مجلة الرسالة/العدد 251/البحث عن غد
مجلة الرسالة/العدد 251/البحث عن غد
- 2 -
للأستاذ عباس محمود العقاد
أجملنا في المقال السابق حديث مؤلف الكتاب مع الأستاذين الكبيرين شيخ الجامع الأزهر ومدير الجامعة المصرية
وقد تحدث المؤلف إلى فئة من المصريين النابهين غير الأستاذ المراغي والأستاذ احمد لطفي السيد فقال عن الدكتور حافظ عفيفي باشا إنه أول سفير مصري في بلاط (سان جيمس) وإنه طبيب أطفال مشهور، وكان وزيراً للخارجية في سنه 1928 وله مكانة عالية لبعده عن التحيز ووقوفه موقف الحيدة، واطلاعه الواسع في شؤون الثقافة المصرية
قال المؤلف: (ولما أخبرته بزيارتي للشيخ المراغي قال: إنني عظيم الإعجاب بالشيخ المراغي، وهو عندي اصلح الرجال في وقتنا هذا لقيادة حركة الإصلاح في التعليم الديني. وقد ترك الطلبة هناك عادة الجلوس على الحصير واصبحوا يجلسون على الكراسي، وتعودا أن يضموا الكتب على المناضد بدلاً من وضعها على الركب! وهذا كل ما هنالك من الصبغة العصرية الحديثة. فهي لم تتجاوز ذلك إلى أساليبهم وأنظمتهم ولا إلى روح تعليمهم ودراستهم، ولا يزال الأزهر حتى اليوم معنياً بالمراسم الدينية والآراء الجدلية. والشبان يضيعون هناك سنوات غالية من أعمارهم كانوا خلقاء أن يتعلموا فيها أموراً انفع لهم ولبلادهم على التعميم. أما مدارسنا العصرية فهي على نقصها لا تني تتقدم تقدماً مطرداً في سبيل التفكير العلمي الملائم لزماننا، وهذا في حين أن الأزهر لا يزال على سنة القرون الوسطى علماً وعملاً. ومن تقاليده أن يقع الاختيار على معلميه من بين تلاميذه وطلابه المتخرجين فيه، وسيظل متخلفاً ما داموا مصرين على هذه التقاليد. ولا رجاء لنا في نهضة روحية صحيحة من جانب الدين ما دام المعلمون الدينيون بيننا ينشئون على غير النشأة المستنيرة التي ينشأ عليها الأساتذة الآخرون)
قال المؤلف: فسألته: ولماذا تحسب أن هذه النهضة الروحية ضرورية؟
فقال: لأن الفلسفة المستقرة وراء الحياة المصرية لا بد لها من آساس روحيه، ولا تقوم هذه الآساس إلا على الإسلام؛ وينبغي أن تقوم على إسلام صريح لا خرافة فيه. وإنما أعنى بم أقول أن تربيتنا الدينية يجب أن تكون على طبقة من الاستنارة تضارع تربيتنا في الثقافة العامة. وقد جاءت قوة الإسلام الدافعة في عصره الذهبي من حقيقة واحدة: وهي أنه كان ديناً جد بسيط وجد واضح، خلوا من التعقيد والإبهام، فأخرج للدنيا ثقافة رفيعة، وحول القبائل المتبدية في فترة وجيزة إلى أمم متحضرة تعيش عيشة المدينة. ولا بد للإسلام في نهضته المقبلة من قيادة اتباعه مرة أخرى إلى الحضارة الصحيحة؛ ولن يتسنى له ذلك إلا إذا اطرح الآراء الجامدة العتيقة والتجريدات المتخلفة من عقائد القرون الوسطى وليست هي من جوهر الدين في شيء. عندئذ - وليس قبل هذا - يعود الإسلام وهو تلك القوة الروحية التي تفتقر إليها البلاد أشد افتقار
