مجلة الرسالة/العدد 24/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 24/الكتب
على هامش السيرة
تأليف الدكتور طه حسين
للدكتور محمد عوض محمد
إذا ذكرت كلمة (السيرة) في هذه الأقطار الفسيحة التي يظلها الإسلام، فإنها لن تنصرف إلا إلى معنى واحد، إلى سيرة واحدة: هي سيرة محمد بن عبد الله. . وهيهات أن يكون في الدهر كله سيرة أطيب نشرا وأعذب ذكراً من سيرة هذا النبي الأمي، الذي نشأ وسط الصحراء المقفرة المظلمة فلم يلبث أن ملأ العالم خصبا ونورا.
وإني إذ اجلس لأقول كلمتي الضعيفة في هذا الكتاب الذي بين يدي تعود إلى خاطري ذكرى عهد بعيد، حين كنت اطلب العلم في مدرسة المعلمين، وكنت اكثر من الاختلاف إلى دار الكتب المصرية؛ حيث اعتكف على مطالعة الأسفار التي لها صلة بسيرة هذا النبي الكريم. وكنت اكثر على الخصوص، من مطالعة ما كتبه المستشرقون عن الإسلام، وعن الرسول عليه السلام. فكنت أحياناً أجد ما يطفئ الغلة، وتبرق له الأسارير، وينشرح له الصدر. فانطلق إلى الدار راضيا، تملأ قلبي الغبطة والسرور. وأحياناً كنت (يا للأسف!) أقرأ ما يبعث في القلب حنقا وكمدا، فانصرف إلى منزلي حزينا كئيبا مكلوم الفؤاد. ولست ادري تماما ما الذي كان يجذبني إلى كتب المستشرقين في تلك السنين، مع انها كتبت في لغة غير لغتي، وكنت أجد في مطالعتها عسرا ومشقة. . . لعلي كنت اقبل عليها اذ يشوقني الإنصات إلى شهادة غير المسلمين بفضل الإسلام، لكني كنت ارجح الآن هناك سبباً آخر أدق وأخفى، وهو إني كنت التمس سيرة محمد بن عبد الله في تلك الكتب غير العربية لان ما كتب فيها (على علاته) سهل التناول، منسق الوضع، ولهذا لم تنته أيام دراستي في ذلك العهد حتى طالعت، مثلا، مؤلفات السيد أمير علي الإنكليزية ولم استطع أن اقرأ جزءاً واحداً من سيرة ابن هشام. وكان اكبر ما ينفرني من هذه الكتب القديمة ذلك الإكثار من الأسانيد، وإدخال الحديث في الحديث، بحيث يختلط الكلام على غير من تعود مطالعة هذه الأسفار.
ولقد شكوت إلى الأستاذ طه حسين إني بت مضطرا، قبل ان ابدي رأياً في كتابه الجديد، إلى مطالعة هذه الأسفار القديمة وإني ساعياً بكل هذه الأسانيد الطويلة العريضة، وهذه الأخبار المتداخل بعضها في بعض. وما أظن دراستي القاصرة ستساعدني على تذوقها والاستمتاع بها.
فقال الأستاذ: إن ألذ شيء عندي في كل ما أطالع واقرأ هو هذه الأسانيد التي تنفر منها. وليس شيء احب إلي من أن أنصت إلى الخبر أو الحديث وأتتبعه من أول الرواية إلى أخرها.
فعجبت أولاً كيف يتسنى لإنسان ذي ذوق سليم أن تحلو له قراءة العنعنات التي لا تكاد تنتهي. لكني لم البث أن أفهمت أن المرء متى عرف الرواة جميعا وعلم من أمر كل منهم شيئاً، فان هذه الأسماء تصبح مجرد أسماء، بل أشخاصاً تعرفهم يتحدثون اليك، وتعلم أيهم تستطيع أن تركن إلى كلامه وروايته.
