مجلة الرسالة/العدد 246/إلى حجاج الجامعة المصرية
مجلة الرسالة/العدد 246/إلى حجاج الجامعة المصرية
محمد يرجع!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
محمد يرجع ويعمل عمله من جديد في نفوس الشباب ويناديهم إليه ليربيهم في المهد الذي أنشأ فيه نفوس أبوتهم الأولى
وهم يلبون نداءه سراعاً، خفافاً وثقالا، وفي طليعتهم ملك. . . لأنهم أدركوا ببداهة الشباب وإحساسه بحاجات زمانه أنه نداء لا يمكن أن يعلو عليه لغو أو يحجبه ضجيج
وقد سارت إليه جماعات منذ سنوات تسمعه ينطق في القرن العشرين جديداً عجيباً غريباً كما كان جديداً عجيباً غريباً منذ ألف وثلثمائة
بيد أن أَدعى جماعة إلى الالتفات إليها هي هذه الجماعة الجامعية التي يحدو لها عقل (أمين) وروح (عزام) وخلق (العبادي)
لقد افتتحت الجامعة حياتها بروح تمرد وثورة على محمد. . . ولكن مَن هذا الذي يغالب محمداً ولا يُغلب، ويحتك بروحه ولا يمفطس ويجذب؟! لقد استطاع روح الحق الذي تمثل فيه أن يكب كل عنيد على ذقنه ساجداً، ويأخذه إليه طائعاً أو كارهاً. وقد عودنا تاريخ دعوته أنها تنمو حين تقاوَم، وتبدو حين تحجب
ألم يغزُ التتار دياره، ويخربوا آثاره، فغزا قلوبهم ودوخ رءوسهم؟
ألم يرد الصليبيون محوه فمحا خرافاتهم وضلالاتهم وفتح أعينهم على مبادئ الحياة الجديدة؟
ألم يعزم المستعمرون على تكبيل أهله بالقيود الأبدية فأضرم من ناره على الحديد فأساله، وأذاب أغلاله؟
ألم يحاول المخدوعون الحالمون أن يهدموه في نفوسهم ونفوس أمتهم فإذا به يعلو ويعلو فيخنق أصواتهم ويحطم معاولهم ثم يضطرهم أخيراً إلى البناء فيه؟
من معجزات الإسلام أنه عزته اليوم تبنى على أيدي أحرار الفكر الذين أعلنوا في كل مناسبة أنهم يؤمنون بحرية البحث. وكأن القدر يقول للناس: هؤلاء الذين تظنونهم سبب شكوكم قد آمَنوا فآمِنوا
ومن العجيب أيضاً أن الحج الذي هو منطقة كثير من التعبديات والرموز يكون أو مظاهرة روحية عملية تقوم بها الجامعة العقلية!
والأعجب أن تنبت الفكرة في الجامعة لا في الأزهر!
حادث عظيم في طريقنا إلى الحياة القويمة لا ريب!
حج مبرور من بُناة العقل إلى أرض الروح. الروح الذي لم يجدوه في الدفاتر والمخابر فراحوا يبحثون عنه في الصحراء. . . الكتاب الكبير المسطور بالرمال الخالدة والكلمات الصامتة التي قرأها رسول الله ﷺ وهو شاب مثلهم ففهم بها خبر السماء وطلاسم الوحي
لا أستاذية ولا (دكترة) ولا مخابر ومنابر، وإنما هناك هياكل خالدة عامرة أبداً بالنجوم، ومحاريب يسجد فيها الصباحَ والمساء، ومنصات تقف عليها الطبيعة صامتة متجردة لا تتشح (بالروب) ولا تهز ذقنها كما يهز العلماء لحاهم حين يلقون الدروس!