فعاد المؤلف يسأل الباشا: وما هي إذن مسألة الغد في مصر المقبلة؟
فأجابه الباشا: مسألة الغد هي التعليم ثم التعليم كرة أخرى. وعلى أساتذتنا الدينيين والعصريين معاً ألا يقصروا تربيتهم على اقتباس العلم وحده، بل يضيفوا إليه اقتباس الخلق والتهذيب. وعليهم أن يردوا الشعب إلى فضائل الشجاعة والصدق وحب الخير وحب الفن والمعرفة، ونظافة العقل والبدن، وهي الفضائل التي كانت مبعث القوة في الإسلام. وعلى شبابنا المتعلمين وهم أشباه متعلمين أن يذكروا أبداً أن الأمة من الأمم لا يجوز لها أن تنعت نفسها بالتحضر والمدنية ما عاش أبناؤها على تلك الحالة المحزنة التي يعيش فيها الفلاحون، ولا تغيير لها قبل انقضاء زمن مديد في التثقيف والتهذيب)
وسأله المؤلف: أيوجد في مصر أناس عندهم من البصيرة والشجاعة الأدبية ما يتطلبه التصدي لإصلاح البلاد والجهر بحاجاتها؟
قال الباشا: نعم. هناك أناس من هؤلاء، واذكر لك على سبيل المثال أسماء أصدقائي لطفي السيد وحسين الهيكل ومصطفى وعلي عبد الرازق وطه حسين
وهنا أنتقل المؤلف إلى رواية الحديث الذي جرى بينه وبين الدكتور طه حسين، وقد بدأه الدكتور بكلام يدل على تغير الشبان من الوجهة الدينية
فسأله المؤلف: أترى أن الدين لا يدخل عندكم في حياة الشباب؟
قال الدكتور: على النقيض. إن له لدخلا في حياتهم، لأن للشباب تناقضاً معروفاً، ومن تناقضه عندنا مسلكه في أمر الدين، فالشبان المصريون في مقاومتهم للنفوذ الأجنبي، وفي شعورهم الوطني يصدرون عن عقائد آبائهم وتقاليد أسلافهم. ولم هذا؟ لأن القرآن في الشرق الأدنى هو الأساس الوحيد الذي يقاوم عليه بناء أمة؛ وقد اصبح شبابنا العصريون في حياتهم الدارجة شعبة صغيرة منقطعة عن سائر الأمة. إلا أنهم يجدون أنفسهم في القرآن على ملتقى واحد مع كل فلاح وكل بدوي في الصحراء؛ وهم - باعتمادهم على القرآن - يهيئون لسواد الجماهير أن يحالفوهم في المعركة السياسية، وإنما يأخذون من القرآن أسلحتهم السياسية ولا يستمدون منه عتاد الروح)
فقاطعه المؤلف سائلاً:
وما هو موقفهم إذن من الناحية الروحية؟
فأجاب الدكتور: (أما من الناحية الروحية فهم واقفون في العراء. لم يهضموا فلسفتهم العقلية الحديثة لأنهم تلقوها في الغرب بعقولهم ولم يشركوا فيها قلوبهم وضمائرهم، ولكنهم قد انحرفوا عن جادة آبائهم فهم بمعزل عن كل مَعْلم من المعالم الروحية، وإن كان هذا لا يعني أنهم بمعزل عن الدين في آمالهم ومخاوفهم)
فسأل مؤلف الكتاب: أتحسب إذن أنهم يثوبون إلى الدين في أزماتهم الحاسمة؟
قال: فضحك الدكتور طه حسين وقال: هذا ما أعنيه تماماً، فقبل الدخول إلى مشرحة الجراح، وقبل الدخول إلى حجرة الامتحان، يثوب المتطرف منهم في الإيمان بالعقل إلى الإيمان بقوة فوق متناول التفكير، أو بقوة تعين الجراح وتلهم الأستاذ الممتحن وتوحي إلى المسئول كيف يجيب، ويعود فجأة إلى اسم الله. . .)
