مجلة الرسالة/العدد 247/محمد في أطوار حياته
مجلة الرسالة/العدد 247/محمد في أطوار حياته
دراسة تحليلية
للأستاذ عَبد المَتعال الصعيدي
(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم
عمراً من قبله أفلا تعقلون)
(سورة يونس - 16)
بعث الله محمد ﷺ فكانت معجزته الكبرى هذا القرآن الكريم بفصاحته الباهرة وما جاء به من تشريع قويم في أصول الدين وفروعه، على أنه كان مع هذا يلجأ إلى العقل فيستعين به في تأييد رسالته، وإلى العلم فيستخدمه في إثبات نبوته، وإلى هذا تشير تلك الآية الكريمة من سورة يونس (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون).
فهو يقيم في هذه الآية دليلاً على صحة نبوته يستند إلى دراسة تاريخه قبل النبوة وبعدها، وإلى دراسة نفسه في هذين الحالين، والدراسة الأولى فرع من علم التاريخ، والدراسة الثانية فرع من علم النفس، وسنقوم الآن بهاتين الدراستين، ونتتبع فيهما أطوار حياته ﷺ.
الطور الأول: ولد ﷺ يتيماً عائلاً، لم يرث من والده شيئاً، لأن أباه مات قبل جده عبد المطلب وهو شاب لا يكاد يجاوز حد العشرين، فلم يرث شيئاً من مال أبيه، ولم يتمكن من أن يجمع شيئاً لأبنه. بل مات بعد شهرين من حمله، ثم لم تلبث أمه أن ماتت بعد موت أبيه، فكفله جده عبد المطلب، ثم كفله بعد وفاة جده عمه أبو طالب.
وكانت قريش تعيش في مكة عيشة متحضرة تعتمد على العمل والكسب، ولا تعرف ما تستنه البادية العربية في معيشتها من الغزو والنهب، فنشأ محمد ﷺ على غريزة قومه، محباً للعمل، راغباً في الكسب الحلال، وهو الذي قال بعد هذا في رسالته: أطيب الحلال أن يأكل الرجل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده
فلما بلغ مبلغاً يمكنه معه أن يعمل عملاً أخذ يرعى الغنم مع أخوته من الرضاع في البادية، ثم مضى في هذا العمل بعد أن رجع إلى مكة، فكان يرعى الغنم لأهلها على قراريط يأخذها منهم، كما روى هذا الإمام البخاري في صحيحه.
وكان في هذا الطور يميل إلى شيء من اللهو البريء، وتدركه عناية الله فيه كما تدرك كل شاب موفق، وقد حكى عن نفسه في ذلك بعد رسالته فقال: لما نشأت بُغَضت إليَّ الأوثان وبُغِضَ إليَّ الشعر، ولم أهمُّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كلُ ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، ثم ما هممت بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته، قلتُ ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمرَ كما يَسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدُفوف والمزامير لعُرْس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ولم أقض شيئاً، ثم عراني مرّة أخرى مثلً ذلك.
الطور الثاني: فلما بلغ ﷺ اثنتي عشر سنة أخذ يعمل في التجارة مع عمه أبي طالب، فسافر معه إلى الشام للتجارة وهو في هذه السن، ولما حذق التجارة انفرد بنفسه عنه. وكان في مكة سيدة تاجرة ذات شرف ومال تدعى خديجة بنت خويلد من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، وكانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فسمعت عنه من الأمانة والصدق ما رغبها في أن تستأجره للتجارة في مالها، وكانت سنه في ذلك الوقت خمساً وعشرين سنة، فاستأجرته ليخرج في مالها إلى الشام للتجارة، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، فسافر إلى الشام مع غلامها ميسرة، فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً، فسرت به تلك السيدة الكريمة، وكان زوجها قد توفي ولم تتزوج بعده فأرسلت إليه تخطبه لنفسها وكانت سنها نحو الأربعين، فقام مع أعمامه حتى دخل على عمها عمر بن أسد فخطبها له منه عمه أبو طالب، فزوجها عمها له، وصارت بهذا زوجه خمساً وعشرين سنة، وكان يعمل في مالها ويأكل من نتيجة عمله، على إنها ما كانت تضن عليه بشيء منه.
