مجلة الرسالة/العدد 243/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 243/رسالة النقد
نظر ونقد
2 - شعراؤنا في موكب الزفاف
الجارم بك
ولنقف أول ما نقف مع أستاذنا الجارم بك، فقد كان في شعراء الزفاف أبعدهم صوتاً، وأطولهم نفساً، وأشدهم عارضة، وأسمحهم قريحة، وأطوعهم بياناً. لم يرض لنفسه أن يكون (مفرد) القصيد، فأرسل (الجارمية) في أثر (الجارمية)، وكل جارمية تهدف إلى المائة أو تزيد، ولقد أدى ذلك كله بأدائه الجارمي الرائع، ولحنه القوي الحنون، فبلغ من رضا الجمهور والصحافة غاية لا تتجاوز، حتى كان من هذا الرضا أن اتفق الناس على أنه طليعة الشعراء، وأنه جاء كالبعث لما بعد شوقي وحافظ
على أن الجارم لم ينتظر تقريظ الجمهور، وتقدير الصحافة، وحكم النقد، فسبق الجميع بالشهادة لنفسه، وقدر مرتبته فكانت إلى جانب لبيد. . . وازدرى بشاراً حتى أثار الغبار في وجهه. . . وادعى أن (الوحي) قد بادهته آياته ورسائله! واسمع له جانباً من تلك الشهادة إذ يقول مخاطباً الفاروق:
دعوت إليك الشعر فانقاد صعبه ... وقد كان قبل اليوم شُمساً جوافله
وما كدت أدعو الوحي حتى سمعته ... تبادهني آياته ورسائله!
خيال إذا أرسلته إثر (نافر) ... أتت بأعز الآبدات حبائله
ولفظ كوجه الروض في ميعة الضحى ... وقد صدحت فوق الغصون عنادله
إذا قلته ألقى عطارد سمعه ... وساءل شمس الأفق من هو قائله
وإن سارت الريح (الهبوب) بجرسه ... فآخر أكناف الوجود مراحله!
ومهما يكن في هذه الأبيات من الذهاب بالنفس إلى حد الإغراق، فأنا لا أنكر على الجارم بك أن يذهب بنفسه في تقريظ شعره، فقديماً قال شيخنا أبو الطيب: (وما الدهر إلا من رواة قصائدي)
على أني مع الأستاذ الجارم في أنه صاحب خيال يقتنص كل (نافر)، وأن لفظه كوجه الروض في ميعة الضحى، وأن أسلوبه حلو الجرس والتقاسيم، ولكنا كنا نود أن نرى مع هذا كله الإحساس الذي هو الشعر. . . ودقة التصوير التي هي حقيقة الفن. . . وصلة التعبير بالعصر التي هي دليل الطبع. . . ولقد بادهت الجارم بك آيات الوحي ورسائله حقاً كما يقول، ولكنه ليس الوحي الذي يهبط من سماء الشعر على الشاعر الصافي القريحة، القوي الطبع، الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير، والذي تنكشف له بواطن الأمور فتنطبع في ذهنه وتظهر في بيانه صوراً فنية رائعة؛ تبرزها الشاعرية فإذا هي أبرع وأملح من الأصل. . . وإذا هي جمال في جمال وحسن فوق حسن؛ وإنما هو الوحي الذي يهبط من العلم بالعربية والإحاطة بدواوين السابقين، فإذا ما قرأت شعر الجارم في الزفاف، أحسست كأنك تقرأ تشبيهات كانت صوراً لحياة بدوية خالية، وقد مضى بها الزمن وطواها التقدم الحديث؛ ولقد تحاول أن تلمح عنده شيئاً من روح العصر فيعيبك ذلك
ودونك الجارمية التي ادخرها الجارم ليوم وزارة المعارف في الاحتفاء بالزفاف، فصال بها وجال بين جدران (الأوبرا) الملكية، ونقلها المذياع إلى الناس ونقل معها إعجاب السامعين في تصفيقهم وهتافهم فاسمع له إذ يقول في مطلعها، والمطلع هو موطن البراعة كما يقول علماء البديع:
صفا ورده عذباً وطابت مناهله ... وجلت يد الدهر الذي عز نائله
وأقبل منقاد العنان مذللاً ... تطامن متناه ودانت صوائله
يطاطئ للفاروق رأساً وتنحني ... أمام سنا الملك المهيب كواهله
فهذا شعر - كما ترى - يملأ سمعك بقوة لفظه، ويخلب لبك برقة جرسه، ولكن انظر وتدبر. ألست معي على أن هذا المطلع إنما كان موضعه اللائق أن يكون في التهنئة بفتح أو أي أمر عظيم يعز إدراكه، وتبعد غايته، ويطلب بالمجاهدة والمغالبة حتى يصح لشاعرنا أن يقول (وجلت يد الدهر الذي عز نائله) وأن يكون على حق إذ يصفه بأنه أقبل منقاد العنان يطأطأ الرأس للفاروق؟ ثم ألست معي في استنكار هذه الصورة الغريبة (النافرة) التي اقتنصها خيال الجارم بك، وتحملها ذوقه وارتضاها تقديره، فقدم الدهر لسنا الملك المهيب يمشي على أربع، قد تطامن متناه، ودانت صوائله؟! لقد أنكر القدماء على الطائي قوله: سأشكر فرجة اللب الرخي ... ولين أخادع الدهر الأبي
