مجلة الرسالة/العدد 240/المرأة والأدب
مجلة الرسالة/العدد 240/المرأة والأدب
قال لي صديق أديب:
إن من يقرأ الرسالة في مصر من الأَمصار النائية، أو في عصر من الإعصار الآتية، يحسبها تصدر أو كانت تصدر في بلد ليس فيه نساء. والرسالة كما نعتقد تسجل ظواهر النهضة المصرية، وتصور مظاهر العبقرية العربية؛ فهل خلوها من أثر المرأة معناه أن المرأة لا تزال بمعزل عن نهضة الفكر في مصر، وحركة الأدب في الشرق؟
وهذا السؤال نفسه ألقاه علي أكثر من تحدثوا إلي في الرسالة أو في المرأة أو في الأدب. والجواب عنه ميسور على من عرف كيف نربي البنت ونثقف الأم ونؤلف الأسرة. فنصفنا الجميل الشاعر كما يعبرون اليوم لا تزال كثرته الفاحشة على جهالة الأمية وسذاجة الفطرة. أما قِلَّته الضئيلة فبين طبقة علمتها المدارس المصرية تعليماً فجاً لا يمهد للعقل طرائق المعرفة، ولا يكشف للنفس آفاق الحياة، فعلمها محدود بالتعليم الأولي أو التمريض العملي، وأدبها واقف عند قراءة المجلة الخفيفة وكتابة الرسالة العادية؛ وبين طبقة ثقفتها المدارس الأجنبية فهي غزيرة الأدب صحيحة الفكر سليمة الذوق لطيفة الحديث، ولكنها لا تعلم من لغتها وأدبها غير القشور، ولا تعرف عن يدنها وتاريخها غير الشُّبه، ولا تجد في مكتبتها مؤلفاً شرقياً، ولا ترى على مكتبها ريشة عربية. وقد كتبت إلي آنسة من هذه الطبقة كتاباً بالفرنسية، فلمتها على أن تُقحم هذا اللسان الغريب بين لسانين عربيين، فردت عليّ بذلك اللسان نفسه تقول ما ترجمته:
(لو كنت كتبت إليك بعربيتي لحسبتني طفلة تجمجم بالكلام ولا تبين؛ ويكون من وراء ذلك أنك لا تفهمني ولا تفهم عني. فكتبت إليك بالفرنسية لأن الإنسان يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولئن تعرضت بذلك إلى غضبك، لقد نجوت ولله الحمد من سخرك؛ وسخطك عليّ أحب إلى كرامتي من استخفافك بي)
فالطبقة الواقفة على الأعراف بين الجهل والعلم لا تستطيع بنصيبها الأخس من الثقافة أن تسُبر عقل الرجل ولا أن تصور قلب المرأة؛ فمثلها مثل الجمهور الأوسط من سواد الشعب يعلو على العامة بمتاع جسمه، ويسفل عن الخاصة بغباء ذهنه. والطبقة القائمة على البرزخ بين الشرق والغرب لا تستطيع كتلك أن تساهم في الأدب العربي بشعاع من الروح ولا بنتاج من العقل، لأنها مصرية القلب أجنبية اللسان، تغرِّبُ بهذا وتَشرِّق بذاك، وتنام هنا وتحلم هناك، وتأكل وتشرب فيظهر أثرها في مصر، ثم تقرأ وتكتب فيظهر أثرها في الخارج. فسيداتنا العبقريات الحسان: سيزا نبراوي، ونعمت راشد، وقوت القلوب، وإيمي خير، لا يمكن أن يتصل تفكيرهن بالأدب العربي ما دمن يجهلن لغة القرآن، ويحتجن في إفهام قومهن إلى ترجمان
على أن في هاتين الطبقتين شواذ لا يستطعن لقتلهن أن يكنَّ طبقة ثالثة. وهل تستطيع أن تعد في أقطار العربية كلها أكثر من الدكتورة أسماء فهمي، والماجستيرة سهير القلماوي، والفضليات الكواتب ابنة الشاطئ وجميلة العلايلي وفلك طرزي ووداد سكاكيني؟
هؤلاء على تفاوت بينهن يُجدن التفكير والتعبير، ويعطرن من حين إلى حين وجوه الصحف وصدور المجالس بأنفاسهن العبقة وأحلامهن الجميلة؛ ولكن فحولة الأدب في أنوثة العاطفة لم نجدها في امرأة بعد (باحثة البادية) و (مي)؛ وباحثة البادية في ظلال الخلد، ومي وا أسفاه على سرير المرض!
تلك حال المرأة مع الأدب. وهي حال اقتضتها طريقة التعليم وطبيعة المجتمع وحداثة النهضة. فمن الطبيعي ألا يجد فيها الأدب رفداً من إنتاج، ولا الأديب مدداً من وحي. ومن البديهي ألا تحس أنت في الرسالة وفي سائر المجلات سحر المرأة فتشكو الاعتلال والنقص، وألا يجد صديقنا الحكيم في المجالس والأندية عطر المرأة فيشكو الجفاء والجدب. وما دامت المرأة غائبة عن الأدب وعن المجتمع فهيهات أن يبرءا من علل الجفاف والإسفاف والسآمة والفوضى
يريد صديقنا توفيق الحكيم أن يجرب في برجه العاجي أثر المرأة الفاتنة في مجلس جماعة من الأدباء سماهم. ولقد كتبت في العدد التاسع من (الرسالة) ما يصح أن يكون نتيجة لهذه التجربة قلت: (لاحِظْ مجلساً من مجالسنا اجتمعت فيه الرجال شباباُ وشيباً فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة والأصوات الناشزة والمناقشات الفجَّة والأحاديث الجريئة والكلمات المندية والذوق العامي والإحساس البطيء؛ ثم لاحظْ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة، تجد الحركات تتزن والأصوات ترق والمناقشات تُنتج والأحاديث تحتشم والكلمات تُنتقى والذوق يسمو والإحساس يّدِق؛ ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يُجمل سَمْته في عين المرأة، ويحسن صوته في أذن المرأة، ويسوغ رأيه في عقل المرأة؛ والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع وتنتهي إلى الطبع) فمتى يُتاح للمرأة يا تُرى أن تُدرك خطرها في غير الحب، وأثرها في خارج البيت، فتؤدي أمانتها على الوجه الأكمل، وتُبلغ رسالتها على الطريق الأسد؟
أحمد حسن الزيات