انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 246/البيئة الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 246/البيئة الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1938



للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

يعجبني من عادة (الرسالة) في إخراج عددها الهجري الممتاز أنها توجه قراءها في أنحاء العالم الإسلامي العربي مرة في العام على الأقل إلى موضوع هو أجل ما ينبغي أن يشغل بال المسلم: موضوع الإسلام والحياة به وله والجهاد في سبيله

والمسلمون اليوم ينقصهم مذكر مؤثر يذكرهم بدين الله وبحقه عليهم: حق العمل وحق الجهاد. والعمل هو من الجهاد أو هو أكبره كما قال رسول الله حين رجع من إحدى غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) والمسلمون اليوم قد أضاعوا الجهادين، فلا هم يجاهدون العدو فيؤدوا الجهاد الأصغر، ولا هم يجاهدون النفس ويقومون بحق الله في أنفسهم وفي الناس فيؤدوا الجهاد الأكبر. وليس ينقص المسلمين العلم بما عليهم لله في أنفسهم وفي إخوانهم، فإنهم يعلمون من ذلك ما إن عملوا به لكفاهم، ولكن ينقصهم العمل بما عندهم من العلم المستفيض فيهم

والعجيب من أمرهم اليوم أنه لا يحول بينهم وبين العمل المنجي إلا صغائر الشهوة يعجزون عن مخالفتها، وحقائر المغريات يضعفون عن مقاومتها. وأعجب من هذا أن كثيرين منهم حين يطيعون المغريات يظنون بأنفسهم الحكمة ويحسبون أنهم يتابعون الصواب. وهذا شر ما في الأمر كله وأفظعه وأهوله، فإنه يدل على مبلغ بعدهم عن الدين الذي ينتسبون إليه وقربهم من الشرك الذي يبرأون منه؛ وظنهم هذا بأنفسهم يزيد في يأس اليائس منهم ويجعل عبء المتصدي لهدايتهم ثقيلاً لا يقوم به من ولي العزم إلا من يلحظه الله بتوفيق وتأييد

وعبء رد العاصي إلى الطاعة والضال إلى الهدى والمخطئ إلى الصواب عبء ثقيل على أي حال، لكن شتان بين من يقر بخطئه أو بمعصيته يود لو خرج من كل ذلك، وبين من يجادل فيما هو عليه لا يرى به بأساً إن لم يره عين الخير. فالأول ليس بينه وبين الطاعة أو الهدى أو الصواب إلا العادة، وليس أمام الداعي إلا أن يحرك فيه دواعي التغلب على العادة ويدله على الطريق حتى يتغلب بالفعل، فتنقلب العادة عوناً له بعد أن كانت عوناً عليه. أما الآخر فأصعب الصعب في أمره إقناعه بخطئه أو ضلاله، وتحريك عو الأسف والندم فيه حتى يصبح كأخيه ليس بينه وبين الاستقامة إلا أن يجاهد العادة حتى يصبح سلطانها معه بعد أن كان عليه

والصنف الأخير من المسلمين قد أخذ يكثر كثرة تضيق منها الصدور وترتاع لها القلوب، ولم يكن الحال كذلك منذ ثلاثين عاماً أو أقل. كان هذا الصنف موجوداً لكنه كان قليل العدد قليل الجرأة خافت الصوت؛ وكان ما يسمى بالرأي العام ضدهم إذ ذاك في الجملة؛ كان يدعهم وشأنهم ماداموا منزوين، لكنهم كانوا إذا حاولوا الظهور ولو باسم الإصلاح والتجديد لقوا منه عنتاً غير قليل

والرأي العام ليس وليد نفسه، ولكنه وليد بيئته. ولقد كانت البيئة في ذلك الحين لا تزال دينية الروح إسلامية النزعة إلى حد كبير؛ لكنها الآن قد تغير روحها وانعكست الآية فيها في المدن، ويوشك هذا التغير أن يتخطى المدن إلى القرى على أمواج الراديو وأفلام السينما وصفحات الصحف ولو بالتدريج. فهذه الثلاثة هي أهم مكونات البيئة اليوم، وقليل منها الآن ما لا يمكن أن يوصف بأن فيه من الإسلامية كثيراً أو قليلا

فالسينما أكثر أفلامها مصنوع في الغرب وأقلها مصنوع في الشرق. ومع أن هذا الأقل مصنوع في مصر التي تطمع أن تتزعم الأقطار الإسلامية إلى الخير والعزة والمجد، فإنه وذلك الأكثر المصنوع في الغرب سواء في مجافاته للدين ومنافاته لما يليق، بل قد يبذ الشرقي الغربي في ذلك كعادته في الإفراط والتفريط. لا يكاد الوالد الحريص يجد بين جميع ما يعرض في مصر من الأفلام ما يمكن أن يروح عن أولاده بأخذهم إليه من غير أن يعرضهم بذلك إلى تلويث الذهن وتدنيس الخاطر. بل لقد أصبحت السينما وخصوصاً ما تخرجه مصر من أفلامها خطراً حقيقياً على الأخلاق في هذا القطر وما يتأسى به من الأقطار. فلقد كانت هناك مسارح للتهتك والخلاعة منزوية في أماكنها التي كنا نحذرها ونحن صغار، فأصبحنا وليس يغني التحذير من مفاسدها شيئاً بعد أن أعطتها صناعة السينما قوة التكاثر كما تتكاثر الجراثيم فصارت تنتشر بأفلامها في المدن والقرى، تنشر عدوى الفساد الخلقي كما تنتقل الجراثيم فتنشر عدوى الأمراض

