مجلة الرسالة/العدد 250/فلسفة التربية
مجلة الرسالة/العدد 250/فلسفة التربية
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 14 -
(إذا لم تكن البطالة ناشئة عن نقص في الشخص نفسه، فهي ناجمة من غير شك عن خطأ في روح تعليمه!!)
(إن من يأنف اليوم من حمل الفأس ومن تلويث يديه بالطين لن يصلح غداً لإصلاح أمره إذا ما ضاقت به الحياة وقسا عليه القدر!)
(لقد أفقدناهم الحماس وا أسفاه، وجعلناهم يقبلون على العلم بخمود دائب، وتحجر متواصل، وبطأ شديد!)
(من رسالة الدكتور جاكسن)
4 - المتعلمون العاطلون
تبينت في المقال السابق بعض نواحي الضعف في التعليم الإلزامي وبعض وجوه الإصلاح، وسترى اليوم ناحية أخرى جديرة بالدرس والعلاج نظراً لما فيها من خطر شديد على كيان المجتمع القائم حاضره ومستقبله:
1 - العاطلون
أترى أولئك المتعلمين العاطلين؟ أتسمع عن جيوشهم في كل مدينة من مدن القطر؟ أتلحظ حقدهم على كل حكومة لم تسلكهم في سلوك الموظفين المجدودين؟ أتتبين تقاعدهم وتسكعهم وعجزهم عن المجاهدة في الحياة إزاء الأجنبي الدخيل؟ ثم نفورهم كبراً وتيهاً من أعمال البيع والشراء وغير البيع والشراء، مما يظنون أنهم لم يخلقوا له في كثير ولا قليل؟
ذلك هو المشكل الذي نبسطه اليوم ونعالجه على ضوء التربية والتعليم! والذي ينبغي على الدولة أن توليه من عنايتها نصيباً موفوراً نظراً لأن أولئك المتعلمين العاطلين خير تربة صالحة لإنماء المبادئ والأفكار التي فيها كما قلت الخطر كل الخطر على كيان المجتمع نفسه حكومة وشعباً!
تُرى مِمّ نجمت هذه البطالة؟ ومن هو المسئول عنها؟ أفي البلد أزمة اقتصادية عنيفة فهم لا يجدون فيها عيشا؟ وما بال أولئك (الأجانب) يملئون المتاجر والمصارف ويقومون بمختلف المشروعات وينجحون فيها كل النجاح؟ ألست ترى إلى الرومي أو غيره يدخل البلد فقيراً معدماً ثم يغدو بعد سنين صاحب متجر عظيم وملك أعظم؟ أن الخير في هذا البلد كثير، والعيش يسير، ولكن العيب وا أسفاه في المتعلم نفسه وما قد طُبع عليه من كره للعمل والعاملين، وعشق (للديوان) الثابت والراتب المضمون!! ولذلك يقول الدكتور (جاكسون): أن الخطأ إنما يقوم في روح التربية المعطاة وما يوحيه من أن المدرسة تأخذ بالأيدي من (الطين) حيث الجهد والنصب، إلى (المكتب) حيث الراحة والكلام!! ألست تسمع أنشودة (الوظيفة) من أمك وأبيك وأقاربك وذويك؟ ألست ترى (للموظف) قدراً في المجتمع دونه قدر التاجر أو الصانع أو الفلاح؟ ألست ترى طابع (الحكومة) يميز حامليه ويملأهم عجباً وتيهاً وزهواً وفخراً؟ ألست ترى حولك كثير من ممن يرون في (العمل) حطة لهم ولعائلاتهم مع أنه قد يكون السبيل الوحيد لمعاشهم؟ وأخيراً ألست تشاهد المئات من خريجي المدارس الزراعية والتجارية والصناعية يتكالبون على الوظائف الفنية وغير الفنية، مع أن الدولة قد أنفقت عليهم الألوف لتجعل منهم طبقة فنية راقية تأخذ بيد مرافق البلد الاقتصادية وترقيها، وتحررها من قيود الجهل والتقاليد، وتطبعها بالطابع القومي المنشود؟
