مجلة الرسالة/العدد 251/الرئيس الوزير إدوار هريو
مجلة الرسالة/العدد 251/الرئيس الوزير إدوار هريو
رجل الأدب
بمناسبة زيارته لمصر
للأستاذ عبد العزيز عزت
هناك ثالوث من المعارف لا تنفصم أجزاؤه، إذا تحقق في رجل كانت له صفة الإنسانية الخالدة! هذا الثالوث هو الفلسفة والسياسة والأدب؛ ذلك لأن الفلسفة تصقل الفكر إلى درجة يرتفع بها عن اضطراب مفردات الوجود الجزئية، إلى نوع من التجريد العقلي تنفذ به القريحة إلى صميم الأصول التي تحدد الأشياء في جوهرها الدائم، واقعية كانت أم فرضية. والسياسة ضرب من المعرفة أخطأ مكيافللي في تعريفها حين قال: (إنها وسيلة للكذب والخداع)؛ لأنها عند المفكر الأول للبشرية أفلاطون الإلهي - إذ استعرنا لغة الفارابي -: هي وسيلة لتحقيق منطق العالم في مجال عالم الاجتماع الإنساني، فيسوده نوع من الانسجام يوجب استقرار النظام فيه؛ وتتحقق فيه (ذروة) الكمال فتستقيم حياة الإنسان. لهذا كانت السياسة هي بيت القصيد في فلسفة أفلاطون، وكانت (المدينة) كنظام اجتماعي - إذا استعرنا لغة فستيل دي كولانج - هي المحور الأساسي الذي تدور حوله فلسفات الإغريق في العهد القديم. والأدب، يكفي لتعريفه أن يلقي القارئ نظرة إلى جدول موضوعاته في مؤخر كتاب العلامة الكبير لانسون عن (الأدب الفرنسي) ليرى انفهاق نواحيه والتي في صلبها الفلسفة والسياسة؛ وذلك لأن الأديب يجب أن يعيش لتحقيق فكرة معينة في مجتمع معين، وتأكيد مذهب ونزعة واضحة في الفكر لا يحيد عن دعمها مرة واحدة في بلد من البلاد، وإلا كان قلمه رخيصاً لا قيمة لما يسطره في أسواق الأدب الرفيع؛ لأن الأدب إذا قام على العجز في الإبصار والإدراك بمعنى أن يذهب الأديب إلى ترديد (الماضي) دون أن تدفع به عين التفكير في حركتها إلى الأمام، كان أدبه مستذلاً تسوده النزعة التاريخية، لا يبصر قارئوه أبعد من أنوفهم؛ وإذا نظروا خلال ذلك الأدب لن يروا أمامهم إلا سراباً. وثانياً ينتاب هذا الأدب العجز في الإدراك بمعنى انعدام الخلق الوطني فيه، بأن يعمد واضعوه إلى تقليد الأجانب في أدبهم معتمدين في ذلك على الترجمة والاقتباس، فيكون بذلك أدبا (فردياً) كله المحاكاة والتنافر مع أول احساسات أهل الوطن، لأن الأدب كأساس نتاج فكري يتعلق بالمشاعر والعواطف، فهو خاص له لون معين يشتق من طبائع الأمم وميزاتها. (اقرأ كتاب فكتور هوجو وعنوانه (الأدب والفلسفة) وأيضاً ما كتبته مدام دي ستايل عن الأدب والسياسة)
فالفلسفة، والسياسية، والأدب، تتميز بعضها عن بعض ولكنها لا تنفصل، (كالمثلث) إذا ضاع أحد أضلاعه، انعدمت وحدة الوجود الهندسي فيه. كذلك (الرجل) بالمعنى الأدبي هو ذلك الهيكل الفكري الذي تحقق فيه المعارف الثلاث. وليس في عصرنا هذا رجل يتمثل في شخصه ثالوث هذه المعارف الثلاث وانسجامها كالرئيس هريو، فهو بحق رجل الفلسفة والسياسة والأدب