وبعد مناقشة في رأي الشيخ المراغي وفيما يحسن بالرجل العصري أن يتخذه من موقف في أمور الدين ختم الدكتور حديثه قائلاً ما معناه: إن المصريين فرديون متفرقين، ولكنهم في المجتمع منساقون مسلسون
وبين الكبراء الذين حادثهم (روم لاندو) علي ماهر باشا واحمد حسنين باشا قبل أن يندب الأول لرآسة الديوان الملكي
فكانت خلاصة الحديث الذي أفضى به علي ماهر باشا أن الشعور الوطني قد طغى بعد الحرب على كل شعور آخر، وأن الجيل الحديث سيعود كرة أخرى أدراجه إلى حظيرة الدين، وأن أناساً من أبنائه يتعطشون - حتى في هذه الآونة - إلى مورد للدين يكشفونه بأنفسهم لأنفسهم وإن كانوا لا يزالون قلة بين المجموع
قال علي باشا: (نحن عرضة لكثير من الأفكار، وفي الحياة المصرية حركات كثيرة النقائض والأضداد، والعلم بالنتائج مستحيل. إلا أنني أحسب أننا على حق حين نرى أن النزعة الدينية أقوى في طائفة من الجيل الحديث مما كانت قبل بضع سنوات)
وسأل الأستاذ لاندو: (ماذا يصنع الآن لتحويل الوجهة التي كانت منصرفة كلها إلى الناحية السياسية؟)
فأشار علي باشا إلى الخطة التي أعدها حين كان على رأس الحكومة لإنشاء معسكرات في أرجاء البلاد يتعلم فيها الشباب الرياضة والأخلاق الرياضية ويأوون إليها في كل شهر أربعة ايام، ويتلقون فيها دروساً ومحاضرات عامة في علم الاجتماع وشؤون الثقافة ومعارض التاريخ
ولما سأله المؤلف عن مصير هذا الاقتراح، قال: إن الوفد أبطله حين تولى الحكومة. وعقب المؤلف قائلاً: (إن من تقاليد السياسة المصرية - أو السياسة في معظم الأقطار الشرقية - أن الحكومة الجديدة تبطل ما استطاعت من أعمال الحكومة السابقة
ثم سأل: (ولكن الوفد له هو أيضاً مقترحاته للسمو بالجيل الحديث وتحويل جهوده. أليس كذلك؟ فقد سمعت بالعناية المبذولة في الألعاب وضروب الرياضة!)
قال الباشا: نعم. إلا أن النظام الحاضر يجعل باله قبل كل شئ إلى إنجاب (الأبطال) الذين يحرزون الجوائز في المباريات الدولية ولا يعطى الجمهور نصيبه من الرعاية، ولا يلتفت إلى الأخلاق كما يلتفت إلى الأبدان. وما كان التعليم المتجه إلى إحياء الحاسة المدنية الاجتماعية يوماً من الأيام شاغلاً ينفع الأحزاب السياسية في غايتها من الدعاية، فلا سبيل إلى هذا التعليم إلا على أيدي حكومة غير حزبية أو حكومة قومية)
أما احمد حسنين باشا فقد بدأ الكلام معه على تعليم صاحب الجلالة الملك فاروق. ثم استطرد إلى السماحة الدينية ومذهب الباشا فيها؛ وهو مذهب يشبه مذهب محي الدين بن العربي. وقد كانت لرحلاته في الصحراء يد قوية في هدايته إلى تلك الطريق الروحية
سأله الأستاذ لاندو: لقد أخبرت أن الملك يؤدي جميع فروض الصلاة بانتظام، فهل تعتقد أن صاحب الجلالة ذو سليقة دينية؟ فقال الباشا: (أعتقد ذلك. وقد قال لي منذ أيام فجأة خلال الحديث: إنه يشعر براحة حقيقية في الصلاة. وهذا شئ جدير بالتنويه والملاحظة من شاب يقوم بأعباء الملك في سن الفتوة، ولا سيما وصاحب الجلالة غير مطبوع على الانزواء أو الخيالات العاطفية، ولكنه نشيط إلى الرياضة لا يميل إلى النزعات الخفية الغامضة، وهو يحمل مصحفاً صغيراً لا يفارقه؛ وأعلم أنه شديد الحب له والإيمان به)
وسنعود في المقال التالي إلى التعقيب على أمثال هذه المباحث التي يتصدى لها بعض السائحين، والى بيان الحقيقة فيما يلمحونه أو يخيل إليهم أنهم يلمحونه من دلائل الحياة الروحية وبواعث التغير والتجديد فيها.
عباس محمود العقاد