انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 246/ابن البناء المراكشي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 246/ابن البناء المراكشي

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1938



للأستاذ قدري حافظ طوقان

كان ابن البناء من علماء القرن الرابع عشر للميلاد، نبغ في الرياضيات والفلك وله فيهما مؤلفات قيمة ورسائل نفيسة تجعله في عداد الخالدين المقدمين في تاريخ تقدم العلم

ومن المؤسف ألا يُعطى نتاجه حقه من البحث والتنقيب، ولولا بعض كتبه التي أظهرها المستشرقون الذين يعنون بالتراث العربي لما استطعنا أن نعرف شيئاً عن مآثره في العلوم. وعلى الرغم من قلة المصادر فقد استطعنا أن نجمع بعض المعلومات عن حياته وآثاره، ورأينا أن الإخلاص للحقيقة يدعونا إلى إنصافه وعرض سيرته على الباحثين فقد يكون في هذا العرض ما يحفز البعض إلى الاهتمام بتراث ابن البناء وإزالة ما أحاط هذا التراث من غيوم الغموض والإهمال

وُلد ابن البناء في غرناطة في النصف الأخير من القرن الثالث عشر للميلاد؛ واسمه أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي وكني بابن البناء لأن أباه كان (بناء) كما اشتهر بلقب المراكشي لأنه أقام مدة في مراكش ودرّس فيها العلوم الرياضية. وقد نبغ على يديه كثيرون لمعوا في ميادين العلوم وكان أحدهم أستاذاً للمؤرخ الشهير ابن خلدون

كان ابن البناء منتجاً وكان عالماً مثمراً، فقد أخرج أكثر من سبعين كتاباً ورسالة في العدد والحساب والهندسة والجبر والفلك والتنجيم ضاع معظمها ولم يعثر العلماء الإفرنج والعرب إلا على عدد قليل منها، نقلوا بعضه إلى لغاتهم. وقد تجلى لهم منها فضل ابن البناء على بعض البحوث والنظريات في الحساب والجبر والفلك

لقد قامت شهرة ابن البناء على كتابه المعروف بـ (كتاب تلخيص أعمال الحساب) الذي يعد من أشهر مؤلفاته وأنفسها؛ وبقي هذا الكتاب معمولا به في المغرب حتى نهاية القرن السادس عشر للميلاد كما حاز على اهتمام علماء القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ويعترف سمث وسارطون بأنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب، وهو يحتوي على بحوث مختلفة تمكن ابن البناء من جعلها (على الرغم من صعوبة بعضها) قريبة التناول والمأخذ. أوضح النظريات العويصة والقواعد المستعصية إيضاحاً لم يسبق إليه فلا تجد فيها التواء ولا تعقيداً في هذا الكتاب بحوث مستفيضة عن الكسور وقواعد لجمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأ لحل المعادلات ذات الدرجة الأولى والأعمال الحسابية. ولولا أن الإتيان على هذه القاعدة يستدعي استعمال خطوات قد لا يجد فيها الكثيرون طرافة أو متاعاً لأتينا عليها تفصيلا. وفي هذا الكتاب أيضاً طرق لإيجاد القيم التقريبية للجذور الصماء، فلقد أعطى قيماً تقريبية للجذور التربيعية لبعض المقادير. وكانت هذه القيم موضع دهشة العلماء الرياضيين وإعجابهم

وهناك قيم أخرى تقريبية للجذور التكعيبية لمقادير جبرية أخرى، وهذه العمليات بالإضافة إلى عمليات القلصادي أبانت طرقاً لبيان الجذور الصماء بكسور متسلسلة

وكتاب التلخيص هذا كان موضع عناية علماء العرب واهتمامهم يدلنا على ذلك كثرة الشروح التي وضعوها له، فلقد وضع عبد العزيز علي بن داود الهوازي أحد تلاميذ ابن البناء شرحاً. وكذلك لأحمد بن المجدي شرح ظهر في النصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد. ولابن زكريا محمد الأشبيلي شرح موجود في مكتبة أكسفورد.

وللقلصادي شرحان أحدهما كبير والآخر صغير؛ وقد زاد على شرحه الكبير خاتمة تبحث في الأعداد التامة والزائدة والناقصة. وظهر لنا في أثناء مطالعاتنا في مقدمة ابن خلدون أن هناك شرحا لكتاب التلخيص وضعه ابن البناء اسمه كتاب رفع الحجاب، (وهو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني. وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه، وهو كتاب جدير بذلك، وإنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل. . .)

وقد رغب العالم (ووبكه) أن ينقل محتويات كتاب التلخيص إلى الفرنسية فحال موته دون ذلك. وأخيراً نقله (أريستيد مار) إلى الفرنسية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر للميلاد. ويقضي علينا الواجب العلمي أن نشير إلى أن بعض علماء الغرب أغاروا على الكتاب المذكور وادعوا لأنفسهم دون أن يذكروا المصدر الذي اعتمدوا عليه ونقلوا عنه. وكان الرياضي الفرنسي الشهير (شال) أول من أشار إلى هذا في رسالة قدمها إلى المجمع العلمي في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد ولابن البناء كتب ورسائل في الحساب كرسائل (مقالات في الحساب) التي تبحث في الأعداد الصحيحة الكسور والجذور والتناسب، وكتاب تنبيه الألباب، ورسالة في الجذور الصماء وجمعها وطرحها، وكذلك له رسائل خاصة بالتناسب ومسائل الإرث

ولم يقف نتاج ابن البناء عند هذا الحد، بل وضع كتابين في الجبر أحدهما يسمى كتاب الأصول والمقدمات في الجبر والمقابلة، والثاني كتاب الجبر والمقابلة

وفي الهندسة له رسالة في المساحات، أما في الفلك فله مؤلفات وأزياج عديدة، منها كتاب اليسارة في تقويم الكواكب السيارة، وكتاب تحديد القبلة، وكتاب القانون لترحيل الشمس والقمر في المنازل ومعرفة أوقات الليل والنهار، وكتاب الإسطرلاب واستعماله، وكتاب منهاج الطالب لتعديل الكواكب. ويقول ابن خلدون إن ابن البناء اعتمد في هذا الكتاب على ازياج ابن اسحق وأرصاد أخرى لفلكي كان يسكن صقلية. وقد توفق ابن البناء في هذا الكتاب إذا استطاع وضع بحوثه في قالب حبب إليه الناس في المغرب ورغبهم فيه وجعلهم يتهافتون عليه ويسيرون بموجبه في بحوثهم الفلكية وعمل الأزياج

أما في التنجيم فله مؤلفات كثيرة عُرف منها مدخل النجوم وطبائع الحروف وكتاب أحكام النجوم وكتاب في التنجيم القضائي وله كتاب اسمه (كتاب المناخ) ويقول الدكتور سارطون إن كلمة مأخوذة عن هذه الكلمة (المناخ) والله أعلم

(نابلس)

قدري حافظ طوقان