وبعد ان شرح لي الأستاذ هذا الأمر الذي أشكل علي، تبينت، أو على الأقل ثبت لدي ما كنت أتوهمه من أمره وما أكاد أثبته، ان ثقافة الدكتور طه حسين الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس، ضخمة الدعائم، وطيدة الأركان. وان ليست ثقافته الغربية، التي نسمع عنها الشيء الكثير، إلا رواء وطلاء أن بهر العين منظره فانه لا يذهب إلى غور بعيد. وقديما قال نابليون في الروس: انك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أيضا ان نقول إذا حككت طه حسين، برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.
وقد استطاع طه حسين (على غير عمد) ان يصرف الناس عن حقيقة أمره بحديثه عن اليونان والرومان والسكسون واللاتين، واثارته هذه الزوابع التي برع في إثارتها أثناء كلامه عن اشخاص مثل ديكارت وليبنتز وبودلير، وعن التجديد، وما أدراك ما التجديد. فلعل أصدقاء طه حسين ان يحمدوا للشخص الضعيف كاتب هذه السطور أن كشف لهم أمر صديقهم ما خفي طوال هذه السنين.
وبعد، فان بين يدي كتاباً ليس موضوعه جديداً على قراء هذه الصحيفة. فان الفصول الثلاثة الأولى قد ولدت مع الرسالة، وظهرت في إعدادها الأولى، واعرف ان الكثير من قرائها قد راقهم من الموضوع جدته وطرافته، ولست اشك في ان يهم شوقا للاستزادة من تلك الفصول. فها هو قد أتمها اربعة عشر فصلا، وما ظن، وما أرجو، أن سيقف بها عند هذا الحد.
ان كتب الدكتور طه حسين من صنفين: الأول كتب أدبية بحتة والثاني كتب في نقد الأدب وفي تاريخه. وهو نفسه ينعت هذين النوعين بالأدب الإنشائي والأدب الوصفي، ويمثل الأول كاتب مثل شكسبير، ويمثل الثاني كاتب مثل سنت بوف. وأولى بنا أن ندعو النوع الأول بالأدب؛ والثاني بالنقد والضرب الأول هو الأسمى والأشرف، وكثير من الناس يستطيع أن يستحسن أو يستهجن وأن يبحث ويقرر. أما الابتداع فلم يتح إلا لقليل من الناس. ولقد حاول سنت بوف أن يكون شاعرا فلم يأت بعظيم، فانقلب إلى النقد ولسان حاله يقول: من استطاع فليكتب، ومن لم يستطع فلينتقد!
في هذه العبارات شيء من التحامل على الناقدين، وقد أوردناها على هذه الصورة عمدا لأننا نريد أن نتحامل على طه حسين الكاتب الناقد، وأن ننتصف منه لطه حسين المؤلف الأديب. فقد رأينا في الأستاذ أحياناً ولعاً بالانصراف إلى النقد وإلى المؤلفات النقدية مثل حديث الأربعاء وحافظ وشوقي والأدب الجاهلي. ولقد تعجبه هذه الضجة التي تبعثها كتاباته، ويغتبط بهذا العثير الذي يثيره في الفضاء ويملأ به الجو حيناً من الزمان. والحقيقة التي نرجو أن يدركها الأستاذ قبل فوات الأوان هي أن الصفحة الواحدة من كتاب (الأيام) أبقى على الزمن من كتاب الأدب الجاهلي كله.
ليس لطه حسين إذن في الأدب البحت سوى كتب ثلاثة: (الأيام) و (في الصيف) و (على هامش السيرة) الذي بين أيدينا.
ويمتاز هذا الكتاب الجديد من سابقيه بأن المؤلف لم يلجأ هنا إلى حوادث حياته الخاصة، بل انصرف إلى الأخبار القديمة، فالتمس وحيه بين صفحاتها. . والذي يدهش له القارئ أن يرجع إلى تلك الكتب القديمة ثم يعود إلى (هامش السيرة) فيرى امامه شيئا مبتدعا مخترعا، وجدة جذابة، وطراقة معجبة. ومع هذا كله لا يرى خروجا عن الأصول التي استوحاها المؤلف واستلهمها.