وما يقال في تأثير السينما يمكن أن يقال في مثله تأثير الراديو مع اختلاف في المقدار. فهو كالسينما من العوامل الفعالة الطارئة على البيئة الإسلامية، وهو جدير أن يغير منها إما إلى الخير وإما إلى الشر، ولكنه الآن إلى الشر أقرب. فإنك إذا استثنيت ما يذاع من القرآن الكريم والقليل من محاضرات الإرشاد، تجد الغالب على إذاعاته المجون والخنوثة والاستهتار. خذ بيدك أي برنامج عادي للإذاعة في أي يوم واحسب ما للهزل فيه وما للجد، تجد ما للهزل أضعاف ما للجد، وتجد أكثر هزله هزلاً غير بريء، بل بعض جده جداً غير بريء كذلك

على أن المصيبة بالراديو أعظم من المصيبة بالسينما من بعض الوجوه، فإنك تستطيع أن تتقي شر السينما خاصة نفسك بالقعود عن الذهاب بأولادك إليها، وإن كان في ذلك شيء من العنت. لكن ماذا تصنع وهذا الذي تتهرب منه بحرمان نفسك من تسلية السينما يدخل عليك وسط دارك من الراديو وأنت بين أهلك وذويك؟ إن مجون الريحاني وأضرابه وخلاعة مصابني وأضرابها تلاحق المسلم بالراديو في عقر داره. وإذا أمكن التحرز من ذلك إلى حين بإغلاق الراديو فلابد أن يأتي يوم يمل الإنسان فيه الرقابة، ويترك الراديو كالورد الخبيث مل الراعي ذود القطيع عنه. على أن المسألة ليست مسألة فرد أو أفراد يعرفون الخطر ويستطيعون توقيه بشيء من كبت الرغبة وضبط النفس، ولكن المسألة مسألة الجماهير التي لا تستطيع تمييزاً ولا امتناعا. فإذا لم يكن ما يذيع الراديو سليماً طيباً كان الراديو شراً ووبالاً على الناس ينقلهم خلسة عما ألفوا من الخير إلى ما لا يريدون أن يألفوا من الشر ومذاهبه، وينبه فيهم من نزعات السوء ما لم يكن لولا الراديو ليتنبه فيهم. والراديو الآن يخلط الصالح بالسيئ إلا أن سيئه أكثر من صالحه، وهو على أي حال كان إلى الآن عاملاً على تغيير البيئة في الأقطار الإسلامية تغييراً يبعد بها عن الإسلام

وغير الراديو والسينما من مكونات البيئة الحديثة ينحو منحاهما وإن لم يبلغ مبلغهما من القوة والذيوع. ولعل أهم هذه هي الصحف وهي مثلهما قوة هائلة تعمل في كيان البيئة، إما بتعمير وإما بتدمير. ولقد كان عهد ليس للصحف في البيئة الإسلامية من أثر، ثم جاءت الصحف وعرفها الناس لكنها في أول عهدها لم تكن تجرؤ على الخروج عن مألوف الناس من فضيلة ودين. بل لقد كانت الكلمة العليا بين الصحف إذ ذاك للإسلامية منها أيام كان المؤيد واللواء ليس لهما في ميدان الصحافة قريع. وكانا رحم الله أيامها وعوض المسلمين خيراً منهما مهما اختلف بهما يبل السياسة لا تختلف بهما سبيل الدين. فكانا لا يكادان يشيمان الخطر على الدين من ناحية ولو من بعيد حتى يهبا لاتقائه وتنبيه الناس إلى الاستعداد له قبل وقوعه. ثم ذهبت بهما الأيام فكأنما ذهبت بذهابهما ريح الدعوة لله والمنافحة عن الإسلام. وكثرت الصحف حتى صارت عشرات بعد آحاد، لكنها كانت حرباً على الإسلام في غالبها. كانت بين مهاجم له ومعين عليه بالسكوت أو بنشر الرد الضعيف بعد الهجوم العنيف؛ وقل بينها ما كان يهب للدفاع حيناً بعد حين. أما الثبات في الدفاع والصمود للخصم صمود المؤيد مثلا لرينان وهانوتو فلم يكن في القائمين على الصحف الإسلامية من يجشم نفسه ذلك. وكان من أثر توالي الهجوم وتلكؤ الدفاع أن دخل الخصم من حصون البيئة الإسلامية حصناً بعد حصن. فذهب الحجاب وكأنما ذهب بذهابه الحياء؛ وجاء السفور وكأنما جاء بمجيئه الفجور. وكان الفجور يكاد يكون وقفاً على الرجال فأصبحوا بعد أن فشا الرقص والاختلاط يغلبهم عليه النساء

