مجلة الرسالة/العدد 238/عروس صاحب الجلالة فرعون الصغير
مجلة الرسالة/العدد 238/عروس صاحب الجلالة فرعون الصغير
للأستاذ دريني خشبة
استيقظ أهل طيبة في هَدْأَة الفجر الأول من أيام الربيع على أصوات طبول فرعون التي أخذت تدوي في الأفق، وترن في ظلال المعابد، وتنسكب مع الشفق الوردي في أذني أمون رع وترف فوق مسلات الكرنك مع هُورس الكريم
واستيقظت الآلهة كلها تبارك الجيش، وتحرس صاحب الجلالة وتغسل الأعلام المصرية المنشرة بدموع الندى. . . تلك الدموع العطرية التي كانت تترقرق من أعين الربيع مما هزّه من فرح، وما سوى فيه من شباب فرعون
واهتز حابي العظيم تحت الأسطول اللّجِب الذي صدحت موسيقاه لتمتزج بموسيقى الجيش، فتتدفق في قلوب الشعب المزدحم فوق العدوتين ألحاناً من الحماسة، ونورانية من الحب، وقدسيةً من الولاء، تنعقد فوق هامة المليك هالةً من إعزاز رعاياه، وإكليلاً من وفاء الأمة النبيلة صاحبة المجد. . .
ويل للحثيين!!
لقد أغراهم بمصر أن رأوا على عرشها الملك الشاب تحتمس فغرتهم الأماني، وهاجت في قلوبهم الأحقاد القديمة، ووسوست لهم شياطينهم أنها الفرصة النادرة التي يدركون بها ما لم يدركوه في عهد آبائه، فتألبوا، وثاروا، وجمعوا الجموع لغزو مصر
ولكن. . . طاشت أحلامهم. . . ففوق عرش النيل ملك، وفي مصر أمة، وملء الوجهين قلوب فياضة بحب فرعون يوجهها أنى يشاء. . . وهاهو ذا الجيش تنتظم صفوفه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وهاهو ذا الأسطول يتهادى على أعراف الموج في النيل نحو الشمال. . . وهاهي مصر كلها تحملق مُغضَبة نحو المشرق، ساخرة مستهزئة بأعدائها الكلاب الذين طالما حطمتهم في ديارهم، وألبستهم لباس الذل والخوف، فلما صفحت عنهم إذا هم ينْفِرُون!
واستيقظت حَتَاسُّو، عروس فرعون، وفتحت نافذتها لتشهد المنظر الرائع، ولترى إلى زوجها الشاب يستعرض الجيش وقد استوى فوق جواده الأبيض المختال، وراح يتهادى بين صفوف الجند، كأنما يرسل من عينيه المصريتين سحراً في قلوب المحاربين، وم فوق رأسه تاج المملكة المتحدة يشع سناه في غبشة الصبح، فكأنما يملأ الآفاق ذَهَباً
لقد كانت ليلة طويلة دجوجية، تلك الليلة التي قضتها حتاسُّو بين وصيفتيها النائمتين الحالمتين، تفكر في مليكها الذي أقبل في المساء يودعها ويتزود منها لرحلة الغد إلى بلاد الحثيين. . . لقد كانت تراه ما يزال جالساً إليها يحدثها ويسامرها، ويرسل عينيه الحبيتين في عينيها المذعورتين، ويرسل معهما روحه فتعانق روحها، وقلبه فيتحسس قلبها، وشعوره الفائر، فيتحد بشعورها. . . ثم تذكر رنين صوته العذب الموسيقي يترقرق في أذنيها فيملؤهما بالأحلام، ورنين قبلاته الحارة الطاهرة تهمهم على فمها الشتيت الحلو فتحمل إليه سِرّ الخمر الإلهية التي لا غَوْل فيها ولا تأثيم. . . فتبكي. . .! ولم لا. . .؟ أليس من البكاء بكاء تحمل دموعُه رسالة الروح فتذهب بها إلى الله اللطيف العلي، فتكون عنده صلاةً ليس مثلها صلاة!! ذلك بكاء المحبين. . .