أما عن فلسفته: فذهب يسعى إليها عند مفكر مصري هو فيلون الإسكندري الذي جعل منه موضوعاً لكتاب طريف يمثله في حياته الأولى. وفي دراسته هذا الفيلسوف أكبر دليل على تحقق صفة الرجولة والإنسانية فيه، لأن فيلون يوحد في شخصه وفي انسجام تام عناصر فكرية مختلفة النزعات، فهو يهودي النشأة، مصري المشاعر، يوناني الثقافة. هو عالم مستقل بذاته يتوسط بين العالم اليوناني القديم، وبين عالم التفكير في القرون الوسطى. ففي دراسته إلمام بما تقدم وما تأخر من المعارف في تطور التفكير عند بني الإنسان حتى ظهور العهد الحديث. وفي دراسته أيضاً توفيق بين الإلهام والعقل وبين عالم الشهادة وعالم القداسة، وبين الفلسفة والدين، وبين العقلية اليونانية والعقلية الشرقية. وبفضله أصبحت الإسكندرية العامرة، منارة العلم ومنبع النور في الإيمان والتجريد الفكري. فاهتمام الرئيس هريو بفيلسوف كهذا يدل على مبلغ ما هو عليه من العلم الغزير وسعة الاطلاع، وحاسة (توحيد ما اختلف) مما ساعده أهله ليكون رئيساً لمجلس النواب الفرنسي يقيم الانسجام بين ما تباين من نزعات الأحزاب، وأهواء السياسة، وجموح مناقشاتها العسيرة، لتسير في هدوء إلى سبيل الحق الذي يعلو على شهوات التخصيص الضيق في أصول الحكم
وهو في كتابه هذا يعرض أولاً لمقارنة يهودية التوراة في عهد فلسطين بالمعتقدات اليونانية، ثم مقارنة يهودية الإسكندرية - وكفرع - بنفس تلك المعتقدات الإغريقية؛ وفي موضع ثالث يتطرق إلى تحليل منهج فيلون وآرائه الثابتة في مجال الإلهيات، فيعرض لنظرية التأليه عنده، وتحديد فهمه لطبيعة الأفكار والأعداد، ويثبت تأثره بفلسفة الفيثاغوريين؛ ثم ينتقل بالكلام أو شرح جوهر النفس وتشعب نشاطها، وعلى الخصوص وصف حياتها (القابلة) التي تتمثل في انفعالاتها وشهواتها الثائرة المريضة، ثم يعرض إلى مذهبه في الأخلاق وطبائع الفضائل وأصول التخلق في الحياة وما بعد الحياة، ثم يشرح أخيراً آراءه في السياسة، فينقد مبادئ الاستبداد والتزعم الجامح
وأما عن أدبه: فهو أدب بني على النبل والورع؛ لم يقصد به فرض وهم في الزعامة على الأدب في فرنسا، لأنه يعرف أن الزعامة تاج يكلل به الناس رؤوس من يتوسمون فيهم أهلية هذه الزعامة، فهي (تسعى) إليهم، دون أن تفرض على الناس فرضاً. وهذه الزعامة لم تقم يوماً ما على الغرور الفكري، ولا على مهاجمة الناس في معتقداتهم وأديانهم؛ ولم يكن التجديد في الأدب يوماً هو الانسلاخ عن تراث الآباء والأجداد والذهاب لما يمجه ذوق البلاد من التواء وغموض في التصور عند الفرنجة، وإنما هو الإقرار بفضل من تقدم من السلف الصالح، وفهم الحاضر الفكري فهما يكفل الإنتاج العقلي في المستقبل القريب. فبهذا تحفظ روح الأمة ومشاعرها، صافية من غير امتزاج، وتسير إلى الأمام في غير ما ترقيع ولا ابتذال
لهذا ذهب الرئيس هريو إلى أدب قومه، واختار من بين فتراته حقبة من الزمان هي الحد الفاصل بين نوعين في الأدب الفرنسي: نزعة المحافظة على القديم التي تتمثل في أدب القرن السابع عشر الميلادي عند راسين ومليير وبوالو، ونزعة (الإصلاح) فيه عند كتاب القرن الثامن عشر مثل روسو وفلتير ومنسكيو. هذه النزعة الثانية نزعة (حربية) لم تنسجم وطبيعة التفكير الأدبي، فقضت على الأدب (الرفيع) بثورتها؛ لأن مجاله أصبح مهزلة لتراشق خطباء الثورة بما يمجه كل ذوق أدبي سليم، ويأباه كل عُرف في التصور والتأدب. وفضت عاصفة السياسة على الاستقرار الأدبي، وحرمته الخضوع لمذهب واحد معين يمثل مشاعر أمة واحدة معينة، له لونه وصبغته الخاصة، وأصبحت أقلام الأدباء كسهم الريح في أعلى المنازل تعصف به الزوابع في كل اتجاه، فهي تباع وتشترى بيع الأنقاض في أسواق السلع البائسة، تدور وتتذبذب في سائر الأحزاب، دون استقرار محدود على مبدأ واحد ثابت لا يتغير هذه