انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 24/حب العرب في مناجم الذهب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 24/حب العرب في مناجم الذهب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1933



للعلامة الشيخ عبد القادر المغربي. عضو مجمع اللغة العربية الملكي

(دَرَى) الصيد يدريه إذا توارى عنه وما زال به حتى أمسكه. فدَرَى هذه بمعنى خَتَل. ولها أخت مشهورة بيننا: وهي (دَرَى المسألة) بمعنى علِمها وأدركها. وبعضهم جعل (دَرَى) هذه من بابة (دَرَى) الصيد، فاشترط في دراية المسألة الوصول اليها بضربٍ من الحيلة.

ولم لا أقول في (أدرك) كما قالوه في (دَرَى)؟ فيكون إدراك المسألة وتعقلها بعد سعيٍ وجهد. كما أن إدراك الصيد واعتقاله بعد جريٍ وجهد.

ولا تقل أيها القارئ أن (دَرَى) بمعنى (خَتَل) لا عهد لنا بها. بلى! فإننا نستعمل حتى في لغتنا تخاطبنا أختاً لها: وهي كلمة (دَارى) من (المفاعلة) ونريد بها أن يُلين الشخص القولَ لآخر، ويسارع إلى هواه، ويتجنب سخطه، فنستعملها بمعنى المجاملة، وإن كان اشتقاقها في الأصل يدل على معنى الخديعة والختل.

اما شاهد (دَرَى) الصيد بمعنى ختله فهو قول الشاعر:

فإن كنتُ لا أدري الظباء فأنني ... أدُّس لها تحت التراب الدواهيا

فالشاعر يريد بقوله (أدري الظباء) أنه يختلها ختلاً إذا أراد اصطيادها، حتى إذا عجز عن ختلها وإمساكها باليد، فانه يصيدها بالفخاخ والحبائل يدسّها لها تحت التراب. فالدواهي إنما أراد بها هذه الفخاخ؛ كما أن المراد بالظباء ظباء الوحش. ويبعد أن يكون أراد بها ظباء الأنس: أعني الحسان من النساء بدليل الرواية الأخرى وهي (أدسُّ لها تحت العِضاه المكاويا) و (العِضاه) شجر عظام في البادية، تأوي اليها الظباء عند اشتداد الهجير فتقيل تحتها، وتعطُو إلى أوراقها و (المكاويا) جمع مكواة: آلة الكي المعروفة، وأراد بها هنا الفخاخ نفسها.

ولكلمتي (دَرَى) و (دارى) أختان هما (ادَّرى) الصيد من الافتعال. و (تَدَرَّى) الصيد من (التفّعل) وكلتاهما بمعنى (خَتَل) أيضاً.

أما شاهد (ادَّرى) بتشديد الدال، فبيتٌ من الشعر كلنا ينشده هكذا:

وماذا يبتغي الشعراء مني ... وقد جاوزتُ حدَّ الأربعين

وهو لسُحَيْم بن وثيل الرياحي. وصواب الرواية: وماذا يدَّري الشعراء مني الخ

(يدَّرى) بتشديد الدال من (ادَّرَى) الصيد ختله حتى اصطاده. أي لا يظن الشعراء أنهم قادرون على ختلي وخديعتي بعد أن بلغت سن الكمال والأستحصاف.

هذا شاهد (ادَّرى). أما فعل (تَدَّرى) بتشديد الراء (من التفعُّل) فله شاهد عجب، من أنباء حب العرب، في معادن الذهب. وهو قول شاعرهم:

كيف تراني أذَّرى وادَّرى ... ِغرّات (جُملٍ) وَتَدرَّى غِرِرَى

على أن هذا البيت شاهد لكل من الفعلين: (ادَّرى) (من الأفتعال) و (تَدَّرى) (من التفُّعل).

أما (اذَّرى) بالذال المعجمة فليست من معنى الختل في شيء. وإنما هي من تذرية الَحِب ونحوه في الهواء، فيذهب القشر والتراب، ويبقى الحب واللباب.

وأصل (اذَّرى) (اذترى) من الأفتعال. كما أن اصل (اذَّكر) أي تذكر (إذتكر)، وثلاثيه ناقص وأو: يقال ذَرَا فلان حَبّ بيدره. و (ذَرَّاه) من التفعيل، فاذَّرى في بيت الشعر المذكور هو بهذا المعنى.

والفعلان الأخران (ادَّرى) و (تَدَّرى) بالدالين المهملتين هما بمعنى خَتَل الصيد.