ورحل فرعون الشاب بأساطيله وجنده
ولكن طيبة العظيمة لم يدم لها هذا الصفو الجميل الذي ودعت تحت بنوده ملكها. . . ذلك أن أم العروس المصون شوهدت في فجر اليوم الثاني راكعة في المعبد الكبير أمام المذبح، بين يدي أمون رع، تبكي وتصلي، وتتوجع وتتصدع وتشكو إلى الله بثها الذي لم يعرف أحد سببه
وقد وقف الكهنة حولها في ذهول وخشوع، ولم يجسر أحد منهم أن يسألها عما ألم بها؛ بيد أن رئيس المعبد تقدم إليها آخر الأمر في أدب وضراعة، وربت قليلاً على كتفها، ثم مد يده الواهية المعروقة إلى يدها المرتجفة المحزونة، فنهضت وهي لا تكاد تعي مما يعصف بها من هم وشجو. . .
وسار الكاهن الأكبر بين يديها إلى صومعته؛ وكان الكهنة يتلون أوْراد الفجر وأناشيد الصباح فتهتز جوانب المعبد بحسن إنشادهم وروعة ترتيلاتهم، فتنهمر دموع الأم، وتقف أمام هذه الصورة، وبين ذلك التمثال باسطة ذراعيها، وداعية الآلهة، متمتمة بكلام خفي غير مفهوم. . .
- ماذا يا ابنتي! فيم مجيئك في هذه الساعة من الفجر؟ وفيم هذا البكاء وتلك الصلوات. . .؟ تكلمي. . .! ألست أباك؟ - تباركت أيها الأب. . . ولكن ليحضر نائب صاحب الجلالة، فالخطب جلل. . . وتكاد نفسي تتصدع. . .
- نائب صاحب الجلالة؟ أي خطب جلل يا أربابي؟! أمون رع!! لطفك يا ربي المقدس!
وأرسل الكاهن الأكبر رسوله إلى نائب الملك فجاء مهرولاً في ثياب النوم، وجعل يلهث من الفزع والتعب، ويسأل الكاهن فيم أرسل إليه، وماذا أصاب والدة الملكة. . . فأشار الكاهن إلى الأم الباكية، فالتفتت إليه مذهولة وقالت:
- ابنتي! ابنتي يا نائب صاحب الجلالة!
- الملكة!
- بل العروس!
- ماذا؟ ماذا أصابها؟
- لا أدري. . .! إنها ليست في القصر! لا هي، ولا وصيفتاها!
- هل فتشت الغرف؟
- كلها!
- والحديقة؟
- وطيبة جميعاً. . .
- جريمة! إن في الأمر جريمة. . . لا بد من تبليغ مولاي! وكاد النائب المسبوه يرسل صيحة ذعره في المعبد، لولا أن أشار إليه رئيس الكهنة، فصمت. . . وقال فتاح الكاهن الأكبر:
- أتحسب أن من الخير أن نحمل هذا النبأ المروّع إلى ملكٍ ذهب أمس، وأمس فقط، على رأس جنوده ليؤدب أعداءه؟ لا، لا، ليس هذا عندي برأي. . . إنها أول حربٍ يشنها الملك، فكيف نُثنيه بمثل هذا عن عزمه؟!
- فما الرأي إذن؟
- اهدأ يا نائب صاحب الجلالة، فنحن بين يَديْ أمون، ويوشك رَعْ أن يهدينا بِسَنا نوره ولألاء حكمته
ويرى الكاهن الأكبر أول شعاعة من شعاع الشمس تدخل من كوة الشرق في الصومعة، فيأمر المؤذن فيؤذن بصلاة جامعة، لرع. . . رب المشرقين!
وينتظم الكهنة صفوفاً أمام المذبح الكبير، ويبدأ رئيسهم إنشاده، فيأخذون في ترتيل جميل، وتركع (تي)، ويركع آنبو، ويصليان مع الكهنة. . . حتى إذا فرغ الجميع من صلاتهم خلا رئيس المعبد إلى آلهته، ثم أقبل على نائب الملك وأقبل على تي بوجه مشرق متهلل وهو يًسِّبح ويقول: (بخير. . .)
