انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 246/البحث عن غد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 246/البحث عن غد

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1938


ٍ

للأستاذ عباس محمود العقاد

الغربيون اليوم معنيون بالبحث في مسائل الشرق من جوانبه كافة. . من جانب السياسة، لأن نهضة شعوبه تضطرهم إلى حسبان حسابه والعدول عن خطة استغلاله والسيطرة عليه؛ ومن جانب الدين، لأنهم حائرون في شئونهم الروحية يلتمسون الهداية من مهبط الأديان، أو يقابلون بين سلطان الدين عليه وسلطان الآراء الحديثة عليهم؛ ومن جانب التجارة، لأن العلاقات التجارية بين الدول الكبرى لا تستغني عن أسواق الشرق ومنابع الثروة فيه؛ ومن جانب السياحة والرحلة واستكشاف مواقع التاريخ القديم، وكل جانب تتحول إليه عناية الباحثين في مسألة عامة

ومن الباحثين الصحفيين المشغوفين بالمسائل الروحية (روم لاندو) صاحب كتاب (الله محجة مغامراتي)، وصاحب هذا الكتاب الذي عنوانه (البحث عن غد)، وموضوعه استطلاع أحوال الشرق القريب من جانب الدين والنهضة النفسية إن صح أن نطلق عليها هذا الاسم تمييزاً لها من النهضة العلمية البحت والنهضة الصناعية الاجتماعية التي تقابل نظيرتها في الأقطار الغربية

حضر إلى مصر وتحدث فيها إلى رجالات الفكر والسياسة ولخص هذه الأحاديث في كتابه، وسنعرض لها جميعاً، ونبدأ بنقل حديثه مع رئيسي الجامعتين الأزهرية والمصرية، حيث قال بعد تمهيد طويل للحديث مع صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغي وقد زاره في بيته بحلوان:

(سألني: هل تبحث عن المسائل الدينية أو مسائل ما وراء الطبيعة؟ ولما كان الفارق بين هذه وتلك ليس بالفارق العظيم في نظري أجبته بشيء من الروغان: كلاهما؛ إلا أنني أشد عناية بما وراء الطبيعة

فقال الشيخ العلامة: قليلة المحصول، قليلة المحصول جداً

وكانت لهذه الكلمة دلالتها، لأنها تشير إلى طبيعة الإسلام العملية كما تمثلت في أكبر رعاته بين المصريين

ومع علمي بعض العلم بأساليب المناقشة الشرقية لاحظت على الأستاذ المراغي أنه يتنحى عن الجواب في كثير من الأحيان، وأن أسلوبه أسلوب رجال السياسة؛ وناهيك بهم إذ يكونون شرقيين مع ذلك، وعلى خبرة بالمواقف المعضلة، وحرص من التورط في التصريح، فهو في البيئة الغالبة على فقهاء الإسلام لا مراء

وعدت أقول: لقد سمعت أن الشبان عندكم يجنحون إلى نزعات (التفكير الحر) ويحاولون أن يزيدوا القرابة بين الدين والعلم. فهل صحيح ما سمعت؟

فقال الشيخ: (لا أظن الشبان المصريين أقل تديناً اليوم من أمس؛ إذ ليس في القرآن ما يعارض الحقائق العلمية، ولا تناقض بينهما في شيء

وأردت أن أخوض فيما أصرح وأجرأ مما تقدم فسألت: ألا ترى أن العنصر الروحي - أو الغيبي المتصل بما وراء الطبيعة - هو أهم العناصر في الديانات؟

قال الشيخ في سكينة ولطف: من ذا الذي يعلم كنه الله وكنه الروح؟ إن بعض أساتذتنا يتحدثون عن المادة كأنها حقيقة، وبعضهم يتحدثون عنها كأنها وهم أو فرض مفروض؛ وليس من يعلم الصواب علم اليقين، فإن القرآن لا يفصل بين القولين، ولكنه يحكم حكمه في أمور شتى كأمور الزواج والمواريث والمعاملات