اعتمد طه حسين على الكتب القديمة كما اعتمد شكسبير على قصص فلوطرخوس وأمثاله، وشتان بين السبيل التي سلكها شكسبير وبين الأصل الذي استرشد به. . وكذلك كان طه حسين يتناول الحادث الذي يمر به قارئ السيرة عجلا، دون ان يلفت نظره منه شيء، يتناوله ثم يأخذ في تصويره وتحليله وإبرازه وإظهاره وتقليبه على نواحيه، حتى يثب امام العين وثوبا، ويبدو ما في الحادث البسيط من حكمة وشعر، ومن قوة وسحر. واكبر شيء ساعد طه على تأليف كتابه هذا مقدرته على تبين الموقف الذي ينطوي على شيء كثير من الحكمة ومن الشعر، فيختار هذا الموقف ثم لا يزال به بصقله ويجلوه حتى يبديه للعين رائعا مجسما ملموسا. وقد خدمه التوفيق في الكتاب كله، فان الفصول، وان تفاوتت أحياناً، فإنها جميعا تشهد بحسن الاختيار، والإبداع في التصوير.
وقد أصبحت أشخاص هذا الحديث، وليست أسماء مجرة وألفاظاً مسطورة؛ بل كائنات حية بارزة نكاد ان نحسها ونراها تتحرك بين أي أيدينا: وقد أبدع طه أيما إبداع في وصف شخصية عبد لمطلب ووصف حياته منذ أن اخذ في حفر زمزم، إلى التقائه بابرهة الأشرم، إلى رقاده رقدة الموت بين الأبناء والأحفاد. يصف طه هذا كله فنرى الصور امام أعيننا ماثلة قوية لا لبس فيها ولا إيهام.
في الكتاب الشيء الكثير الذي يستثير الإعجاب ولكن اكبر ما يعجبنا فيه هذا الإبداع في تصوير الأشخاص عامة وشخص عبد المطلب خاصة، ثم هذه الحياة التي تنتظم المناظر والمواقف، بحيث يرى القارئ نفسه وقد نقل نقلا إلى ذلك الزمن وتلك الأمكنة.
وقف المؤلف في هذا الكتاب على (هامش) السيرة. لم يقف في وسطها ولا بعيدا عنها بل على هامشها. وقد كان من حسن التوفيق أن اختار هذا الموقف الذي مكنه من أن يبتعد عن السيرة أحياناً إذا دعا إلى ذلك داع: ثم يعود اليها بعد أن يطوف بالأفاق، معرجا على بلاد الروم والأحباش واليمن. وقد اضطر إلى أن يبتعد عن السيرة قليلا لكي يشرح لنا ماذا دعا ابرهة الأشرم إلى الإغارة على البيت الحرام في العام الذي قدر للعالم فيه أن يستقبل اكرم أبنائه وأشرفهم. فلقد جاء ابرهة من الحبشة إلى اليمن لكي يؤدب يهود اليمن على اضطهادهم للمسيحيين اللذين استوطنوا بعض جهاتها. . . وهذا كله اضطر المؤلف إلى أن يرينا كيف حلت اليهودية محل الوثنية، وكيف انتقلت اليهودية إلى بعض نواحي جزيرة العرب وكيف حملها (تبع) ملك اليمن وإلى صنعاء إلى اليمن. ثم كيف اخذت النصرانية تنتشر وسط الاضطهاد والمذابح، في مختلف الأنحاء: في مصر وبلاد الحبشة وفي نجران من بلاد اليمن. وكيف قام يهود اليمن فذبحوا نصارى نجران. وجاء الأحباش إلى اليمن ليثأروا من اليهود. وكيف بقى ابرهة الحبشي حاكما على اليمن، ثم حاول أن ينشر النصرانية فيها وفيما جاورها من الأقطار. وهكذا اقبل على الحجاز بجيشه وفيلته. وأراد أن يدمر الكعبة فرده الله ودمره هو وجنوده. وفي تلك السنة ولد الصبي اليتيم محمد بن عبد الله.