الفترة التي ذهب إليها الرئيس هريو هي مبدأ القرن التاسع عشر، إذ هدأت عاصفة الثورة الفرنسية بأدبها (الوهمي) وإذ ابتدأ ظهور المذهب الرومانتيكي أي (التخصيص في الأدب) (بمعني أن يكون للأديب مسحته الخاصة الغالبة وحريته الكاملة في تصوير وتسطير ما يشاء ويهوى، دون أن يخضع مثلاً لقانون الوحدات الثلاث الذي نجده مثلاً عند راسين، والذي يتأثر هو فيه بتعاليم اليونان، وخاصة أصول (التراجيدي) عند أرسطو وسوفكليس وأربيدس في العهد اليوناني القديم)، بفضل ما كتبه شاتوبريان، وعلى الخصوص الشاعر الخالد فكتور هوجو في (مقدمته) لرواية كرمويل. واختار الرئيس هريو من أدباء هذه الفترة مدام دي روكامييه، كموضوع لرسالته الكبيرة لدكتوراه الدولة، ومدام دي ستايل، كموضوع لرسالته الصغيرة
كانت الرسالة الأولى من الضخامة بحيث طبعت في جزأين، واضطر الرئيس (هريو) أن يعيد طبعها (مخفضة) عند (بايو) لتكون في متناول كل قارئ مثقف، بعد أن حذف كثيراً من (الهوامش) التي ما كانت في واقع الأمر إلا (زينة) في رسائل مدرسة السربون، وغرضه الأول فيها لم يقتصر على دراسة هذه الأديبة وتحليل شخصيتها في ذاتها، بل كان مع ذلك دراسة الروح العامة للأدب في ذلك الزمان، وحل المناسبات الاجتماعية التي ساهمت في نضوجها الفكري. وليس أدل على صحة كلامنا من عنوان الرسالة نفسها وهو: (السيدة ركامييه وأصدقاؤها). والغرض الثاني إثبات أثر مدينة ليون التي ولدت فيها هذه السيدة في تكوينها الأدبي، والحياة الأدبية لهذه المدينة خلال ما كتبته هي عنها في زياراتها المتعددة لها في ذلك العهد. والغرض الثالث هو شرح أهمية اتصالها بمؤسس مذهب الرومانتيزم شاتوبريان وما كان له من الأثر في توجيه تفكيرها الأدبي والسياسي
والرسالة الثانية، تعرض للصداقة المتينة التي كانت بين السيدتين ركامييه، ودي ستايل، واتحادهما في نزعة العداء ضد مبادئنابليون بونابارت. فهي رسالة تبحث أيضاً في أدب نفس ذلك المعهد وفي نفس الجو الأدبي؛ غير أنها تمتاز بكونها شرحا لبعض مخطوط لم يطبع حتى ذلك التاريخ، يوجد في المكتبة الأهلية بباريس في نحو 297 صفحة بعنوان (منتخبات لآراء سياسية) فيها تعرض مدام دي ستايل عن (حلمها) السياسي وهو إمكان تحوير مبادئ الدستور القائم إبان ذلك، وإحلال جمهورية تثبت على أصول العقل. ففي القسم الأول من هذه (المنتخبات) تشرح مبادئ الثورة والشروط اللازمة لتحقيق مبادئها. وفي الجزء الثاني تعرض للأصول العامة العقلية لإمكان تحقيق الجمهورية. وفي القسم الأخير تبسط أهمية أصول العقل في تغيير الحالة العامة في فرنسا في ذلك الحين. فهي بهذا المخطوط تكتب على طريقة أفلاطون في (جمهوريته) فترسم فرضاً سياسياً وإن كان يسوده الخيال، إلا أنه مع ذلك يحدد لنا نزعاتها الخاصة في الحكم، وكيف أنها تميل في نزعاتها إلى نوع معين من الديمقراطية لا نبني مباشرة على مبادئ الثورة الفرنسية بل على أصول التفكير والعقل الخالص