فسألته: وماذا تقولون في قبول العلماء لنظرية قدم المادة؟

ولا ريب أن الأستاذ المراغي لم يكن يتوقع قط أنني علمت شيئاً عن هذه القضية، إلا أنه لم يظهر الدهشة، ولم يبد عليه إلا قليل من مفارقة السكينة التي لزمته حتى الساعة كأنها قناع لإخفاء ما وراءها من قلة الاكتراث. فقد انبعثت الحياة من خلالها وقال:

(إنك لم تقع على الخبر الصحيح في هذه القضية، فليس هناك إلا أن عالماً كتب رسالته في علم الأصول ليعبر فيها عن رأيه وما انتهى إليه اجتهاده)

فبادرت قائلاً: ألم يكن صاحب الفضيلة وأعوانه من العلماء مرجع الامتحان في هذه القضية؟

فابتسم الشيخ المراغي وهو يقول: (إن رأياً كهذا قد كان يحسب من الزندقة قبل خمسين سنة، وما كان أحد ليجسر على تقديمه في جامعة إسلامية. فما أعظم التغير في أطوار الزمان! نحن اليوم أدنى إلى الحرية والسماحة)

واستطرد الكاتب إلى أسئلة وأجوبة من هذا القبيل، انتهى منها إلى المذاهب الاجتماعية والشطط في الدعوات الفكرية، وسجل رأي الشيخ الأكبر أن الوقاية من جميع ذلك إنما هي الدين وتعليم الإسلام على أصوله

أما حديثه مع صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا فقد مهد له بوصف الأستاذ وملابسه الإفرنجية الأنيقة ومعيشته العصرية، ثم استهله بهذا السؤال:

(ما هي أكبر رسالة ثقافية قامت مصر بأدائها في رأيكم خلال القرون الأربعة التي خضعت فيها للحكومة التركية؟)

فأجاب وأصابعه النحيلة تعبث بحبات المسبحة العاجية: (إنما هي عمل الجامع الأزهر في جميع الكتب الفقهية)

فقلت: ألا ترون أن حصر رسالة ثقافية تؤديها الأمة في عمل واحد لا يتجاوز جمع الموضوعات الفقهية خليق أن يشير إلى شيء من ضيق النطاق؟

فرفع لطفي باشا حاجبيه هنيهة واضطرني بذلك أن أعقب على ما أسلفت مستدركا:

(إن كثيراً من الغربيين يزعمون أن تفكير العرب (تجريدي). . . فإذا كانت العبقرية القومية لا تخرج في مدى القرون الأربعة ثمرات ثقافية غير الفقه والشريعة فهذا الزعم ليس بالمخالف كل المخالفة للإنصاف فيما يلوح لأول نظرة)

فسألني: ماذا تعني بالتفكير التجريدي؟

قلت: إن التفكير الإنجليزي مثلاً واقعي مجار للحوادث، لأنه يتناول كل حادثة كما تعرض في حينها، وهو من ثم نقيض الفروض النظرية والمباحث الجدلية. أما تفكير العرب فهو رهن بالقواعد المرسومة والنظريات المعلومة؛ ويلوح عليه أنه شبيه بهندسة البناء العربية، لا يحتوي صورة من صور الحياة الماثلة في بنية الإنسان وملامح وجهه، وكل ما فيه هندسة وتناسق خطوط. . .)

قال لطفي باشا وهو يشفع كلامه بابتسامة معتذرة:

