انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 236/الكميت بن زيد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 236/الكميت بن زيد

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 01 - 1938



شاعر العصر المرواني

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 5 -

وقد روى لنا أبو الفرج الأصبهاني هذه الروايات الثلاث في سبب المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وكان عليه أن يبين لها وجه الصواب فيما تتعارض فيه من وجوه كثيرة، ولكن أبا الفرج رحمه الله لم يكن يعنى في الأكثر بنقد رواياته، وإنما كان يهمه جمعها وسردها، وعلى القارئ بعد هذا أن يحكم رأيه فيها

فالرواية الأولى تذكر أن سبب المنافرة بينهما قصيدته التي هجا فيها اليمن:

(ألا حُيِّيتِ عنَّا يا مَدِينا)

وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما؛ أما الرواية الثالثة فتذكر أن سبب المنافرة بينهما شعر الكميت الذي حرض فيه هشاماً على خالد، واتهمه فيه بأنه يريد خلعه. وتفيد هذه الرواية أن قصيدة كميت التي هجا فيها اليمن كانت بعد سجنه لا قبله، وأنه قالها رداُ على الأعور الكلبي في قصيدته التي رمى فيها امرأة الكميت بأهل الحبس، ويقول فيها:

(أسْوِدِينَا واحمْرينَا)

والرواية الأولى تذكر أن خالداً روى الهاشميات جارية واحدة والرواية الثانية تذكر أنه رواها ثلاثين جارية

والرواية الأولى تذكر أن أبان بن الوليد البجلي عامل واسط هو الذي سعى في تهريب الكميت من السجن. وقد اتفقت الرواية الثانية في هذا معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أن الذي سعى في تهريبه عبد الرحمن بن عنبسة ابن سعيد

والرواية الأولى تفيد أن خالد بن عبد الله كان بالكوفة حينما أمر بسجن الكميت. وهكذا تفيد الرواية الثانية، وإن كانت تفيد مع هذا أن خالداً قرأ على أبان بن الوليد كتاب هشام بقتل الكميت، مع أن أبان بن الوليد كان في ذلك الوقت بواسط. أما الرواية الثالثة فتذكر أ خالداً كان بواسط حينما أمر بسجن الكميت، وأنه كتب بسجنه إلى واليه بالكوفة

والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما أتى إلى الشام مشت رجالات قريش في أمره إلى عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشى فيه إلى مسلمة بن هشام فأمنه وأجاز أبوه هشام أمانه؛ أما الرواية الثانية فتذكر أنه حينما أتى الشام قصد مسلمة بن عبد الملك، وتذكر أن مسلمة لا عنبسة هو الذي مشى فيه إلى مسلمة بن هشام، وأن مسلمة بن هشام أجاره فلم يجز أبوه جواره، فاحتال له بقبر أخيه معاوية وأولاده، وقد اتفقت الرواية الثالثة معها في هذا على خلاف قليل بينهما

والرواية الأولى تذكر أن الكميت حينما عرض عليه الالتجاء إلى مسلمة بن هشام رضي به، وقد اتفقت الرواية الثانية في ذلك معها على خلاف قليل بينهما، أما الرواية الثالثة فتذكر أنه لم يرض بالالتجاء إليه، وأنه قال لمسلمة بن عبد الملك حينما عرض ذلك عليه: بئس الرأي! أضيع دمي بين صبي وامرأة، فهل غير هذا؟

وهذه هي أهم وجوه الخلاف بين هذه الروايات المضطربة، وقد يكفي هذا عند بعض الناس لدفعها كلها، وعدم الوثوق بشيء منها، ولكن ما قيمة البحث في هذا العصر إذا كانت تقنعه هذه الغاية السهلة، ويكفيه في مثل هذا أن يقول إني أشك في هذه الرواية، أو نحو هذا مما لا يكلف الباحث عناء ولا تعباً؟ وإنما قيمة البحث الحديث في تمحيصه أمثال هذه الروايات، والاجتهاد في ترجيح بعضها على بعض، والوصول إلى الحقيقة بالتعمق في البحث

