؛ فلما دعاه الزيات ليكتب للرسالة موضوعاً كل أسبوع، راح يلتمس الموضوعات التي تصلح أن يكتب فيها للرسالة. وكان يضيق بذلك ويتحير، ثم لم يلبث أن تعودها، فكان يرسل عينة وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة، ثم يختار موضوعه مما يرى ويسمع ويشاهد ويحس، ثم لا يبدأ أن يجمع له فكره ويهيئ عناصره إلا أن يجد له صدى في نفسه، وحديثاً في فكره، وانفعالاً في باطنه. وكثيراً ما كان يعرض له أكثر من موضوع؛ وكثيراً ما كان يرتج عليه فلا يجد موضوعه إلا في اللحظة الأخيرة، واللحظة الأخيرة عنده قبل موعد إرسال المقال بثلاثة أيام!

فمن ذلك، ومن خشية الارتاج والحرج، كان دائماً في جيبه ورقات، يكتب في إحداها عنوان كل ما يخطر له من موضوعات الأدب، ليعود إليها عند الحاجة؛ ويتخذ الورقات الباقية مذكرة يقيد فيها الخواطر التي تتفق له في أي من هذه الموضوعات أين يكون. وبلغ بذلك أن يجتمع عنده في النهاية ثبت حافل بعناوين مقالات لم يكتبها ولم يفرغ لها باله، وورقات أخرى حاشدة بخواطر ومعان شتى في أكثر من موضوع واحد، لا تربط بينها رابطة في المعنى ولا في الموضوع. ومن هذه الورقات، ومن فضلات المعاني في المقالات التي كتبها وفرغ منها - كان يختار (كلمة وكليمة) التي كان ينشرها في فترات متباعدة من الرسالة كلما وجد حاجة إلى الراحة من عناء الكتابة. فهذه الكلمات هي إحدى ثلاث: خواطر مبعثرة كان يلقاها في غير وقتها، أو عناوين موضوعات لم تتهيأ له الفرصة لكتابتها، أو فتات من مقالات كتبها وفرغ منها وبقيت عنده هذه المعاني بعد تمام الكتابة إذ لم بجد لها موضعاً مما كتب

وبسبب أنه كان يقيد عناوين الموضوعات التي كان يختارها ليكتبها في وقتها، كان يعد قراءه أحياناً بموضوعات ثم لا يكتبها ولا يفي بما وعد، لأنه لا يملك منها إلا عنواناً في ورقة بيضاء؛ ومن ذلك مقالة (الزبال الفيلسوف) التي وعد أن يكتبها حين أنشأ للرسالة قصة (بنت الباشا) ثم مضت ثلاثة أعوام ووافاه الأجل وما تزال مقالة الزبال عنواناً في رأس ورقة تحته نثار من الخواطر والمعاني التي كان يدخرها إلى يومها المؤمل!

ولقد وجدت على مكتبه في طنطا غداة نعيه كثيراُ من هذه الورقات، تشير إلى كثير من أمل الأحياء والى كثير من خداع الحياة. . .! فإذا تم له اختيار الموضوع الذي يتهيأ لكتابته، تركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته؛ ويدعه كذلك وقتاً ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في كل موجود يراه صوتاً يسمعه، وكأن في كل ما يسمعه لوناً يراه، وكأن في كل شيء شيئاً زائداً على حقيقته يملي عليه معنى أو رأياً أو فكرة. . .

فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف - والقدر الكافي لتجتمع له هذه الخواطر هو يومان أو ثلاثة - يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى، وجملة الىجملة، ورأياً إلى رأي. فهذه هي الخطوط الأولى من هيكل المقالة

ثم هو يعود بعد ذلك إلى هذه الخواطر المرتبة - بعد أن ينفي عنها من الفضول ما يدخره لـ (كلمة وكليمة) أو لموضوع آخر - فينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا: يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، ويتفطر له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها

إلى هنا يكون قد انتهى عمل الذهن، وعمل النفس، ويبقى عمل الفن والصناعة لتخرج مقالة الرافعي إلى القراء في قالبها الأخير الذي يطالع به الأدباء. . . وبيني وبين القراء ميعاد. . .

(شبرا)

محمد سعيد العريان