فاستقبحوا استعارة الأخادع للدهر، وعدوها خارجة عن حد الاستعمال والعادة، فكيف لو أدركوا الجارم يصور الدهر وله عنان ومتنان وصوائل ورأس وكواهل؟ على أني أعرف أن علماء اللغة وإن اختلفوا في تحديد الكاهل، إلا أنهم اتفقوا على أن للشيء كاهلاً واحداً، ولكن الجارم يصور الدهر وله كواهل كثيرة وهذا لا يصح إلا على تخريج بعيد إن جاز في كتب الأزهر فلن يجوز في الشعر
وبعد هذا المطلع (الذي رأيته) يتدفع الجارم في تعداد سجايا الملك وإكبار فضائله، ولاشك أن فضائل الفاروق - كما يقول الجارم - إنما يزدهي بها الشعراء، ويحيا بوصفها القريض، وقد ذكر الجارم من فضائل الملك أول ما ذكر قوة العزم فقال:
يذوب مضاء السيف عند مضائه ... فما هو إلا غمده وحمائله
وهذا بيت قوي رائع يذكرنا لفظه ومعناه بقول المعري:
يذيب الرغبُ منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا
وبقوله:
فإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل
وأصل ذلك كله قول أبي تمام صاحب الجارم ودليله في مدح المعتصم:
وجرد سيف الحق حتى كأنه ... من السّلّ مودٍ جفْنُه وحمائله
ثم يمضي الأستاذ الجارم في الإشادة بالملك إلى أن يقول:
هو الأمل البسام رف جناحه ... فطارت به من كل قلب بلابله
وأحب لك أن تتأمل هذا البيت، ففيه شعر، وفيه روعة، وفيه الحقيقة الصادقة، ولكن الجارم أبى إلا أن يعيد معناه ضئيلاً فيقول:
ترى بسمة الآمال في بسماته ... وتلمح سر النبل (حين تقابله)
ونعوذ بالله من (حين تقابله) فإنها أضعف من الضعف، وكأن الجارم لم يكتف بهذا فانحدر بالمعنى إلى وضع أضأل وأضأل إذ يقول:
رأى فيك (هذا) الشعب آماله التي ... تمنى على الأيام وهي تماطله
وينتقل بالجارم بعد ذلك فيصف الملك باعتدال القوام فيقول: يفديه غصن الدوح ريان ناضراً ... إذا اهتز في كف النسائم مائله
وجمع نسمة أو نسيم على نسائم خطأ من الأخطاء الشائعة التي يعنى بالتنبيه عليها أستاذنا الكبير، وقد سبقنا أحد الأفاضل فأشار إلى هذا الخطأ في عدد سابق من الرسالة
ثم يعود الجارم بعد ذلك كله فيكرر الإشادة بعزيمة الملك وطوله فيقول:
علاء تحدى الدهر في بعد شأوه ... فمن ذا يدانيه ومن ذا يفاضله
ورأى كأنفاس الصباح وقد بدا ... تشف مجاليه وتهفو غلائله
وأنا أبقاك الله لا أفهم وجه الشبه في قوله (كأنفاس الصباح)
وقد كان الأنسب أن يقول: كأنوار الصباح حتى يلائم وجه الشبه ما جاء في بقية البيت
ثم يقول الجارم بك:
رأى ملكاً يحيا القريض بوصفه ... فضائله جلت وعمت فواضله
رأى ملكاً يزهى به الدين والتقى ... شمائل أملاك السماء شمائله
رأى ملكاً كالنيل أما عطاؤه ... فغَمر وأما المكرمات فساحله
وهذا شعر حسن، غير أن الجارم لم يترك شيئاً من اللفظ والمعنى للطائي إذ يقول:
إلى قطب الدنيا الذي لو بفضله ... مدحت بني الدنيا كفتهم فضائله
من البأس والمعروف والدين والتقى ... عيال عليه رزقهن شمائله
إلى أن يقول:
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
وتأمل يا صاح قول الطائي (كفتهم فضائله) وقول الجارم (وعمت فواضله)، ثم قابل بين قول الطائي (هو البحر) وقول الجارم (ملكاً كالنيل) لتعرف الفرق بين المحكي والصدى
ثم يقول الجارم:
حملت له الريحان أرفع (معصمي) ... إلى الملك الفرد الذي فاز آمله
وقد ملأ الأنس الوجوه فأشرقت ... من البشر حتى كاد يقطر سائله
وكلمة (المعصم) كلمة ضعيفة لا تليق بالجارم الفحل، ثم ما سائل البشر الذي يقطر؟ لعله كماء الملام في شعر أبي تمام
وبعد أن فرغ الجارم من مديح الملك أخذ في مديح الملكة، فذكر أن الفاروق قد تخيرها فريدة المجد والنبل والجاه، ونسي الشاعر العظيم حقيقة السر في هذا الاختيار، ذلك الاختيار (الشعبي) النبيل الذي استنه الملك فؤاد وتبعه فيه الفاروق. وإذا غفل الشاعر عن هذه الحقائق الجميلة التي حياة الشعر وروحه وعصبه، خصوصاً في مثل هذا الموقف التاريخي الحافل، فما يكون شعره بعد ذلك؟!
وعلى هذا انتهى الجارم من قصيدته: مدح الملك والملكة وزكى نفسه وشعره، وكان كل ما عنه من حديث الزفاف تزاحم المواكب واحتشاد الناس. . . فلننتظر فلعل الرجل يكون قد أبر وأوفى في جارميته الأخرى ولعله يكون قد أدى بها حق الزفاف
(م. ف. ع)