(بخير؟! وأي خير في أن تختفي عروس فرعون، فإذا آب من حرْبه لم يجدها؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يلقاه حين يصل إلى طيبة فلا تكون عروسه أول من تلقاه بها حاملةً له باقةً ناضرةً من أزهار اللوتس المقدسة؟ واأسفاه عليك يا ابنتي؟ وواأسفاه على الأحلام الضائعة!)
وهكذا راحت تي تندب حظها، وتذرف الدمع من أجل ابنتها، وكلما زارها كبير الكهنة فواساها لم تلق بالها إليه، حتى اساقطت نفسها أنفساً، وحتى براها الحزن، وشفها الوجد، وأوهاها طول البكاء
وكتموا الخبر حتى لا يصل إلى فرعون فيفت في عضده، ويوهي من جَلَده، ويكون سبباً فيما لا يوده له إلا عدوه
ثم أرسل تحتمس رسالة إلى عروسه أخذتها أمها، فلما فَضتها، انهمرت عيناها بالدموع الحِرار من أجل حتاسو، التي أرسل الملك يخبرها أنه اجتاز حدود مصر إلى بلاد الأعداد، وأنه يقبلها على هذا البعد الشاسع بينهما، ويسألها أن تصلي له وتركع بين يدي آمون رع من أجله. . . ومن أجل مصر. . . التي يفتديها الجميع، ويعيش من أجلها الجميع، ويموت في سبيلها الجميع
واضطرت الأم المحزونة أن تزور رسالة تبعث بها إلى صاحب الجلالة على لسان عروسه تشكره فيها وتتمنى له الخير والنصر؟ وكانت الرسالة جافة خالية من روح الحب الذي يملي على صاحبه ويوحي إليه، ويُنضر طِرْسه بألوان الورد، ويعطره بأنفاسه. . . فلما قرأها تحتمس هاجت الوساوس في قلبه، وإن يكن قد تجلد وصبر
ولقي فرعون أعداءه. . .
وكانت جيوشهم تغمر السهل والجبل، وقنابلهم تزحم البر والبحر، وهم على كثرتهم سابغون في دروعهم مُقَنعون في حديدهم، تصهل خيلهم فتتجاوب أصداؤها في جنبات الوادي وترغى فتشق عنان السماء. . . وقد آنس الملك ضعفاً وقلة في ميسرتهم فانقض عليها بميمنته، واستطاع بعد عناء أن يزحزحها، لكن المدد الذي وصل من وراء المجثبتين أفسد على فرعون خطته، فتقهقر قليلاً ليأمن التفاف الأعداء، الذين غرهم نكوص ميمنة مصر، فهجموا بجموعهم كلها؛ وحمى وطيس القتال في القلب والميسرة والميمنة. . . وثار النقع. . . وارتفع أنين القتلى في كل مكان. . . وانطلق عزيز النيل يصيح في جنوده ويحرضهم ويثبت أقدامهم، ويذكرهم بمجد بلادهم. . . وكانت كلماته تثير فيهم الحمية، وتلهب صدورهم بنار الوطنية، فيهجمون غير مبالين، وينقضون على أعدائهم غير هيابين، حتى زلزلوهم عن مراكزهم. وزادهم حماسة أن رأوا قلب الحثيين ينتقض على قادته، ويولي بعض عساكره الأدبار، فاقتحموا وراءهم الحلبة وأوقعوا فيهم حتى أثخنوهم. . . وأبصرت ميمنة الحثيين وميسرتهم ما حل بالقلب فبهتوا، وخارت عزائمهم، وساعد ذلك المصريين فانقضوا عليهم كالصواعق من كل مكان. . .