وقائل البيت لم يرد أنه ادَّرى وختل ظبيةً من ظباء الوحش وإنما كان غرضه أن يختل ظبيةً من ظباء الأنس وهي (جُمل) الحسناء. فهو يقول: قد كنت أنا و (جُمل) نعمل في تحصيل الذهب وتنقيته من التراب، وكنت أعمل أنا في تذريته وتعريضه لهبوب الريح فيتطاير التراب والشوائب هنا وهناك، وتقع ذرَّات الذهب وقطعه الصغيرة على الأرض.

أما (جُمل) فلها وظيفة غير وظيفتي: وظيفتها (التحصيل). فأنا (المذرِّى) وهي (المحصِّلة).

قال ابن فارس: أصل معنى التحصيل استخراج الذهب من حجر المعدن.

وقال علماء اللغة: (المحصَّلة) كمحدِّثة المرأة التي تحصّل تراب الذهب أو تراب المعدن. ومعنى تحصيله تخليص الذهب منه. والتحصيل في الذهب كالتصويل في الحنطة ونحوها.

وقال ابن بّري: المحصَّلة هي التي تميز الذهب من الفضة.

وجميع أرباب المعاجم لم يذكروا (اسم فاعل) التحصيل إلا بصيغة المؤنث (المحصَّلة) ولا يكادون يقولون (المحّصل) بالتذكير، إلا على سبيل بيان الاشتقاق القياسي. أما (المحصلة) الأنثى فقد أصبح وصفاً غالباً على امرأة ذات عمل خاص بها هو تحصيل الذهب وتنقيته.

ومما يحسن التنبيه اليه أن فعل (اذّرى) التي هي بمعنى التذرية في قول الشاعر المذكور لم يقل أحد من علماء اللغة أن المراد بها تذرية حب الحنطة مثلاً، بل أجمعوا على أن مراد الشاعر تذرية الذهب وتنقيته من التراب فيظهر أن البيت من قصيدة حكى فيها الشاعر حادثة جرت له مع الحسناء (جُمل) وهما يعملان في معدن (حِلِّيت) على وزان (سِكّيت) في بلاد نجد أو غيره من مناجم جزيرة العرب التي كثر التحدث عنها في الآونة الأخيرة.

وكما استفدنا من علماء اللغة أن (المحِّصلات) هن المشتغلات في المعادن، وأن (التحصيل) من أعمال النساء الخاصة بهن أو الغالبة عليهن، استفدنا ذلك ايضاً من شعراء العرب. فقد قال أحدهم:

اإلا رجل جزاه الله خيراً ... يدلُّ على محِّصلةٍ تبيت؟

وهذه الدلالة في مغزاها تشبه الدلالة في قول الأخر:

يا من يدلُّ عَزَباً على عَزَبِ

وإذا كانت وظيفة المرأة العربية في معادن الذهب ما ذكرنا، فتكون الحسناء (جُمل) بينا هي منهمكة في تحصيل الذهب وتخليص شذراته، كان الشاعر الذي قال: (كيف تراني أذَّرى وأدَّرى الخ) كان يدَّرى تراب الذهب ويلاعب المذراة أو المنسف بيديه، أما عيناه فكانتا تلاعبان عيني (جُمل)؛ فكان يختل (غرَّاتها) جمع (غرَّة) أي غفلتها، فإذا غَفلت رنا اليها. فيكون بذلك قد ختلها، أي خدعها مذ أوهمها أنه لا ينظر اليها مع أنه ينظر. ولم تكن (جُمل) بأقل كلفاً وحرصاً على مسارقته النظر، فكانت هي في نوبتها أو في دورها (كما يقولون) (تَدَرَّاه) أي تختله وتخدعه فتوهمه أنها لا تنظر اليه، ثم تتحَّين (غِرَره) جمع (غِرة) أيضاً أي غفلته حتى إذا سنحت لها غرة من غرره نظرت اليه معجبةً أو متفرّسة إن كان يصلح لها بعلاً أو لا.

ومحصّل القول أنه كان للعرب معادن ذهب يجتمعون نساء ورجالاً، أحراراً في عملهم، أو مأجورين لصاحب (رأس المال) رومي أو فارسي يشغلهم على حسابهم. وإن النساء كان عملهن التحصيل، أي تنقية ذرّات الذهب وشذراته، بينما الرجال الأشداء كانوا يقومون بأعمال أخرى أشق من أعمالهن كالتذرية وتفتيت الصخور بالمعاول ونحو ذلك.

ويظهر من لهج شعرائهم بذكر (المحصّلات) أنه كان لهن من تجمعهن في ذهابهن إلى المعدن وإيابهن، أو من زيّهن وشكل لبوسهن، أو من حديثهن ونوع تظّرفهن، كان لهن من ذلك حالة خاصّة لفتت عيون الشبان إاليهن، وحملتهم على ذكرهن وتمني معاشرتهن.

وهذا كما هو الحال في نساء المعامل وفتيات المخازن في أوربا اليوم.