مجلة الرسالة/العدد 247/حول الكعبة
مجلة الرسالة/العدد 247/حول الكعبة
للدكتور الحاج عبد الوهاب عزام
الليل مهودَّ وسننْان، ترى العين سكونه، ويُحس القلب سكينته؛ ونسيم السَّحر يسري رفيقاً ينفح الخليقة لا أدري أيبغي إيقاظها أم إنامتها؛ والقمر ينضح الكون بأشعته يخفق مع النسيم نوره؛ وقد أصحت السماء إلا قَزعاً في الأرجاء؛ وتبدو في سكون الليل ونور القمر قمم الجبال: غندمة وأبي قبيس وأجياد.
استغرقت الخليقة في أحلامها الجميلة، وشُغل الليل بشعره البليغ، ففيه إصاخة الشاعر للمعنى الجميل المخترع.
ولكن طرق مكة لا تنام، ولا تفتر عنها الأقدام، فأنظر في ضوء القمر، وفي ظلال الدور، زرافات متمهلة أو مسرعة، ذاكرة أو صامتة، تؤم البيت الحرام.
الليل هاجع، والخليقة نائمة، ولكن هذه القلوب الوالهة لا تهجع؛ ولكن هذه العيون الباكية لا تغمض، ولكن هذه الزفرات المردّدة لا تسكن، ولكن هذه الألسنة الذاكرة لاتفتر. قد استوى ليلها ونهارها، وعشيها وإبكارها.
هذا هو المسجد الحرام! فهل تقع العين إلا على مُصَلٍ خاشع، وطائف بالكعبة واله، وقارئ تنطق بضراعته الآيات، وداع يرسل قلبه في كلمات؟
كم قلب محزون حمل إلى هذا الجناب شكواه، وفؤاد معذب يبث في هذه الساحة نجواه! وكم آثم حط في هذا الفناء الأوزار، ليمحقها بالتوبة والاستغفار! وكم دَنِس جاء ليتطهر من هذا النهر، وكم يائس ورد يستقي الرجاء، ومحروم أقبل يستدر العطاء! وكم نفس مظلومة ترفع ظلاماتها، وأخرى ظالمة تعترف بجناياتها! وكم مكلوم جاء بجراحاته، وأرسل آهاته وأناته! وكم ثاكل يحمل قلبه كسيراً، ويسيل دمعه غزيراً. كل ضارع على هذا الباب، ضائع عند هذه السدّة، يهاب هذا العِظَم، ويرجو هذا الكرم. أكداس من الآلام والآمال، وأشتات من الهموم والأمانيّ، والشكران والشكوى، والدعاء والنجوى، والتضرع والحمد!
ووراء هؤلاء في المشرق والغرب قلوب توجهت شطر هذا البيت كما تتوجه الإبر إلى القطب، وتنزع إليه نزوع الغريب إلى ولده وداره. فكم مصلٍّ في أرجاء الأرض ولّي هذا الجناب وجهه وقلبه! وكم داع قصد هذا القصد على بعد المزار ونأى الديار! أترى الدعوات تهفو على الكعبة مع هذا النسيم، والصلوات تتنزل عليها في هذا الضوء، وأسراب الآمال طارت من المغرب والصين لتطوف مع الطائفين؟ أترى سوداوات القلوب اجتمعت فكانت هذا البناء، أم أناسيّ العيون تراكمت فكانت هذه البنيَّة السوداء؟
انظرُ فلا أجد في هذا البناء تمثالاً ولا صنماً ولا وثناً ولا صورة ولا نقشاً. إنما هو التوحيد في خلوصه، والعقيدة في يسرها، والإسلام في فطرته. بيت لعبادة الله يؤمه عباد الله، تجتمع حوله القلوب، وتلتقي في الدعوات! بيت من التوحيد يحسّ، وبناء من الأخوة يُلمس.
ما أروع هذا مشهداً! صلاة ودعاء، وطواف وبكاء، يسيل بها الإصباح والإمساء. من لي بالخلوة في هذا الزحام، والوحدة في هذه الكثرة، والسكون في هذا العباب، والقرار في هذا المحشر! بل من لي بأن أقف على الساحل من هذا البحر لأرى واسمع!!
صعدت إلى مصلى الشافعي فوق زمزم فإذا هو خلاء، فأشرفت على هذا الجمع أرى جموعاً متوحدة، ودعوات متجسدة، وألفاظاً تنطق بمعنى واحد، وظلالاً يمدها نور واحد. وكان للقلب مجال بين الكثرة والوحدة، والظهور والخفاء، والوجود والفناء. وليت اللحظات امتدت فاتصلت بالأزل والأبد!
وينبعث في هذا الدويّ، بل يشع بين هذه الأصوات صوت الأذان: (الله اكبر. الله أكبر)، وينتظم شعار التوحيد هذه الأصوات؛ فإذا الدعاء صمت، والحركة سكون، وإذا هذا الجمع نفس واحدة تصيخ إلى صوت واحد.
ما أجمل هذا الصوت وما أروعه! عظمة الله تغشى هذا المشهد، وكلمة التوحيد تملأ هذا المسجد. قلت لنفسي: (ليت الإنسان يستمع أبدا إلى آذان الفجر في جوار الكعبة!) قالت: (أما الأذان فهو دائم موصول لا تخلو منه ساعة من ليل أو نهار. فالأوقات في أقطار الإسلام مختلفة، فما يسكن أذان في بلد إلا ارتفع أذان في آخر ابد الدهر. تكبير دائم لمن كان له سمع، وذكر مستمر لمن كان له قلب. وأما الكعبة فأنت في جوارها كل حين إن لم تكن أسير البقاع ورهن الحجب).
هلم إلى الرحيل! طفت طواف الوداع، وأديت مع الجماعة صلاة الصبح، وقد أُعدت السيارات والرفاق ينتظرون؛ ولكن النهار لم يسفر فما يعجلني عن هذا المكان؟ هلم قد حان الرحيل وليس من الذهاب بد. ولكن الرحيل يمكن إرجاؤه لأتزود للبين نظرات، واجمع للفراق ذكريات. . . قد حان الرحيل ولا مناص:
خرجت امشي يقول قلبي ... للرِّجل: بالله أَنظِريني
رحم الله حافظاً الشيرازي الذي يقول:
وكيف يطيب العيش في منزل المنى ... وأجراس هذا السَّفْر للبين تقرع
عبد الوهاب عزام