الطور الثالث: وكان في نفسه ﷺ ميل إلى عبادة ربه، وإلى العزلة عن ذلك المجتمع الموبوء برذائل الجاهلية، فلما رزقه الله بتلك الزوجة الكريمة، وصار له مال يساعده على قضاء حاجة نفسه من عبادة ربه، كان يقصد كل سنة في شهر رمضان إلى غار حِرَاءَ، فينقطع فيه للعبادة، وكانت قريش تفعل ذلك في جاهليتها، ولم يبتدع منه ﷺ شيئاً جديداً لم يكن يفعله أحد من قومه.
وكان يخلو بهذا الغار فيتعبد فه الليالي ذوات العدد، فتارة عشراً، وتارة أكثر إلى شهر، ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى زوجه فيتزود لمثلها.
وهذا الطور آخر أطواره قبل النبوة، فإذا أردنا أن نستخلص منها شيئاً من خصائصه ﷺ فيها وجدناه رجل عمل يعتمد على نفسه، ويأخذ في ذلك بما اشتهر به قومه من الحذق في التجارة، والرحلة فيها إلى الأقطار القريبة والنائية، لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يهتمون بغيرها مما كان يهتم به غيرهم من العرب، حتى عيرهم بهذا بعض شعرائهم فقال:
ألهي قُصيًّا عن المجد الأساطيرُ ... ورشوةٌ مثل ما ترشى السفاسيرُ
وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له ... وقولها رحلت عيرٌ أتتْ عيرُ
وكان في هذه الحياة العملية من أحسن قومه خلقاً، واصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان من أفضلهم مروءة، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، فأحبوه وركنوا إليه ولقبوه الأمين حتى غلب على اسمه هذا اللقب.
وكان على علمه بفساد ما عليه قومه من عبادة الأصنام وما إليها يكتفي من هذا بالعزلة التي أخذ نفسه بها، ويأخذ بما يأخذ به بعض الناس من الاهتمام بإصلاح نفسه وعدم الاهتمام بإصلاح غيره، وكأنه كان يضن بذلك الحب الذي يحبوه قومه به أن يفسده بتخطئتهم، وتسفيه ما ألفوه من عبادة أصنامهم، فمضى لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يعني بشيء من أمر غيره، اللهم إلا بعض الأعمال الصالحة التي كان يقوم قومه بها، فكان يشاركهم فيها ويقوم بنصيبه منها، كما حصل منه في حلف الفضول بدار عبد الله بن جُدْعان التَّيمي، وكان المتحالفون فيه بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسد بن عبد العزّى، وبني زهرة ابن كلاب، وبني تيم بن مرَّة؛ تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم من سائر الناس ألا قاموا معه حتى ترد إليه مظلمته، فحضر محمد ﷺ هذا الحلف مع أعمامه وقال فيه بعد رسالته: (لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمُرَ النَّعَم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)
ولم يعن ﷺ في هذه الأطوار بشيء من الفصاحة والبلاغة، ولم يحاول أن يكون بين قومه خطيباً أو شاعراً، بل يكره الشعر كرهه لعبادة الأصنام، مع أن الجزيرة العربية كانت تعج في ذلك الوقت بالشعراء والخطباء، ولكن قريشاً كانت لا تعني بشيء من ذلك، وإنما كانت تعني بالمال والتجارة عناية أبناء عمومتهم من اليهود، حتى كان حظها من الشعر دون حظ غيرها من القبائل، وإن كانت لغتها أفصح اللغات العربية، وإن كانت مواسم الأدب وأسواقها لا تقوم إلا في بلادها.
وقد قضى محمد ﷺ في هذه الأطوار أربعين سنة من عمره، قضاها على ما وصفناه في حياة هادئة، وعيشة مطمئنة، لا تحدثه نفسه فيها بشيء مما حصل منه بعدها، ولا تطمح في أميتها وقناعتها إلى أكثر مما وصلت إليه فيها.
