انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 24/صديقها عشيقها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 24/صديقها عشيقها

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1933



رواية مصرية عصرية في فصل واحد

للكاتب الروائي الأستاذ محمد خورشيد

أشخاص الرواية

فايد بك عمره 28 سنة. فتى راق وارث بيت مجيد وثروة واسعة

إحسان بك25 سنة. صديق فايد ذكي متهكم ماكر

مختار بك60 سنة. أعزب. صديق حكمت الصدوق

حكمت هانم27 سنة. أرملة رجب باشا. فتاة راقية غنية

سميرة هانم25 سنة. صديقة حكمت من عهد الدراسة

خادم فايد بك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

غرفة المكتب بمنزل فايد بك يصلها في الصدر ببهو المنزل، وإلى اليسار باب آخر يفضي إلى باقي الغرف. إلى اليمين مكتب فاخر ومكتبة زاخرة بالكتب المجلدة تجليدا ثمينا، وأمامهما كنبة لثلاثة، وأمام هذه الكنبة منضدة عليها صندوق سجاير ومنفضة من الفضة، وحولها كراسي، جميع القطع من خشب (الموجنة) مكسوة بالقطيفة الحمراء. وفي وسط الغرفة سجادة، والطابع العام الأناقة واجتناب الكظة وحسن الجمع بين الألوان.

الوقت عصر.

المنظر الأول

(يرفع الستار عن مختار وإحسان واقفين في جهة اليمين بين الكراسي وفايد واقفا جهة اليسار قريبا من باب مفتوح قد وقف بعتبته خادم).

فايد: (يخاطب الخادم) ضع الملابس التي ذكرتها لك في الصندوق، ولما تصل إلى الأشياء الصغيرة: أربطة الرقبة والمناديل وما يشابهها، اخبرني لأجيء واختار منها ما أريد.

الخادم: سمعا وطاعة سيدي. (يخرج ويغلق الباب خلفه).

فايد: (وقد ذهب إلى حيث إحسان ومختار) أهلا مختار بك! مساء الخير! مساء الخير يا إحسان! تفضلا.

(يردان تحيته ثم يجلس ثلاثتهم. يقدم فايد صندوق السجاير فيأخذ كل منهما سيجارة ويشعلها، ويأخذ هو سيجارة لنفسه ويشعلها.)

(يبدأ مختار الحديث فيقول:)

مختار: أخبرني إحسان بك أنك ستسافر هذا المساء إلى استامبول، فاستغربت، أولا لأنك كنت قد قررت إلا تسافر هذه السنة، وثانيا لأن فصل الصيف أوشك أن ينتهي. نحن الآن في أواخر شهر يوليه، خير إن شاء الله! ما الداعي للسفر بغتة؟

فايد: شعوري بضعف، وحاجتي إلى تبديل الهواء.

إحسان: لا ضعف هناك ولا خلافه. لابد أن هناك سبب تخفيه وأظنني أدركته.

فايد: (ينظر إلى إحسان نظرة عتاب ويقول:)

قد يعتقد مختار بك الآن ان لسفري سببا أخفيه، مع أن الحقيقة هي ما ذكرت. نعم كنت قررت إلا أسافر هذا العام، ولكن حر الصيف فوق المألوف فأضعفني وشعرت بضرورة الفرار منه، لذلك عزمت على السفر إلى استامبول لأمكث بها شهري أغسطس وسبتمبر، ثم أعود في أوائل أكتوبر حين يصبح جو القاهرة محتملا. وقد حجزت لي محلا بالباخرة التركية التي ستبرح الإسكندرية غدا. . .

مختار: ومنعك استعدادك للسفر عن الحضور ليلة أمس لقضاء السهرة بمنزل حكمت هانم، فسألتني عنك فأجبتها انك لابد حاضر، ولكنك كذبتني ولم تحضر.

فايد: أرجو المعذرة، كنت عازما على الحضور ولكن خانني الوقت. فلم أكد أفرغ من ترتيب أموري مع الكاتب والخدم أثناء غيابي عنكم حتى كان الليل قد انتصف.