كان لابد للمؤلف أن يبتعد عن السيرة قليلا، لكي يشرح لنا كل هذه الحوادث، واضطر لان يقوم بهذا الشرح في خمسة فصول (من السادس إلى العاشر)، تحس أثناء قراءتها أن المؤلف يكتب في شيء من السرعة والإيجاز، كأنما يخشى أن يطول غيابه عن مكة وأهلها، وعن السيرة وما يحيط بها. فهو يريد أن يسرع بالعودة اليها. وهو لهذا إلى أن مضطر يلخص الحوادث، على خطورتها (تلخيصا) ويكتفي في بعض المواضع بأن يلم بها إلماما. ولقد هممت بأن أؤاخذه على هذا لولا أني ذكرت أن المقام لا يحتمل الإطناب، وأن الإسراف في نقش الإطار يحجب جمال الصورة ويضعف تأثيرها.
برغم ذلك كله فأن في هذا الوصف العجل للحالة الروحية في الشرق قطعا هي آية في دقة الخيال والتصوير. وإن كان لابد من الاستشهاد فلنذكر للقارئ على سبيل التمثيل تلك القطعة التي يعرض علينا فيها آلهة اليونان فيرينا أوبولو والمريخ وأرتيمس وأثينا، وقد اجتمعوا لينظروا فيما عساهم يفعلون؛ فلم يلبثوا أن أجمعوا أمرهم على أن يرحلوا عن الديار التي سادوا فيها زمنا طويلا، وتحكموا في أهلها قرونا، وقد آن لهم أن يتراجعوا أمام هذه الآيات السماوية الجديدة التي محتهم ونسخت دينهم.
بمثل هذا الحوار الشعري الجميل يصف لنا المؤلف كيف زالت الوثنية اليونانية وحلت محلها اليهودية والنصرانية. وهذه القطعة وحدها تشهد بأن المؤلف قد رزق النصيب الأوفر من خصوبة الخيال، والمقدرة على إلباس الحادث العادي ثوباً شعرياً رائعاً.
وهناك فائدة أخرى استفادها المؤلف في موقفه (على الهامش) ذلك أنه استطاع إلا يتقيد بالترتيب الزمني للحوادث؛ فإذا بدا له أن يسهب في وصف شخصية راقته وأعجبته اندفع في وصفها إلى النهاية، لا يلفته عن ذلك حادث أو خطب. فقد اعجب، مثلا، وحق له ان يعجب، بشخصية أم أوفى حاضنة النبي، فلم يزل يصف حياتها منذ ولادة محمد بن عبد الله إلى أن شهدت عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ثم يعود بعد ذلك إلى حديث الرضاعة ووفاة عبد المطلب.
وهذه الخطة التي الزم بها المؤلف نفسه قد تبدو غريبة وربما اعترض عليها بانها تدفع بالقارئ من أول السيرة إلى عصر الخلفاء الراشدين ثم تعود به مرة اخرى إلى بدء السيرة. ولا تزال بالقارئ هكذا ذهابا وإياباً، ومع أن لهذا النقد وجاهته التي لاشك فيها، فان للمؤلف عذره بان الذي يريد ان يكتبه ليس حديث السيرة بالذات بل دراسات مستقل بعضها عن بعض، وفي وسع القارئ أحياناً أن يطالع الفصل متقطعا من الكتاب فلا يكاد يفتقر إلى ما سبقه.
بقيت كلمة لا بد منها عن أسلوب الكاتب، أي عن طريق الأداء عن المعاني والإبانة عما في صدر المؤلف.
ان لطه حسين من السيطرة على اللغة العربية التي لا تضارعها لغة في قوتها وفصاحتها، كما لا تضارعها لغة في شدتها ومنعتها، أن لطه حسين من السيطرة على هذه اللغة وعباراتها المتينة الرصينة ما لا يعرفه إلا اللذين عاشروه من كثب وراقبوه وهو يعمل في قوة ونشاط. ومتى وفق إلى اختيار الموضوع الذي يرضاه؛ وهداه خياله الواسع إلى طريقة معالجته، فقد هان الأمر وسهل كل شيء ومضى في الإملاء كما يتدفق النهر الجاري.