عشتم أياماً في التاريخ، على هامش الحياة، في مركز الأرض، في مهد الإنسان، في حضن الأم الوالدة، في مكان الخمائر، في البدائيات
التفتت إليكم الجبال والرمال والآثار التي تعرف محمداً وأصحاب محمد من الشباب، إذ كنتم أول فوج عجيب زارها في القرن العشرين، فعرفت أن الزمان يتمخض عن شيء
ناقلتم الخطا على مواقع أقدام رسولكم الأعظم وتلاميذه الأبطال. . . فأحاطت بكم الأرواح والأطياف لتنظر براعم الربيع الجديد وتربيها، وتعمل سحرها فيها
سيكون لكم في التاريخ الجديد ما كان لنقباء (بيعة العقبة) في التاريخ القديم، يا نقباء الجامعة. فافهموا ما يشير إليه الزمان
وقفتم في مركز الدائرة التي يقف المسلمون على محيطها بالاعتقاد في الله الواحد، وبالمساواة في الشرع الواحد، وبالأخوة في الدين الواحد، وجباه المسلمين في المشرقين والمغربين تحيط بكم من جميع الآفاق ساجدة يصعد إلى الله الأعلى كلمها الطيب وعفرها الطاهر. . . وتسافر إليكم نظراتها مخترقة الحجب والسدود حتى ترى في الغيب ما ترون في الشهادة. . .
تجردتم عن المخيط من الثياب وعن الزينة والنعومة والتطرية وخرجتم نساكا شُعثاً غبراً طالت لأظفاركم وتهدلت شعوركم، وكل منكم ناحل ضامر في استغراق روحي عميق، نظيف المادة طاهر الخلق. . . إنه مشهد (سينمائي) جميل تمثلون به حياة الأنبياء. . فصلوات الله عليكم!
نقل الله لكم ناس الدنيا جميعها لتسمعوا النشيد الخالد يرتلونه مجتمعين بلغة (الكتاب) لغة الأمة الأمية الخالدة. . . ولتعرفوا معنى التوحيد الذي أراد الإسلام أن يطبع الإنسانية عليه. . . ولتروا الأحلام الكبيرة التي طافت بعقول الفلاسفة، حقائق وأجساد تمشي على الأرض في (المدينة الفاضلة) الآمنة. . . أم القرى
هل يمكن أن يخرج مثل هذا أكبر فنان؟ لا فالواقع هنا أكثر من الخيال، فلا حاجة إلى الكلام أو الأصباغ. . .
رأيتم بدء النور في (غار حراء. . .)، وبدء المحنة في شعاب مكة. . . وبدء الفرج في (غار ثور)، وبدء الأمل في (بدر) وبدء البَذْل في (أُحُد). . . وبدء النصر في (الحديبية)، وبدء الوحدة في مكة
ورأيتم نهاية النبوات وخاتمة الرسالات تسكن أشباراً من الأرض القاحلة بعد أن صاحت في آفاق المشرق والمغرب والشمال والجنوب (بالكلمة العليا) التي قام عليها صلاح العالم، وبأن (الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) فيجب أن تبدأ الإنسانية عهداً جديداً
وحقيق على من رأى معالم البدء والنهاية من جهاد الرسول الأعظم أن ينقل صورها إلى كل نفس، وأن يحافظ على حياتها دائماً في قلوب الناس وأفكارهم حتى لا يطمسها جهل أو عقوق
ومسألة المسائل أمامنا وأمامكم أن نؤمن وأن نعلم وأن نعمل.
فاعملوا لذلك عمل المنقذين الذين يدركون شقاء الناس والعلاج الذي في مواريث الرسول الأعظم
ليس يغنينا علم ولا فلاسفة إذا لم يكن لنا إيمان. . . لأن العلم والفلسفة من مخلوقات الإنسان. . ولن يعبد الإنسان ما قد خلق ويسعد به. . . أما الإِيمان فهو الكنز الخفي الذي ننفق منه سراً وجهراً ولا ينفَد، فنحن به في غنى دائم لأننا منه في فيض دائم. وقد تتحطم الإنسانية بالعلم، وقد تهذي بالفلسفة وتتفرق بها شيعاً وقبائل، ولكنها تُبنى دائماً بالإيمان وتلتقي في قدسه ورحابه
فزاوجوا بين ثلاثة الأقانيم هذه وأخرجوا منها معنى الحياة الخالدة للإنسانية الفانية التي تأتي إلى الدنيا ولا تعرف لماذا أتت. . وتمضي إلى الأخرى وهي تحسب أن كل تاريخها في الأرض قبر من القبور. . .
أشبعوا الكفايات الإنسانية الثلاث التي أشار إليها (برتداندرسل). . أشبعوا (كفاية الاعتقاد) بالدين، (وكفاية الإثبات) بالعلم، (وكفاية التأمل) بالفلسفة حتى توجدوا النفس الكاملة
وتلك رسالة الجامعة وهي تدركها لا ريب.
(بغداد)
عبد المنعم خلاف