مختار: كنت أظنك مغتبطا بصداقة حكمت هانم التي رحبت بك وخصتك بكثير من عطفها، وكانت دائما تدعوك إلى سهراتها البديعة البهيجة. كنت أظنك مثلي قد بلغ بك الإخلاص في الود إلى درجة لا تستطيع معها فراقها، ولكن يظهر أن قلبك لم يقدر صداقتها كما يقدرها قلبي، لذلك سمح لك أن تسافر وتحرم رؤيتها شهورا عدة، بينما لا يمكن لقلبي أن يسمح لي أن احرم منها يوما واحدا. ولكن لا بأس في ذلك، فلكل منا ميله وشعوره، وكل ما ألومك عليه أنك لم تحضر عندها ليلة أمس ولم تستأذن منها في السفر. لا تؤاخذني يا فايد بك. أنا الذي عرفتك بها وقدمتك اليها كولدي العزيز وأنت تعلم مكانتها عندي.

فايد: إني آسف اشد الأسف لأني لم أتمكن من الذهاب اليها ليلة أمس وتوديعها وشكرها على ما غمرتني به من عطف، وسأمر اليوم في طريقي إلى المحطة وأترك لها بطاقة اذكر فيها أسفي وشكري ووداعي.

مختار: هذا حسن، ولكن الأحسن منه أن تذهب اليها بعد نصف ساعة. لأنها ستنتظرني للشاي في الساعة الخامسة والنصف والسعة الآن الخامسة: فتعال بعد نصف ساعة نشرب الشاي معها ثم تستأذنها في السفر وتنصرف. لديك من الوقت متسع، فان القطار الذي سيقلك إلى الإسكندرية يتحرك في تمام الساعة السابعة.

فايد: أسفي لا يقدر! لأني في انتظار من لابد لي من مقابلتهم قبل سفري. أرجو أن تشرح لها عذري، وان تحتفظ لي بصداقتها التي لها عندي أرفع منزلة. وإن وجدت بعد عودتي أن مكانتي عندها لم تتغير، أعدك إني حينئذ أبذل قصارى جهدي لأكسب عطفها ورضاها.

مختار: ليكن، سأجتهد في فعل ما تريد.

إحسان: تصريحك يا مختار بك بأن لابد لك أن تراها كل يوم يبرهن على أن لصداقتها مكانة رفيعة عندك.

مختار: صداقتها هي غاية حياتي، هي قوتي، هي هنائي. نتقابل كل يوم اما للغداء أو للشاي. هذا إذا لم أقض سهرتي في مجلسها السعيد.

إحسان: أقديمة معرفتك بها؟

مختار: عرفتها منذ خمسة أعوام عندما تزوج منها صديقي المرحوم رجب باشا، فاستولت على قلبي بصراحتها وسامي عواطفها. فلما توفي الباشا زوجها شاركتها في أحزانها، وبذلت جهدي في التخفيف من آلامها. ودأبت على خدمتها في خضوع وإخلاص حتى اتخذتني صديقا لها وكشفت لي عن قلبها فرأيت العفة والكمال والطيبة وحسن الخصال والعطف والحنان، والآن مضى على عامان وأنا سعيد بصداقتها واثق من إخلاصها ووفائها.

إحسان: إلا ترغب هي في الزواج؟

مختار: كلا. وقد صرحت لي انها ستبقى وفية لذكرى من أحبته وأحبها ولن يكون لها زوج غيره.

إحسان: إذن لابد لها من عشيق تهواه.

مختار: ما هذا الكلام؟! حكمت هانم يكون لها عشيق؟! هي مثال العفة والفضيلة؟!. . .

إحسان: لكنها يا بك في عنفوان الشباب وكمال الصحة. وللحب على الشباب نفوذ، كما أن للطبيعة على الصحة سلطانا.

مختار: الصداقة عندها قهرت الحب، والعفة تغلبت على الطبيعة.

فايد: إحسان يجهل قوة الصداقة وسلطانها على القلوب. أنه فتى مادي، فلا تتعب نفسك معه.