غير إننا إذا كنا نشكو شيئا فأنا نشكو هذه القوة بعينها. وهذه السيطرة التي تطغى أحياناً فتدفع بالكاتب إلى التعسف، وإلى الابتعاد عن الطريق التي يسلكها الناس جميعا، انظر اليه مثلا اذ يحدثك عن الدمع الذي يتساقط غزيرا من العينين فيقول لك أنها دموع غلاظ. ويكفي أن يعلم طه ان الناس جميعا يقولون دموع غزار، لكي يقول هو دموع غلاظ.
هذا الشيء، والقليل مثله مما قد يصادفنا في الكتاب، سنة من سنن القوة والسلطان رأيناها من قبل في مثل ابي تمام وابي الطيب المتنبي الذي كان يتعمد قول الشيء الغريب النافر ولأنه قوي ولأنه مدل بقوته، ولأنه لا يبالي بالأرض ومن عليها. وما احسن المثل العامي الشهير (العافية هبله!).
على أن المؤلف في هذا الكتاب قد أدى معانيه بلغة فيها بلاغة وإبداع يفوقان حتى الذي ألفناه منه وتعودناه. والسبب في هذه الإجادة سهل إيضاحه: فأن الموضوع الذي يعالجه هنا موضوع عربي صميم، والبيئة عربية خالصة. والمتكلمون من قريش وغير قريش من الناطقين بالضاد. وهذا كله قد أتاح للمؤلف فرصة لأن يتدفق نهره العربي الفصيح الذي لا تشوبه عجمة اللاتين ولا التواء السكسون. فانطلقت سليقته العربية حرة طليقة واكبر الظن أنه هو ليس مدركا لهذا الأمر. ومع ذلك فأن في الكتاب قطعا قد بلغت في الأسلوب الشعري منزلة يصعب أن نجد لها ضريباً. حقيقة أن أمثال تلك القطع ليس في كل مكان من الكتاب، ولكنها في كثير من المواضع، بحيث يصبح من العبث أن نستشهد هنا بقطعة أو قطعتين. ولابد للقارئ من الرجوع إلى الكتاب كله. ولابد له من قراءته في تأمل وتمهل وتذوق لهذه الفصول الرائقة التي يسمو فيها النثر حتى يضاهي الشعر، ويؤثر في النفس تأثيراً شعريا خالصا.
وللمؤلف شغف بالوضوح والبيان، فهو لا يحاول أن يستر معنى ولا فكرة بستار أو غشاء. وما حاجة الوجه الجميل إلى الستر؟ فهو ليس من عشاق الغموض، بل انه ليسرف في حبه للوضوح والجلاء إسرافا، ولهذا نراه يكثر من هذا التكرار الذي يعرفه قراؤه دون أن يدركوا له سرا. بل ربما لم يدرك هو نفسه سر هذا التكرار. وقد يعده الناس من ضرورات النثر المنسجم ولهم في هذا بعض الحق؛ ولكن أكبر الحق في هذا أن الذي يدفعه إلى تكرار لفظ من آن لآن هو رغبته في أن يفهم عنه ما يقول من غير لبس ولا إبهام.
والآن، وقد أوشك هذا النقد أن يختم، يتردد في النفس سؤال: سؤال من ذلك الطراز الذي يدفعنا اليه الفضول الأدبي. وهو من أي انواع الأدب هذا الكتاب الذي بين أيدينا؟ اهو رواية قصصية تاريخية؟ اهو من نوع المقامات أم مجرد مقالات؟
ولست ادري ما ولع النقد بتصنيف كل شيء وتسمية كل أثر؟ ولئن كانت الفاكهة لذيذة شهية، فهل يضرنا أن نجهل اسمها؟ أن الفكر البشري ما برح مولعا بأن ينسج على غير منوال. لكن إذا اجتهدنا أن نجد لهذا المؤلف شبيها بين المؤلفات، فلعل اقرب شيء يشبهه هو تلك الملاحم التي تصف العصور الغابرة، وتجمع بين القوة والإعجاز.