وظن المصريون أنهم ظهروا على أعدائهم فجعلوا يتصايحون ويهتفون، ويهنئ بعضهم بعضاً، والعدو ما يزال صامداً في مكانه. وفطن قائد الحثيين إلى ذلك فبدا أن يذهب له في كوكبة من أشجع فرسانه فيلتف بمركز القيادة في صفوف المصريين الخلفية وسرعان ما أنفذ الفكرة
وكادت حيلة القائد تنجح، لولا أن فطن إلى ذلك أحد فرسان المصريين فصاح ببعض ضباط الجيش قائلاً: (أيها الجنود دافعوا عن ملككم. . . الحثيون يوشكون أن يحدقوا به). وتلفت الضباط فرأوا كوكبة الحيثيين مسرعة إلى مركز القيادة
فصاحوا بجنودهم، وانطلقوا في أثر الفارس الذي نبههم فاشتبكوا مع الأعداء في ملحمة هائلة، أبلى فيها بلاءً حسناً. . . وهرب الحثيون. . . ولكن الفارس المسكين سقط جريحاً، وانبطح من فوق جواده بين القتلى العديدين. . . وتقدم إليه فارسان شجاعان فحملاه إلى المعسكر حيث ضمدا جراحه وجلسا عند سريره يواسيانه
وانتصر فرعون مصر، وطهر الأرض من رجس الحثيين! وعاد إلى معسكره فمنح الفارس الجريح أسمى ألقاب الجيش ورفعه إلى مرتبة قائد، ثم ذهب إليه بنفسه فأبدى له إعجابه بشجاعته وحسن بلائه
وذاعت أنباء النصر في مصر فغمر الفرح رعايا فرعون، وراح الجميع يقيمون معالم الزينة على مساكنهم ومتاجرهم، وانطلقت زرافات الكهنة ترتل أورادها في شوارع المدن، وبدت طيبة في أبهى حللها، ورفرفت الأعلام على الهياكل ودور الحكومة، وتدفق حابي بالبركات في أرجاء البلاد
وذهب نائب الملك في معيته كبير الكهنة للقاء صاحب الجلالة على حدود البلاد، وليجنباه الخبر المفزع الهائل. . . خبر اختفاء عروسه. . . أو ليكونا على الأقل معينين له على تحمل الصدمة. . .
وقد سألهما جلالته عنها حين لقيهما فكتما عنه الأمر، لتتم للبلاد أفراحها؛ واعتزما ألا يقولا له شيئاً حتى يستقر في عاصمة ملكه
وكم حدّث عزيز مصر نفسه أنه كان أحجى بحتاسُّو لو خرجت إلى الحدود للقائه، كما خرج نائبه وكبير الكهنة وكبراء الدولة. . . . . .
لكنه مع ذاك تجلد واصطبر. . .
ووصل إلى طيبه. . . ولكن حتاسو لم تسرع للقائه، فماذا جرى؟! وبدلاً من أن تذهب حتاسو إلى قصر الملك لتهنئه، فقد ذهبت أمها الواهية المتداعية. فما إن وقعت عيناه عليها حتى سألها:
- ماذا؟ أين حتاسو؟؟
فتبسمت الأم المذهولة وقالت:
- في سريرها يا مولاي!
- في سريرها؟ أهي مريضة؟
- أجل يا مولاي
ونظر نائب الملك إلى كبير الكهنة ثم راح يسر إليه: (يا للآلهة! إن تي وفية للملك مخلصة. . . إنها تأبى أن تكون أول من يبلغ الملك نبأ اختفاء عروسه!!)
قال الملك:
- إذن نمضي نحن فنراها ودخل صاحب الجلالة غرفة حتاسو، فوجدها طريحة الفراش، وقد ربطت فخذها وذراعها بأربطة وضمادات. . . وكانت تغط في سبات عميق، وكان وجهها مع ذلك مشرقاً جميلاً ساحراً كعادته. . . ولم يملك تحتمس إلا أن ينحني فيطبع قبلة اللقاء على فم عروسه. . .
وانتفضت حتاسو من سحر القبلة العزيزة، ولما فتحت عينيها، رأت صاحب الجلالة منحنياً فوق وجهها، ودمعة غالية تترقرق في مقلتيه. . . فهبت من سريرها باسمة سعيدة، وأنشأت تقول:
- أهنئ مولاي بالنصر الحاسم
وتحدرت الدموع من عيني الملك، ثم قال لعروسه:
- ماذا بك يا حتاسو!؟
فقالت له:
- لا شيء! جروح هينة من معركة مَجِدُّو!!
- معركة مجدُّو؟
- إي يا مولاي. . . مجدُّو. . . مجدُّو! ألا تعرف الفارس أحميس الذي رفعته إلى رتبة قائد؟ هو أنا! وهاتان صاحباي:
وبعد شهر واحد لبست البلاد زخرفها وازينت واحتفلت بزفاف صاحبي الجلالة.
دريني خشبة