أما عن سياسته: فنقول إن السياسيين في أغلب أمم الأرض في زماننا هذا هم أكثر الناس جهلا بالسياسة وأصولها، وهذا الجهل راجع في نظري إلى أن السياسة أصبحت مجالاً للدجل والتهريج لا يطرق بابها إلا أصحاب الفراغ والجدة في كل شئ. ومن ادعى من رجالها العلم والفهم في مجالها، رجع في علمه وفهمه هذا إلى مفكري العصر الحديث، أولئك الذين يشرعون باسم المادة والاقتصاد، مع أن السياسة عند أهلها من آباء التفكير وخاصة أفلاطون الإلهي، تقوم على فهم طبيعة الإنسان الخاصة وتخلقه. لهذا كانت السياسة هي بيت القصيد في الفلسفات القديمة وكانت تتضمن دراسة هذا العلم، ودراسة الآداب، وعلى الخصوص دراسة الأخلاق؛ وكان لا يمكن أن يسمى الرجل (سياسياً) إلا إذا بلغ الخمسين من عمره، بعد أن عرك الحياة ووقف نظرياً وعملياً على طبائع الناس وتضارب ميولهم، وتباين تخلقاتهم، وأضاف إلى علمه بجوار منطق العقل، منطق الحياة. أما اليوم فهي لا تلم إلا (القش) (والرماد) في كل هيئة اجتماعية من الذين يؤمنون بما يوحي إليهم رجل كمكيافل أن السياسة هي (مكر ولؤم وخداع)، عوضاً من أن تكون (فلسفة، وأدبا، وأخلاقا)
لهذا كان الرئيس هريو ليس من المحدثين في السياسة، لأنه يسير وتعاليم اليونان القدماء، فهو لم يتعجل أن يطرق بابها، فيصيبه ما يصيب أهلها الآن من ابتسامات تقديرية لو فهمها الرجال منهم لأحمرت لها وجوههم. فبعد أن مهد لنفسه النضوج الفكري بثقافة جامعة وافية في الفلسفة والأدب، طرق مجال الخدمة الاجتماعية عملياً في عمادة مدينة ليون، فأثبت ما هو أهل له من العلم، وإحكام الادارة، وتصريف أمور الحياة بين الناس، حتى إذا كان في نحو الأربعين من عمره انتخب مباشرة عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي عن منطقة الرون، متخطياً مجلس النواب، فكان أصغر عضو في ذلك المجلس عام 1912؛ ثم تطرق بعد ذلك إلى منصب الوزارة، ثم إلى رياسة الوزراء، ثم إلى رياسة النواب، فكان في كل مرة مرحلة منها (الفيلسوف العادل)، (الموحد لما اختلف). ولعب بجوار ذلك دوراً لا يستهان به في تنظيم الحياة الداخلية لأمته إبان الحرب العظمى عندما ولاه الرئيس الوزير بريان وزارة الأشغال والمواصلات والمؤونة؛ ويمكن أن يتصور خطر هذا المنصب، والقتال قائم على قد وساق
وباعتباره (عمدة) لمدينة ليون، يكفي هذا أن يرفع نظر المصريين إليه، لأن لهم فيها ذكريات تتعلق بتاريخهم في العهد الحديث. فالرجل الذي قاد الجنود المصرية في ساحة الوغى، وأثبت للعالم سمو الروح الحربية عند المصريين، ووضع أسس الإمبراطورية المصرية، هو القائد سيف أو سليمان باشا الفرنساوي الذي ترك وطنه في مدينة (ليون)، بعد انهزام نابليون، ليعمل لحساب مؤسس الأسرة العلوية الكريمة، فكان عند حسن ظن محمد علي باشا فيه؛ فحقق ما رسم له خالق مصر الحديثة ومشيد عظمتها. كذلك ساهمت ليون بعلمائها الأعلام وعلى الخصوص الأستاذ لامبير في خلق مدرسة للفكر في مصر تتمثل في ذلك الشباب النابه الذي ورد شرعة العلم من سنين في هذه المدينة، والذين أصبحوا الآن من قادة الفكر في مصر، في الفلسفة الإسلامية، وفي عمادة الحقوق، وفي بطولة المحاكم المختلطة، وفي زعامة المحاماة والثقافة. والجميل في أمر هذه المدرسة، أن أهلها يعملون على إعلاء كلمة الوطن في نبل وهدوء وورع، دون أن يتخذوا من العلم سبيلا وضيعاً لمهاجمة معتقدات أهل البلاد ودينها، وتصويرها في حفلات عامة كقبائل المتوحشين لا هم لساكنيها إلا التفكير في المأكل والمشرب كما يفعل هذا الكثير من متخرجي السربون وجامعة باريس، وهو ما لا يليق بشباب يدعي الثقافة والفهم، ومكتوب على جوازه سفره أنه (مصري)!؟
عبد العزيز عزت
عضو بعثة الجامعة المصرية لدكتوراه الدولة