(آسف لأنني لا أستطيع مجاراتك في حكمك. فالذي يبدو لي أن الفكر العربي أشد إيغالاً في الواقعيات من الفكر الأوربي. وهذه شريعتنا الدينية التي استشهدت بها على نزعته التجريدية تتناول شؤون الحياة اليومية ولا تقتصر على مسائل اللاهوت والأخلاق كما هو الحال في الشريعة المسيحية؛ وهي تفيض بالوصايا في أمور المعيشة والزواج والميراث وما شاكل ذلك. وأحسب أننا أقرب إلى معرفة الحقيقة حين ندرس (مخيلة) الأمة كما تتمثل في ديانتها. فكيف ترى (المخيلة المسيحية) نتصور السماء والفردوس؟ إن سماء المسيحيين هي نعيم غير ذي أشكال، أو هي شيء لا يسعك أن تراه ولا تقع عليه العيون، بل شيء لا يسعك أن تحيط به في الخيال. أما المسلمون فكيف تراهم يتخيلون السماء؟ إنها دار حقيقة فيها اللبن والعسل والعسجد، وفيها الأزهار والأشجار والحور العين، وهي كلها حقائق ومشاهدات. . . أفليس هناك معنى ملحوظ لاتفاق المخيلة الدينية بين المسيحيين والمسلمين في (ميدان سلبي) حين يتكلمون عن الجحيم؟ ففي هذا الميدان ترسم المسيحية نفسها صورة مشهودة هي صورة النيران والنفط الغالي وعذاب الأجساد

قال الكاتب: فأحجمت عن الجهر بملاحظة سنحت لي تلك اللحظة، وفحواها أن المبالغة في تمثيل الخيال تقترن عادة بالقصور في ملكة البناء والإنشاء الواقعية، وآثرت أن أسأل:

ألا تزال الديانة قوة فعالة في الحياة المصرية؟

فأجابني الباشا: (فعالة على الأرجح في عالم الإسلام أعظم من فعلها في عالم المسيحية، لأن شرائعنا كلها قائمة على القرآن؛ ومن العسير في البلاد الإسلامية أن تفصل بين الدين والحياة اليومية)

قلت: على أنني قد أخبرت أن الشبان المصريين يهجرون عقائد آبائهم جنوحاً منهم إلى البدع الغربية

قال: أعجب لو صح ذلك. . . فلعلهم لا يغشون المساجد ولا يشهدون صلوات الجمع، ولكنهم على الجملة متدينون، وربما كان منهم أناس من الدارسين للفلاسفة الغربيين قد ألحدوا في الدين إلا أنهم شذوذ قليل

فسألته: أيعنى المصريون عناية ما بما وراء الطبيعة أو بالأسرار الخفية والسبحات الصوفية؟

قال: (ذلك نادر في (فلسفتنا الحاضرة). غير أن فلسفتنا وأدبنا لا يزالان في مفتتح الحياة؛ وينبغي ألا تنسى أن أربعة قرون من الحكم التركي قد عطلت ثقافتنا وتركتنا نحاول من جديد

فانتقلت إلى حديث الجامعة العربية وسألته: (وهل بعد انقضاء السيادة التركية أو السيادة الإنجليزية يهتم المصريون بالجامعة العربية؟

فرد الباشا جازماً: أما سياسياً فلا، لأن الفوارق بين الشعوب العربية المختلفة جد كبيرة؛ أما من الوجهة الثقافية فهي ممكنة، وهي على ازدياد في جوانب الشرق الأدنى؛ ولكنها ليست بالسياسة، لأن الجامعة العربية من حيث هي نزعة سياسية اختراع نَجَم في الصحافة الإنجليزية على ما أذكر، ولا يحصرني اسم صاحبه وإن كنت أرجح أنه مراسل للتيمس كان يراسلها من النمسا قبل أربعين سنة

وتنقل الحديث في بعض الموضوعات الشرقية ثم سأل الكاتب: ما ظنك في حقيقة ما يقال من أن الوطنية المصرية توصد ما بين المصريين وسائر العالم، وتجتهد في إبدال كل مصري بكل أجنبي؟ أتؤمن بإمكان هذه العزلة؟

قال الباشا: الحق أنني لا أومن بذلك؛ ولعل محدثيك قد أخطئوا التقدير، فإن الوطنية عندنا لا تجور على الثقافة. ونحن إذا اكتفينا بمن هم عندنا من الأساتذة الأجانب فسبب ذلك قلة المال. إن الأستاذ الإنجليزي يكلفنا من ثمانمائة إلى تسعمائة جنيه في العام، وليس ذلك بالميسور لنا إلا فيما ندر

وانتهى الحديث بعد تعقيب موجز في هذا الموضوع، وسنعود إلى سائر الأحاديث وإلى التعقيب عليها في مقال تال

عباس محمود العقاد