مجلة الرسالة/العدد 250/تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
مجلة الرسالة/العدد 250/تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
فرديناند برونتيير
1894 - 1906
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
نقده التطوري
كان (برونتيير) في نقده معارضاً اشد المعارضة للنقد المنفعل وزعيمه (جول لميتر). والنقد الشكي وصاحبه (أناطول فرانس)، كان يؤمن بأن في خارج عوالمنا حقيقة معهودة وأن ليس حقاً أن تكون الآراء مختلفة وأنواع المذاهب عميقة التباين إلى غير حد. إذ في الإمكان أن تعرف - وبمقياس خاص - أن نحلل فنحد تاريخ أثر ما، وأن نفسر أخلاق كاتبه، وندرس تاريخ بيئته كما صنع سانت بوف وأن نعمل خيراً مما عملوا. يمكننا هذا ويجب أن نناقشه. أما النقاد المنفعلون فيعملون على ألا يبدوا إلا انفعالاتهم دون أن يجزموا بها. على أن هنالك قواعد كثيرة مرهقة دقيقة تخص الأدب والفن، تجبرنا على أن نناقش الآثار الأدبية ونعمل على تصنيفها وبحسب هذه القواعد شن (برونتيير) الغارة على الواقعية والرمزية، وهنالك شئ غير هذا يتعلق بالقواعد الفنية
فنظرية الفن من اجل الفن نظرية خطرة يجب ألا تقفنا مجردين إزاء الخير والشر في الأخلاق، إن أرادوا أو لم يريدوا، فإن أثراً ما قد يثير تأثيراً حسناً أو سيئاً. ومن واجبهم أن يقضوا عليه مهما كانت بواعث المؤلف إذا كان تأثيره تأثيراً خطراً. والناقد في نظريته هذه يوافق تلميذ بول بورجيه.
وقد أراد - برونتيير - أن يعطي نقده صفه علمية، وقد زعم أنه اكتشف قانوناً يحيط بالأنواع الأدبية ويصنفها، يقول: إن الأنواع الأدبية مهما كانت البواعث عليها من ضرورة أو حاجة أو بيئة، فهي مثل الأنواع الحية للأحياء التي درسها (داروين). (كل شئ يتطور. لا شيء يبقى ساكناً. كذلك الأنواع الأدبية تتطور، تمشي حيناً إلى صلاح وحيناً إلى فساد، وقد درس الشعر العاطفي والقصصي وبنى نقده على مذهبه التطوري. وإذا لم يبقى لبرونتيير شيء من هذا المنطق العلمي فإن تطوراته جاءت تحتوى تنظيما للتغيرات الأدبية، تصنف الآثار الأدبية كما يصنف علم الطبيعة أنواع الأحياء. وكان لنقده تأثير كبير في الأندية الأدبية. ولم يكن هذا النقد يعتمد على الأحوال العلمية فحسب، بل كان يرجع إلى التاريخ وإلى معرفة واسعة للآثار والنصوص. وذلك ما كان مجهولاً قبله، ولقد كان قبل كونه نقاراً محارباً نقاداً قاسياً ذكياً. فهو وحده أعلى شأن الكتاب المهملين وشأن كل الحركات الفكرية المهجورة لأنها لم تأت في أثر مذكور، أو قول مأثور. وكان ذا موهبة خطابية يعلمها من كان يشهد محاضراته، وتشهد عليها تلك الأفواج الكثيرة التي كانت تسحرها لهجته ويفتنها بيانه
أدب الحياة
إن المدرسة الرمزية كالمدرسة البرناسية تعمل على الانطلاق من حياة الجماعات، لا يؤلف أصحابها إلا لأنفسهم خاصة. فهم ينظمون شعراً لفئة خاصة، وإذا هم ترنموا بالحياة لم يترنموا بالحياة العامة التي يظهر فيها القطيع الإنساني قطيعاً بائساً يمشى على إيقاع القوات الحاكمة. والعودة إلى الأدب الاجتماعي ومحو التشاؤم (البرناسي) قد ولدا مدارس وآثار تريد أن تترنم بالحياة وتملأها شدواً وحناناً وجمالاً. وقد أسس (بوهيلي ومونتفورو موريس) مذهباً بعيد للإنسانية جمالها البطولي، وينظم الروابط التي تصلها بالوجود، وينير شعاعها القوي في الطبيعة. وهذا الشاعر (فرناند جميك) يذود عن الإنسانية التي تحتل مكانها في الوجود بواسطة الإنسان. وبعد هذا فإن الوحدة التي أعلنها (جول رومان) والتي تسعى إلى التعبير بصورة رمزية لا عن نفس ولا عن أنفس، ولكن عن النفس الإنسانية عامة التي تبدو حيناً متحدة وحيناً منقسمة. هي النفس الحقيقية العميقة من النفوس البشرية؛ ومن أظهر آثاره في هذا المعنى (الجيش في المدينة)