2 - العلاج
تلك إذاً هي (الفكرة الخاطئة) التي يجب أن نمحوها محواً بمختلف أساليب التربية والاقتصاد، لأن التربية لا تستطيع وحدها أن تصلح كل شيء. يجب أن نحسن الأسواق القائمة، وأن نفتح أسواقاً جديدة، وأن نعمل كما يقول الأستاذ جاكسون على زيادة (الطلب) ليرتفع أجر العامل ويغريه بالعمل وترك الحكومة، كما يجب كذلك أن نجعل مدارسنا الفنية مسلحة بكل تجديد كهربائي أو ميكانيكي لتستطيع أن تواجه حاجات العصر، وأن تصمد لمنافسة المحصولات الرخيصة التي تمطرنا بها أوربا وأمريكا واليابان، وأن نحول مدارسنا الإلزامية والابتدائية والثانوية إلى نظام آخر يسمح بكثير من (العمل) اليدوي ما دام العاطلون من خريجي هذه المدارس اكثر عدداً وافدح خطراً من خريجي المدارس الفنية. أفي المدارس الإلزامية (عمل) بالمعنى الساذج البسيط؟ وهل في المدارس الابتدائية غير ساعتين للعمل في الأسبوع منفصلتين تماماً في (عملهما) عن المواد الأخرى؟ وهل يعدو (العمل) في التعليم الثانوي (اللهو والفراغ) عند أغلبية الطلبة الساحقة؟؟
3 - الصعوبة القائمة
وهناك فضلاً عن ذلك صعوبة كبرى هي قبول المدارس الثانوية لعدد عظيم من الطلبة لا تستطيع أن تقبله فيما بعد الجامعة والمدارس العالية لأنها لا تتسع له. ويقول بعض حضرات النظار أن حوالي 30 % من طلبة البكالوريا يقعون في هذا المشكل، ويمضون حياتهم في يأس وقنوط وألم وشقاء. وإذاً فإما أن ينقص عدد الملتحقين بالمدارس الثانوية حتى يستطيعوا أن يجدوا لهم منفذاً في التعليم العالي، وإما أن يصبح التعليم الثانوي نفسه غاية ووسيلة معاً لا وسيلة تعد الناشئ للجامعة فحسب. والحل الثاني أليق بمصر، لأن خمسا وعشرين مدرسة ثانوية للبنين، وسبعا أخرى للبنات، ليس بالعدد الكثير على بلد سكانه خمسة عشر مليوناً!! وإذا فلننظر فيما ينبغي أن يكون عليه هذا التعليم:
4 - الإصلاح المنشود
ينبغي أولاً أن يسود فيه الشعور بأنه إعداد للحياة لا للدراسة العليا فحسب. ويتأتي ذلك فيما يرى الدكتور جاكسن بوضع أساس عملي لا يجني على (كيف) التعليم فيه، وذلك بأن ندخل فيه الزراعة والطباعة وأشغال الخشب والحديد على نحو (جدي) مع تعديل المقرر أو بالأحرى تخفيفه تخفيفاً مناسباً. فمثلاً في السنتين الأولى والثانية: عشرون درساً للغات من أربعة وثلاثين، ودرس رسم واحد، ودرس أشغال لا يقوم به إلا قلائل لا يفيدون. فماذا يمنع من استعمال اللغة في تجارة عملية بدلا من قصرها على هذه الحصص الكثيرة التي لا تؤدي بالطالب بعد تسع سنوات إلى القدرة على الكتابة خطاب تجاري صحيح النحو مستقيم المعنى؟ وماذا يحول بين الطلبة وبين جمعهم لحروف مجلتهم وطبعهم لها بأنفسهم؟؟ ولم لا يزرع الطلبة حديقة المدرسة ويسهرون على تهذيب أغصانها وأروائها بدلا من رجل واحد تعينه المدرسة لهذا الشأن؟ وكيف يتكلم المدرس عن الذباب وخطره والمدرسة ذاتها لا تعمل على منعه من دخول الفصل؟؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن يعنى التعليم بغرس الروح الاجتماعية عن طريق (دراسة المشروعات) والجمعيات العلمية والرياضية والفنية التي تسودها روح التعاون والمحبة والتضحية واحترام القانون، ويجب أن يتاح للمدرس من الوقت ما يساعده على الإشراف التام على أعمال هذه الجمعيات و (العيش) فيها كمرشد حكيم؛ هذا مع غرس السرعة والابتكار والذوق في نفوس الطلبة تلبية لحاجات (رجال الأعمال) الذين يريدون كل حاضر البديهة، حكيم التصرف، جميل الذوق وديع المحضر، مطيعاً للقانون:
5 - التوجيه المهني
ثم لا ينبغي أن يقف الأمر عند ذلك. أن مصر لفي حاجة كبرى إلى توجيه أبنائها توجيهاً سليماً يتفق وميولهم النفسية، ويضمن على الأقل نجاحهم في عملهم وثقافتهم أن لم نقل نبوغهم فيها. والشبان عندنا لا يطرقون أبواب المدارس المختلفة جرياً وراء إشباع ميولهم الشخصية بقدر ما يطرقونها تحقيقاً لمطامعهم القاصرة في مهن محترمة كالقضاء أو الطب أو المحاماة! أليس عندنا من يدخل الحقوق ليكون نائباً أو وزيراً، ثم يفشل أخيراً في موقفه أمام القاضي ويخاطبه كما يخاطب التلميذ الأستاذ؟ أليس عندنا من يدرس الفلسفة ليدعى فيلسوفاً، ثم لا يكون بينه وبين الفلسفة الصحيحة إلا هوة سحيقة من الجهل والاعوجاج؟ كم من مئات الحقوقيين قد أثبت له قدراً في عالم القانون؟ وكم من خريجي التجارة أو الهندسة قد سجل لبلاده فخراً في مجال دراسته الخاصة؟ إنها إذاً لآفة كبرى يجب علاجها علاجاً علمياً صحيحاً ينحصر فيما يسمى الآن (بالتوجيه المهني!) ويستطيع الأستاذ في ذلك التوجيه أن يدرس ميول الطالب الحقيقية لا الوهمية أو المصطنعة، وأن يقدم له النصح والإرشاد على أساس هذه الدراسة يستطيع أن يختبر ذكاءه وميله الأدبي أو الفني أو العلمي باختبارات خاصة يجرونها الآن في أوربا وأمريكا؛ ويستطيع أن يلاحظه ويدرسه عن كثب طيلة أعوام الدراسة ليضم إلى نتائج هذه الاختبارات درايته الشخصية؛ ويستطيع أن يقول له أخيراً عليك بالآداب أو الحقوق أو الطب أو الصناعة أو التجارة، لأنك لا تليق ولا تنبغ، ولا توفق ولا تسعد، إلا في ذلك الذي دلتني عليه دراستي العلمية وخبرتي الشخصية؛ ثم يستطيع باتصاله بذويه أن يسدي لهم النصح في مستقبل ولدهم حتى لا يقفوا عثرة في السبيل كما أراد لي والدي يوماً أن أدرس (التجارة) وأنا لا اهضم (الحساب) على الإطلاق!، وأخيراً يستطيع الناظر عملا برأي الأساتذة أن يزود تلميذه بخطاب خاص يحمله كشهادة محترمة لرؤساء المعاهد أو الأعمال التي يريد أن يطرقها كيما يكون (واسطته) فيها. . .
وبذلك وبغيره نوجد أعمالا للعاطلين، وتوفيقاً ونبوغاً للمتعلمين!. . .
(يتبع)
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بشبرا الثانوية الأميرية