الطور الرابع: وقد بلغ ﷺ أربعين سنة فإذا به ينتقل فجأة من تلك الحياة الهادئة إلى حياة عنيفة يشتد فيها الخصام بينه وبين قومه، وينقلب ما كان فيه من عدم المبالاة بأمرهم حرصاً على مودتهم إلى اندفاع شديد نحو الاهتمام بأمرهم، وإن أدى هذا إلى انقطاع تلك المودة التي كان يحرص عليها، وكان في أهنأ ما يكون من العيشة بها بينهم؛ وإذا به وهو ذلك الأمي الذي لم يجلس إلى معلم، ولم يشتغل في تلك الأربعين سنة إلا بما ذكرناه من التجارة ورعي الغنم، ينقلب إلى خطيب لا يدانيه خطيب في فصاحته، وعالم لا يدانيه عالم في علمه، وبيده كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يدعو به الناس أجمعين، ويهديهم إلى دين الله الصحيح، وترك ما دخله من التغيير والتبديل والتحريف، ويجلب على نفسه بهذا عداء الوثنية وزعمائها من قومه، وعداء المجوسية وزعمائها من الفرس وأكاسرتها، وعداء النصرانية وزعمائها من الروم وقياصرتها، وعداء اليهودية وزعمائها من اليهود وأحبارها.
فما هذا كله؟ وما هذا الذي جعل من محمد الأمين بين قومه عدوهم اللدود وخصمهم العنيد؟ لقد اختلفوا عند بناء الكعبة وهو ابن خمس وثلاثين سنة في الحجر الأسود أيهم يرجعه إلى موضعه من الكعبة، ثم اتفقوا على أن يحكموا بينهم أول داخل إليهم، فلما دخل إليهم قالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فبسط رداءه ووضع الحجر عليه، وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه، فأخذه ووضعه فيه.
فما هذا الذي جعله بعد هذا يعرض نفسه لأن يتهموه بكل شنيعة من القول؟ فيقولوا عنه مرة إنه ساح، ومرة إنه شاعر، ومرة إنه كاهن، ومرة إنه مجنون.
إنه لم يفعل هذا من نفسه، ولو أنه خلى ونفسه لمضى في تلك الحياة الهادئة إلى نهاية أمره، وإنما كان يعمل في هذه الحياة الجديدة بأمر طرأ عليه، وغير من نفسه ما شبت عليه في تلك الأربعين السنة.
فبينما هو في غار حراء قائم في بعض الأيام على الجبل إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله إلى هذه الأمة، ثم قال له أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، لأنه كان أُمياً كما سبق، فأخذه فغَطّهُ بالنمَطِ الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الَجهْد، ثم أرسله، فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه ثانية ثم أرسله فقال: أقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال: (أقرأْ باسم ربكَ الذي خلقَ، خلقَ الإنسان من علقٍ، أقرأْ وربكَ الأكرمُ، الذي علمَ بالقلَم، علمَ الإنسانَ ما لمْ يعلمْ).
فرجع بها ﷺ يرجف فؤاده مما ألم به من الروع، فدخل على خديجة زوجه فقال: زمّلوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه روعه، فأخبرها الخبر، وقال لها: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرَّحِم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلا يسلط الله عليك الشياطين أو الأوهام، ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك.
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره خبر ما رأى، فقال له: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، ثم قال: يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
وقد حقق الله نبوءة ورقة بهذه الهجرة التي نحيي ذكراها كل سنة.
وهذا هو حكم التاريخ وعلم النفس في رسالة محمد ﷺ، وهذا يا إلهي بعض جهادي في نصر دينك أشكو إليك ما ألقاه بسببه من أذى، وهو لذتي في هذه الدنيا إذا التذ قوم بمتاعها، وأنت حسبي ونعم الوكيل.
عبد المتعال الصعيدي