مجلة الرسالة/العدد 239/الخلود
مجلة الرسالة/العدد 239/الخلود
'
للشاعر الفرنسي الكبير لامارتين
ترجمة السيد أحمد عيتاني
أحب لامارتين (ألفير) حباً ملك عليه حواسه ومشاعره وكاد يقرب من العبادة إلا أن القدر أبى أن يمنعه بهذا الحب طويلاً، فبينما هو يقضي إلى جانب محبوبته ألذ ساعات العمر وأعذب أوقات الحياة، إذا بالنبأ يفاجئه بأنها مريضة ومشرفة على الموت، فينال هذا النبأ منه وينظم آلامه وشجونه في تلك القصيدة التي ينظر فيها إلى الموت نظرة المنقذ الذي ينقل الإنسان من آلام الحياة الفانية إلى سعادة الحياة الأبدية
لقد آلت شمس أيامنا منذ فجرها إلى الاصفرار!
فهي لا تكاد ترسل نحو جباهنا الكليلة
سوى بضعة أشعة مرتجفة تقاوم الظلمة!
ولكن الظلمة تنمو، والضياء يتلاشى، وينمحي كل شيء ويزول!
ألا فليرتعد سواي أمام هذا المشهد! ولتخنه قواه!
وليبتعد مرتجفاً عن شفا الهوة!
وليعجز عن الاستماع بعيداً دون أن يجزع
إلى أنشودة الموت البائسة التي يتهيأ لالتقاطها، أو إلى الزفرات
المختلفة تصعدها حبيبة أو شقيق
فتعلق حول أطراف سريرها الكئيب!
أو إلى الناقوس المدوي،
تنشر دقاته المضطربة بين الملأ أن فلاناً قد قضى!
سلاماً أيها الموت! أيها المنقذ السماوي!
إنك لا تظهر لي في هذا الشكل الرهيب
الذي ألبسك إياه الوهم والرعب زمناً طويلاً! إن ذراعك لا تحمل ذلك الخنجر الهدام!
إن جبينك ليس مرعباً! وإن عينيك ليست غادرة!
إن رباً لطيفاً يسوقك لتخفيف الآلام!
إنك لا تهلك! إنك تنقذ!
وإن يدك لرسول سماوي يحمل شعلة إلهية!
عندما تنطبق عيني المتعبة على ضوء النهار
ستأتي، وتغرق جفونها بنور أشد نقاوة منه!
ويفتح أمامي الأمل، وأنا أحلم في القبر على مقربة منك
أبوابَ عالم أبهى من هذا العالم!
تعال إذاً وأنقذني من قيودي الجسدية!
تعال وافتح لي سجني! تعال وأعرني جناحيك!
ما يلهيك؟! اظهر! ولأقذف بنفسي أخيراً
نحو هذا الكائن المجهول: مبدأي وغايتي!
من فصلني عنه؟! من أنا؟! وما يجب أن أكون؟!
إني أقضي ولا أفهم معنى الحياة!
أيتها الروح! أيها الضيف المجهول! يا من أسائلك عبثاً!
في أية سماء كنت تقطنين قبل أن تكوني فيّ؟!
أية قوة قذفت بك إلى هذه الكرة الأرضية؟!
وأية يد ألقت بك في سجنك الصلصالي؟!
أي روابط خفية، وأي عقد مدهشة
جعلتك تقيمين في الجسد، وجعلت الجسد مالكاً لك!
أي يوم تنفصلين فيه عن المادة؟
وإلى أي صرح جديد تغادرين الأرض؟
أتنسين عندها كل شيء؟!
أتعودين بعد القبر إلى الحياة؟! أتبدئين حياة ثانية؟
أم ستعملين، وقد تجردت إلى الأبد من قيودك الفانية
على التلذذ بحقوقك الخالدة
في جوار الله مبدأك ومعادك!
أي نعم. ذاك ما أتمناه يا نصيفة حياتي!
ذاك ما جعل نفسي مطمئنة
وقادرة على النظر، دون ما ذعر إلى قسمات وجهك الوسيمة
تذوي عليها ألوان ربيعك الساطعة!
ذاك ما جعلك ترينني أبتسم
وأنا أموت شاباً فريسة تلك الطعنة التي أصبت بها!
ذاك ما جعل دموع الفرح تلمع في عيني
عند رؤيتك الأخيرة، في وداعنا الأخير!
(أمل باطل!) هكذا سيقول أتباع أبيقور!
إنهم سيقولون: (يا فاقد الشعور، يا من يخدعك غرورك الكثير!
أنظر حواليك: فكل شيء يبدأ ويتلاشى!
كل شيء يسير إلى نهاية! وكل شيء يولد ليموت!
إنك ترى الزهرة تذوي في تلك الحقول الصفراء!
والأرزة الشامخة تسقط في الغابة تحت أعباء السنين لتفنى خلال الأعشاب!
إنك ترى البحار تجف في أحواضها الناضبة!
والسماوات نفسها قد أخذت بالاضمحلال!
حتى الشمس، ذلك الكوكب الذي كتم الزمن مولده
تسير مثلنا نحو الفناء!
ولسوف يبحث البشر عنها يوماً فلا يجدونها، فيتيهون في الفضاء الفارغ!
إنك ترى الدهور حواليك، في الطبيعة كلها! تتراكم غباراً على غبار!