إحسان: على كل حال لا يستطيع مختار بك أن ينكر انها ذات دلال. وإني وإن لم أكن من أخصائها لي بها معرفة، وقد سبق أن زرتها ورأيت بعيني دلالها.

مختار: لا أنكر انها ذات دلال، ولكن دلالها حلو: دلال كله طيبة، دلال خلا من المكر والخداع. دلال النساء قوامه الدهاء عادة، دلال يخفي أغراضاً مقصودة، دلال أثيم، دلال مصطنع؛ اما دلال حكمت هانم فقوامه الصراحة، لا غرض له سوى ملاطفة الأخصاء. دلال بريء، دلال طبيعي. خلقت ذات دلال فلا يجوز لإنسان أن يلومها على دلالها، كما لا يجوز له أن يلوم وردة على عطرها.

إحسان: أن إعجابك بها لا حد له، لكن أصغ لي. كل فتاة في مثل جمالها ودلالها لابد أن يكون لها عشاق كثيرون، فكيف تعتقد انها بغير عاشق؟.

مختار: قد يكون لها عشاق، لكني واثق من انها لم تعشق أحداً منهم. الا تعلم يا إحسان بك أن ذوات الدلال لا يفرطن في عفتهن مطلقا. وأن كل واحدة منهن تسعى بدلالها وراء غرض واحد، هو أن تحوز الإعجاب وتستثير الرغبة. لذلك لا تجود حتى بقبلة واحدة لتبقى دائما موضع الإعجاب ومثار الرغبة.

إحسان: نظريتك غريبة أتحرم نفسها الحب لتبقى مرغوبا فيها؟

مختار: شاءت المقادير أن تتكلم ذوات الدلال على عتبة الحب والباب المغلق!

إحسان: وان فتح الباب؟

مختار: لا يفتح لهن أبدا!

إحسان: لنفرض انه فتح

مختار: تكون معجزة إحسان: فلتكن. ألا تعلم يا مختار بك أن الحب قادر على هذه المعجزة؟ الحب هو الذي يشفيها من الدلال.

مختار: سبحان الله يا إحسان بك! قلتلك إنها لا تحب ولن تحب، وستبقى وفية لذكرى زوجها الذي أحبته، إني أكثر علما بها وبعواطفها منك ومن كل الناس. لقد استعاضت عن الحب بالصداقة، ووجدت خلا وفيا وصديقا صدوقا. يا للساعات السعيدة التي نقضيها معاً!! ساعات تتجلى فيها الصداقة بأعلى واجمل معانيها. ذكاؤها وسرعة خاطرها لا يعادلان جمالها ودلالها، حديثها ينم عن طيبة قلبها ووفائها، ولصوتها رنات عذبة هي أشبه بنغمات روحانية تبعث الأمل في الفؤاد. إذا تحاورنا تتم فكرتي بنفس الألفاظ التي تحوم حول شفتي، أو تجيبني بما يولد في نفسي طائفة من الأفكار الطريفة. نصف كلمة منها تنبئني أكثر من جملة من غيرها، لأننا تعودنا أن نفكر معا. تعلم كل ما يجيش بصدري من شعور. وأدرك كل ما يتخلل نفسها من إرادة. نحن مخلوقان يتمم كل منا الأخر.

إحسان: لا نزاع في ذلك. صداقتكما لا ينكرها إلا مكابر.

فايد: ولا نزاع في أن الصداقة عاطفة اثبت من الحب، لأنها ترتكز على أنقى ما في النفس على الجزء الروحاني منها.

مختار: (وقد نظر إلى ساعته): أزف الوقت. اسمح لي يا فايد بك. أريد أن اذهب إلى مكتبة سكر لاشتري كتابا طلبته مني حكمت هانم ثم آخذه معي اليها. سأحضر إلى المحطة هذا المساء لوداعك.

فايد: (وهو يشيعه إلى الباب). لا تكلف نفسك. أرجوك

مختار: لا. . . . هذا واجب.

إحسان: (وقد لحق بمختار ومد له يده). إلى الملتقى

مختار: (وقد اخذ يده) إلى الملتقى.