ومثال ذلك من الشعراء مقاطيع (أميل فارهارم) الشاعر البلجيكي. ولد في (سانت راماند) بالقرب من (أنفرس) سنة 1855. وقد درس الحقوق في أول عهده ثم وقف حياته كلها على الشعر، ودرس خلال ذلك أسرار النفوس الخفية. ومات سنة 1916
عاش (فارهارم) وتثقف في بلد هادئ، وفي قلب أسرة متدينة غنية بالعافية مطمئنة القلب. ونشأ هو درّيساً مرحاً وإنساناً يجنح إلى الطرب. وبعد أن قل ميله إلى المدرسة الكلاسيكية ونزوعه إلى لامرتين وهو جو أخذ ينظم شعراً واقعياً حساساً. ولكنه استنفذ قواه، أو أن قواه كانت اضعف مما كان يظن، فأصابه بلاء في صحته، حتى أصبحت أعصابه المتوترة لا تستطيع أن تحتمل أية ضجة، لا وقع لحن ولا وطء قدم. وهذا بلاء تولد عن بلاء نفسي. فلقد كانت طفولته مشحونة بالأساطير، طافحة بالتقوى والاعترافات والصلوات! ولكنه شك فجأة وجرب باطلاً بأن يستعيد إيمانه، فكان أن فرّ الإيمان وأقبل الألم
فأخذ يجد في السياحة في أطراف البلاد طالباً التعزية لنفسه فكتب ونظم. . . وفى هذه الفترة أصاب وطنه أزمات اجتماعية عنيفة حتى أقوت القرى من سكانها، وعفت المدن بمن استهوتهم بألوانها. ولكن (فارهارم) عاوده الشفاء رويداً رويداً، فعاد يجد الحب والإيمان. أما الحب فلم يتكلم عنه إلا بمقاطيع محجبة ولكنه يبدي إيمانه به. فالمدن قد فتحت اذرعها إلى القرى لتخليها من أهلها ولكنها - برغم عيوبها وشرورها - قد أوجدت العزم والقوة. وإنها لقوة مشوشة، ولكنها جميلة مخصبة لأن البرية المنجذبة أخذت تموت. فلتترنم الآن بالقوة التي تحيي الموات. هذه هي ألحان الحياة الحاضرة. . .
ولكن شفاءه لم يجعل منه إنساناً صافى الشعور. فقد ظل على ارتعاشه وهيامه الباطل. وقد علمنا أن له - منذ طفولته - إحساساً عصبياً عنيفاً، وبعض الذكريات من هذه الطفولة قد ولدت فيه أنواعاً من حب الأسرار ناهيك بطغيان المخيلة عليه. وقد جرى خلف مدارس أدبية حديثة، فاستمد من شوبنهاور ومن بودلير ومن فرلين ومن مالارمي. فكان هو ومعه فئة من بني قومه أسسوا الفن الحديث في بلجيكا الحديثة، وكانوا ينشرونه في المجلات الرمزية. وهذه الرمزية كان مزاج شاعرنا يميل إليها
هنالك صور مفاجئة تتولد من نفسه في ظلمة نفسه بصيحة من نفسه، أو حلم أو حالة مجهولة، ومنها تتولد صور أخرى تحف بها فتكون قصيدة رمزية، لأنها ليست مظهراً عددياً للتأمل. ولكنها نوع من هذا الهيام الباطني حيث كل خيال يعكس حالة من حالات النفس، وكل نغمة تمثل فكرة موزونة
وهكذا قدر لشاعرنا أن يعبر في ديوانه (القرى الباطلة) و (البراري الهائمة) عما لا يقدر عليه شاعر آخر من معاني تفر من الوضوح ومن التعبير الواضح. فكان بهذا شاعر المطر والريح والسكون وكآبة الهجر والعزلة. وكان بهذا شاعر الكآبة المنجذبة الشاردة للأشياء.
ولكن سرعان ما شفي من هذه الحالة النفسية فلم يعد يميل إلا إلى الطرب والنور. وبدلاً من تلك المطاحن السوداء والمآسي وحفاري القبور وكل ما يبعث على الأسى اخذ ينظر إلى السنابل المتحركة والمطاحن الفرحة ويسمع الصراصير ويفهم كل أشكال النور والخصب وفرح الحياة. ألم يكن يجد في كل حالة شقاء له وكمداً دون أن يقدر على الفرار من هذا الكمد! كان يحيى في عالم صاخب، ومذ عاد إليه إيمانه الاجتماعي وتفاؤله نشأ عنده ميل إلى كل ما يرن ويدوي، وإلى كل ما لا يسقط كالسهم في النور. وإنما ينساح كالجدول المناسب في الغابة. فتش فوجد الشعر العاطفي هو الذي يقدر أن يعبر عن هذا الشعر للحياة الهامسة المضطربة، هذا الشعر الخطابي حيث تدور الفصاحة فيه وتسيطر عليه. وأطياف من الصور القاسية التي تنتهي بالذوبان في شبه وحدة متحركة في الإيقاع الناعم القاسي لحياة لا تجري على نظاماً متبوع!
خليل هنداوى