مجلة الرسالة/العدد 242/صاحب المعالي هيكل باشا
مجلة الرسالة/العدد 242/صاحب المعالي هيكل باشا
أنت يا أخي أول أديب في مصر العظيمة رفعه الأدب المحض إلى منصب الوزير ورتبة الباشا. وأقول (الأدب المحض) وإن كنت لا أنكر أن لثقافتك وكياستك وسياستك أثراً ظاهراً في هذا الحادث الأدبي الخطير؛ لأن الأدب بمعناه الأصح لا يكمل إلا بهذه الصفات، ولأن أدبك على الأخص مثال الأدب الكامل الذي يقوم على ألزم الخصائص للإنسان وهي سراوة الخلق وذكاء القريحة وسداد الذهن وسعة الثقافة. وإذن لا نستطيع أن نحلل تركيبك الأدبي إلى فقيه وأديب وصحفي وسياسي، مادام أسلوبك الفكري مزيجا من أولئك جميعاً. فإذا كان غيرك قد وصل بالأدب من غير خلق، أو بالصحافة من غير أدب، أو بالسياسة من غير صحافة، فإنك لم تصل إلا بهذا الأدب الشامل الذي يشرق فيه وميض الروح ويسيطر عليه نبل النفس. لذلك نعد بلوغك هذه الغاية من المجد انتصاراً للأدب المجاهد، وترضية للقلم المجهود، وتمكيناً للفكر الجميل أن يؤدي رسالته في عالم أوسع وعلى طريق أسد؛ ولذلك نجعلك من بين الوزراء الصلة الطبيعية بيننا وبين أولي الأمر؛ فقد قطعوا أسبانيا الواصلة، وسفهوا حقوقنا المعلومة، واعتقدوا أننا حلىً تزين ولا تنفع، ودمىً توجد ولا تعيش
فمن غيرك اليوم يا باشا يستطيع أن يسمعهم أن الأدباء بعد انقطاع الوحي هم رسل الله وكتبه: في أقلامهم أقباس الهداية، وفي أفواههم أبواق اليقظة، وفي أيمانهم مفاتح الخلود؟
من غيرك اليوم يا باشا يستطيع أن يقنعهم أن الشعب بغير صوتهم لا ينهض، والجيش بغير روحهم لا ينتصر، والرأي بغير منطقهم لا يجتمع، والحكومة بغير سلطانهم لا تحكم؟
من غيرك يا باشا يستطيع اليوم أن يقول لولاة الأمر، لعيشه فيهم وقربه منهم، إن الأدباء هم الذين ينشئون الصحف للجمهور، ويؤلفون الكتب للقراء، ويدبجون الخطب للزعماء، ويصوغون الشعر للوزراء، ويكتبون التاريخ للملوك؟
الأدب يا باشا كما تعلم هو شعاع الحس اللطيف، وعطر النفس الزكية، وزاد الإنسانية الدائبة من أفكار السلف وتجارب الماضي
والأدباء يا باشا كما تعلم هم أوصياء الخليقة على تراثها العقلي، يحفظونه ويزيدونه، ويتصرفون فيه، ويجعلون منه مرشداً للحائر وقصداً للجائز وسنداً للضعيف
وقد عرفت الأمم الرشيدة فضل الأدب والأدباء فأطاعوهم كالقادة، واتبعوهم كالرسل، ورفعوهم كالمصابيح. ولكن الأدب في مصر كما تعلم يا باشا لا يزال فريسة الإ والفوضى: يكابد طغيان السياسة في استسلام، ويجاهد سلطان الجهالة في يأس، ويقاسي مضض الحرمان في ضراعة؛ وأولوا الأمر يقابلون جهده بالاستهانة، ويكافئون بره بالعقوق، ويستغلون سلطانه في الصحف وعلى المنابر، ثم لا يدخلونه في الحساب يوم الغنيمة. والأدباء في مصر كما تعلم يا باشا لا ينفكون يؤدون رسالة الروح المضنية في بسالة وصبر، وقرائحهم المجهودة تنضح بالمداد كما تنضح الجباه الناصبة بالعرق والصدور المحاربة بالدم؛ ثم لا يلقون ممن يحملون لهم الشعلة إلا ما لقي أصحاب الرسالات من الكفران الغادر والخذلان المهين. وما حال الأدب في الأمة الأمية إلا كحال النبوة في الأمة المشركة، إذا لم يكن له سند من الله وعون من الحكومة ذهب ذهاب المصباح في عواصف البيد المظلمة
فالأديب المضطر إنما يشقى للقوت لا للفن، ويسعى للحياة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل؛ وإذن لا يكون الأدب إلا كما ترى: بخس في الكيف، ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، وإسفاف في الغاية
كل ذلك علمته وكابدته وشكوته أيام كنت معنا في الطريق المزدحم الصاخب، تعرض على فقراء المعرفة غذاء العقل والروح من عصارة مخك وقلبك، فيعرضون عنك ويأبون إلا خَنْزَرةً تسوف التراب وتلغ في القذر.
فماذا أعددت يا باشا لهذه الأعصاب المحترقة التي لا تبغي من الناس إلا أن يستفيدوا من احتراقها النور والحرارة؟
لا نريد أن نصف لك العقدة ولا أن نقترح عليك الحل، فإن ذلك بجانب علمك وخبرتك وتجاربك أنفال وفضول. وقصارى ما نرتجيه أن تبسط الحكومة على الأدب ظل الحماية، فما يستطيع لضعف دولته وجهل رعيته أن يستقل. نريد ألا تدعوه لأهواء الجمهور ودوافع الحاجة، فإن في إخضاع الأدب لشهوات الناس وضرورات العيش إفساداً لملكة الذوق وتكديراً لنقاء الضمير وتشويهاً لجمال الوحي.
ليس الأدب من المهانة بحيث تتخطاه رغبة الأمة. وليس الأدباء من الكثرة بحيث تضيق بهم معونة الحكومة؛ ولكن السياسة الحزبية في البلد الجاهل تقلب الأوضاع، وتغير المقاييس، وتعامل كل فرد بحسب ما له من الدالة، وتقدر كل شيء بمقدار ما فيه من السياسة. فالكتابة في غير السياسة لغو، والسياسة على غير مذهبهم هذر!
فهل آن للأدب أن تنهض به عواثر الجدود، وللأدباء أن تَرِفَ عليهم ذوابل المنى؟ إن الأدب الذي رفعك هذه المكانة وبوأك هذا المجلس ينتظر منك البر، وإن الأدباء الذين صافيتهم على الشدة وعاهدتهم على التأييد يرجون منك الوفاء. فأخرج من عهدة ما وعدت يا صديقي واليد طائلة والرأي نافذ، قبل أن تعود بعد عهد طويل زاهر إلى المكتب الذي ليس فوقه محفظة، ولا أمام بابه حاجب، فلا تملك إلا ما نملك من الشكاة والألم
أحمد حسن الزيات