إنا لله. لشد ما غفل عن دينهم المسلمون حتى أتوا من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون! ماذا كان عليهم لو أنهم عملوا بدينهم وأطاعوه فكفوا أنفسهم كل هذه المصايب والويلات؟ إن الرجل اليوم ليأمر ابنه فلا يسمع له، ولا يجرؤ على أن يأمر ابنته خوفاً من أن تجترئ وتجاهر بالعصيان، كأنما إقراره إياها على خطأ لا يجعلها ترتكب غيره من الأخطاء، أو كأنما مجاراته إياها فيما لا يرضي الدين سيجنبها الهوة التي لابد أن يتردى فيها كل من يعصي الدين

لقد كانت البيئة الاجتماعية يغلب عليها الشر قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام طفق يجتث منها أصول الفساد، وطفق يصلح ويهذب ويطهر حتى ذهب عنها الرجس، وشاع فيها الطهر، وعم فيها النور؛ وأصبحت من ينشأ فيها ينشأ سليماً صحيحاً قويماً كالزرع في التربة الطيبة يأتيه النور من كل مكان. ثم أراد الله الذي يعلم أن الإنسان ابن بيئته أن يديم للإنسان نعمة إصلاحها فأقام حولها وفيها الحدود حداً بعد حد كحصن اجتماعي بعد حصن يقيها تطرق الفساد. فجلد على الخمر، وجلد ورجم على الزنا، وحرم الخلوة ومنع الاختلاط إلا للضرورة، واحتاط في المنع فضرب الحجاب. وقطع يد السارق بعد أن منع الربا، وأوجب الزكاة. فكانت بيئة طاهرة زكية يزكو فيها النشء كما يزكو النبات في البلد الطيب. فلما أصلحها للناس أمرهم أن يحافظوا على صلاحها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود، وأنزل عليهم (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) فأحسنوا وأطاعوا ما أقام بينهم الرسول. فلما علم أنه مفارقهم عن قريب حج بهم حجة الوداع وخطبهم خطبة الوداع التي لا يكاد يحفظها الآن مسلم:

(أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا

أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .

أيها الناس! إنما المؤمنون اخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .)

هذا بعض ما عهد الرسول به إلى المسلمين في ذلك الموقف العظيم. فلما قبض أحسن المسلمون خلافته وأحسنوا السمع والطاعة لله ولرسوله وللخليفة الأول ومن بعده؛ وسار فيهم رضي الله عنه متأس بالرسول، حاملا أيهم على الحق ضارب لهم المثل بنفسه، جاعلاً طاعة الله أول الأمر وأخره (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه)

فلما قبض رضي الله عنه خلفه في المسلمين من كان يرعاهم رعي الأم ولدها، ويذودهم عن المهالك ذود الراعي غنمه (اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلعة، فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبيء؛ وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً). وكان أكبر ما يحرص عليه رضي الله عنه ألا يتطرق إلى البيئة الإسلامية خلل أو فساد وأن بقي ضعيف النفس من المسلمين شر المغريات، حتى أنه لما سمع المتمنية تتمنى نصر بن حجاج دعا به، فلما رآه نفاه من الأرض، وأمر ألا يغيب رجل في الغزو عن بيته فوق أربعة أشهر كما أمر ألا ينزل المسلمون منازل المترفين في البلاد التي يفتحونها مخافة أن يخرجوا من أخلاقهم شيئاً فشيئاً إذا اختلفت بهم البيئات ثم كان أن جاءت الفتن وتغير الحال ووجد الشيطان سبيلاً إلى تلك البيئة الإسلامية المصونة عن طريق الهوى. وترخص الخلفاء بعد عهد الراشدين واحتالوا على الجمع بين هواهم وبين الدين، وهيهات؛ فكان منهم من امتُدح وتمنى المادح عليه ألا يُحد في الخمر فقال ذلك حد من حدود الله لا سبيل إلى إبطاله، ولكن سأحتال لك فكتب إلى عامله على بلد الشاعر المتهتك: من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين! وظن ذلك الأحمق أنه لم يبطل حد الله حين أفتاه شيطانه بهذا وقد أبطله بالفعل أيما إبطال إذ كان الناس يمرون على ابن هرمة مطروحاً فلا يمسونه ويقولون: من يشتري ثمانين بمائة؟ ومع ذلك فقد كان ذلك الخليفة العباسي يوصف بفقه ويلحق بالعلماء

مثل هذا النوع من الحكام وهذا الضرب من الاحتيال على إبطال أحكام الله حين تخالف منهم هوى أو شهوة هو الذي أفسد البيئة الإسلامية بعد إصلاحها، ففسد بفسادها الناس، فذهبت عنهم العزة وذهب ملكهم عن أقطار استعمرها آباؤهم بالدين والحسن الطاعة لله والنزول على أمره. ولن يستقيم للناس حال حتى ترد البيئة إسلامية خالصة كما كانت (يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)

محمد أحمد الغمراوي