وإنك لترى الزمن يخطو خطوة واحدة فيطويك مع كبريائك! وينقلب كفناً لجميع ما أنتج!
والإنسان! والإنسان وحده! يا للجنون العظيم!
يظن أن سيعود ثانية إلى الحياة في أعماق لحده!
ويحلم بالخلود، بعد أن حطمه الزمن
وحملته العاصفة إلى العدم!
ألا فليحبكم سواي يا فلاسفة الدنيا!
ودعوني ووهمي! فالأمل يجب عليّ وهو حبيب إليَّ!
إن عقلنا ليتعثر ويختلط عليه الأمرَ
نعم إن العقل ليسكت، ولكن القلب ليجيب!
أما أنا، فحينما أرى الكواكب
وقد تاهت عن طريقها السوي في السهول السماوية
يصطدم بعضها ببعض في حقول الأثير
وتنقلب دون ما غاية في السماوات المذعورة؛
حينما أسمع الأرض تئز وتتحطم!
حينما أرى كرتها الشاردة المنعزلة
تسبح بعيدة عن الشموس، باكية إنسانها الهالك!
لتضل في حقول الليل الأبدي!
حينما أكون آخر شاهد لتلك المناظر الرهيبة؛
حينما أظل محاطاً بالموت والظلمة
وبالرغم من وحدتي وجزعي
سآمل فيك أيها الكائن الحق اللطيف
وسأنتظرك أيضاً، وأنا في العوالم البالية
مؤمناً بعودة الفجر الأبدي!
ما أكثر ما غمرتني وإياك تلك الظلمة ونحن بعيدان عن العالم، يحدونا الأمل
تارة على قمم الصخور الهرمة! وأخرى على ضفاف البحيرة الكئيبة القاحلة! أثناء مقامنا السعيد. . . حيث بدأ حبنا الخالد
لدي النظرة الأولى كما تذكرين!
لقد كانت الظلال، وهي تنحدر من وراء الجبال
بقطعها الطويلة، تحجبها عن أبصارنا!
فلا تلبث كواكب الليل الغريبة
بعد برهة من الزمن
إن تزحف دون ما جلبة أو أبهة
وترد على أبصارنا ما حجب عنها
وتسبغ على الأرض ثوباً من الأنوار الضئيلة
كما يسبغ المصباح نوره المقدس على المعابد المقدسة التي أضاءها النهار بنوره
فينير منها الهياكل بعد ما تأخذ أشعة المساء تدريجاً بالاصفرار!
هنا كنت تفتشين وكنت تنتقلين ببصري
من السماء إلى الأرض، ومن الأرض نحو السماء
وكنت تقولين: (إيه يا إلهي الخفي)
إن الطبيعة هيكل لك
إن العقل ليراك في كل بقعة تتأملها العين منها
إن هذا العالم مرآة لكمالك الذي يحاول العقل إدراكه!
وصورة له وانعكاس عنه!
إن النهار نظرتك، والجمال بسمتك!
إن القلب ليعبدك في كل ناحية!
وإن النفس لتحيا بك!
أيها الخالد الأبدي! أيها القدير اللطيف!
إن جميع تلك النعوت ليست كافية لتصوير عظمتك!
إن العقل ليعنو أمام جوهرك العظيم!
فيمجد عظمتك حتى لدى سكوته! إلا أنه وهو ذاك العقل المنهزم يا إلهي
حينما يشعر أن الحب سر وجوده
يندفع بذاك القانون الجليل نحوك
متشوقاً إلى حبك ومتحرقاً إلى معرفتك
لقد كنت تقولين، وقد وحد قلبانا زفراتهما المتصاعدة
نحو هذا الكائن المجهول الذي نمت عليه آمالنا!
كنت تقولين ونحن جاثون أمامه وقد أجبناه في خلقه
وحمل إليه الفجر والعشاء تمجيدنا إياه!
كنت تقولين وقد أخذت عينانا المنتبشيتان
تارة تتأملان الأرض: منفانا نحن!
وأخرى تتأملان السماء مقامه هو!:
(أه لو أن الله يستجيب دعواتنا في هذه الساعة التي تحاول بها نفسنا الغرارة خلاصها
وتحطيم قيدها وإسارها!
فيرسل علينا من علياء سمائه طعنة تحررنا كلينا!
إذا لرجعت روحانا نحو منبعهما دفعة واحدة!
ولصعدتا على جناح الحب في ثنايا اللانهاية كأنهما خيط من نور! حتى تصلا، وقد
اجتازتا في سيرها العوالم معاً
أمام الله، وقد ذهلنا عن ذاتيهما
فتعيشان إلى الأبد ممتزجتين فيه!
أتريننا مخدوعين بهذه الآمال؟!
أصائران نحن إلى العدم؟!
أمقدر على أرواحنا الفناء؟!
أتقاسم الروح والجسد مصيره بعد خلاصها منه! فتفنى معه في ظلمات القبر
وتتحول إلى غبار؟! أو تتلاشى كما يتلاشى الصوت في الفضاء؟!
أو لا يبقى، بعد الفراق الفادح واللوعة الضائعة جزء يحبك من ذاك الذي كان يحبك؟!
أه يا إلفير! لا تسائلي سوى نفسك عن ذلك السر العظيم!
وانظري إلى من أحبك وهو يموت
ثم أجيبي!
أحمد عيتاني
عضو بعثة أساتذة جمعية المقاصد في مصر