(ثم يحيي إحسان قائلا: إلى هذا المساء. . . (يخرج)

المنظر الثاني

فايد، إحسان

إحسان: يا له من غبي! غبي تماما سابح في خياله، غارق في أحلامه فايد: ما لك وما له؟ دعه في اعتقاده. صداقة حكمت هي نبراس حياته. في سنه تلعب الصداقة دورا هاما.

إحسان: دورا يعمي! النهاية، دعنا منه. . بلغني انك غاضبتها. أصحيح؟

فايد: غاضبت من؟

إحسان: غاضبت الحبيبة المحبوبة، غاضبت حكمت هانم.

فايد: كيف علمت ذلك؟

إحسان: كل القاهرة تعلم ذلك. كل القاهرة إلا واحدا. . . سعادته. (وهو يشير إلى الباب الذي خرج منه مختار)

فايد: كل القاهرة؟ اشكرها على اهتمامها بشأني. آه! فهمت الآن لماذا أتيت. جئت تدرس نفسي لترى وقع الألم عليها. لكن يا عزيزي، صدقني إني لا أتألم. لا أتألم الآن. ربما تألمت غدا. وربما بعد ساعة، لكن الآن لا اشعر بأقل ألم. بلغ ذلك من فضلك كل القاهرة.

إحسان: يصل!. . .

فايد: بل إني أشعر بسعادة. نعم إني لسعيد الآن. حريتي ردت إلى. أصبحت طليقا اذهب حيث أشاء متى أشاء ومع من أشاء. أصبحت غير مضطر إلى تقديم بيان عن جميع حركاتي وسكناتي يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة غير مقيد بموعد لا يمكنني أن اخلفه ولا أن أتأخر عنه، لا. . . لا. . . كنت مستعبدا!. . .

إحسان: ضعفك أمامها هو الذي مهد لها سبيل التسلط عليك، أين ذهبت قوة إرادتك؟

فايد: ألمن يحب قوة ارادة؟ لابد انك أحببت يا إحسان وتعلم. . .

إحسان: أحببت مرة واحدة. كنت في الخامسة عشرة من عمري. والتي أحببتها كانت خادمة في بيتنا تدعى خضرة. عيناها الناعستان سحرتا فؤادي. خصرها النحيل أطار لبي، فأصبحت طوع أمرها، تسلطت علي ففقدت إرادتي. صدقت يا فايد! يستحيل على من أحب ان يعصي لحبيبته أمراً. لكني كنت في دور المراهقة، ومنذ أصبحت رجلا لم أحب مطلقا.

فايد: ذلك من حسن حظك.

إحسان: ربما! لكني على كل حال لست فارغا للحب. . . مثلك. إني اهتم كثيرا بالعلوم والفنون الجميلة.

فايد: الحب علم وفن وله فائدته وجماله.

إحسان: أبداً لا فائدة من الحب ولا جمال، اللهم إلا إذا اعتبرت الألم فائدة والمنكر جمالاً.

فايد: وماذا يدري عن الحب من تنحصر معرفته به في حبه لخادمة؟ مسكين يا إحسان! لم تحب فتاة راقية. لم تحب على الأخص فتاة تبادلك الحب. وإلا لعرفت أن الحب هو هبة النفس كلها. . . كلها. . . بلا ترو ولا تبصر. هو اندماج تام لنفسين. هو ائتلاف كامل لقلبين. هو صلة بديعة عذبة تمزج بين روحين وتشرق عليهما لا يفصلهما شيء مطلقا.

إحسان: كيف؟ والشرائع والعادات؟

فايد: الحب يثور على كل شيء. ينسف كل شيء كما يغفر كل شيء.

إحسان: والضمير والواجب؟

فايد: من أحب لا يعقل

إحسان: هذه فوضى.

فايد: هذا هو الحب (يدخل الخادم من الباب الذي إلى اليسار قائلا:)

الخادم: وضعت الملابس جميعها. ليتفضل سيدي فيختار أربطة الرقبة والمناديل ما شاء.

فايد: انتظرني من فضلك يا إحسان. سأعود اليك بعد قليل

إحسان: وهو كذلك.

(يخرج فايد من الباب الذي إلى اليسار ويتبعه الخادم)