ونحن نرجع أن الهاشميات نفسها هي التي كانت سبباً في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، لأنه لا يعقل أن يسكت خالد عن تبليغ أمرها إلى هشام بن عبد الملك، وهي من الخطورة بهذا الشأن الذي أقام هشاماً وأقعده حينما بلغته. وقد كانت هذه العهود مملوءة بالوشايات والدسائس، وكان ولاة بني مروان معرضين بهذا للنكبات الشديدة التي كانت تصيبهم منهم، ولا يخفى أمرها على من يعرف تاريخهم. ولا شك أن هذا كان يوجب على هؤلاء الولاة أن يحتاطوا لأنفسهم في مثل هذه الأمور، وألا يسكتوا عن تبليغ مثل الهاشميات إلى ملوكهم إلى أن تبلغ من غيرهم، ويتخذ بها أعداؤهم حجة عليهم عند ملوكهم

وقد يكون حديث الجاريات الحسان اللاتي رواهن خالد الهاشميات صحيحاً، ويكون هذا منه تلطفاً في الحيلة إلى تبليغها إلى هشام بن عبد الملك، أو تخلصاً من تبعة تبليغها عند قوم الكميت وأشياعه، لأن حال الولاة في مثل هذه العهود المضطربة يكون مضطرباً بين إرضاء ملوكهم وإرضاء الرعية الناقمة عليهم. والظاهر كما يؤخذ من بعض هذه الروايات أن خالداً هو الذي سهل للكميت سبيل الهرب من سجنه، وأنه كان يسلك بذلك كله موقفاً يخرجه من هذه المشكلة. وقد أرضى هشام بن عبد الملك وجعل لنفسه بعض العذر عند أنصار الكميت، إذ كان يؤثر في سياسته ملاينة الشيعة

أما المعارضة بين الكميت والأعور الكلبي فالظاهر أنها كانت بعد سجن الكميت ورضا هشام عنه، كما يؤخذ من الرواية الثالثة لأنه كان يمدح في قصيدته التي يعارضه فيها بني مروان ويفخر بهم عليه، وقد كان قبل سجنه يطعن فيهم أشد طعن، ويهجونهم في هاشمياته شد هجاء، فلا يعقل أن يجمع في هذا العهد بين هجائهم ومدحهم والافتخار بهم، وهو لم يلجأ إلى مدحهم إلا مضطراً بعد ما لقي من السجن والحكم عليه بالقتل

ومما يؤيد هذا ما رواه أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني عمي وابن عمار، قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل: أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن أن شاعراً من أهل الشام يقال له حكيم بن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب عليه السلام وبني هاشم جميعاً، وكان منقطعاً إلى بني أمية، فانتدب له الكميت فهجاه وسبه فأجابه ولج الهجاء بينهما، وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي عليه السلام لما وقع بينه وبين هشام، وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان، فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي، فهجا أهل اليمن جميعاً إلا هذين، فإنه قال في آل علقمة:

ولولا آلُ علقمةَ اجتدعْنَا ... بقايا من أنوفِ مُصَلَّعينَا

وقال في إسماعيل:

فإن لإسماعيل حقاً وإنَّنا ... له شاعبو الصدعِ المقاربِ للشَّعْب

وكان لآل علقمة عنده يد، لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام، وأم إسماعيل من بني أسد، فكف عنهما لذلك فهذه الرواية صريحة في أن هذه المناقضة كانت بعد الذي وقع بين الكميت وهشام من عفوه عنه، فلا يصح أن تكون هي السبب في المنافرة بين الكميت وخالد بن عبد الله، وما جرته هذه المنافرة من السجن ثم العفو، بل الظاهر أن بني مروان بعد أن وصلوا إلى إسكات الكميت، عن المضي في هاشمياته أخذوا يعملون على إبطال أثرها في النفوس، فسلطوا الأعور الكلبي على مناقضتها، وهجاء علي عليه السلام وبني هاشم جميعاً

وأما ما ذكر في الرواية الثالثة من أن سبب المنافرة بين الكميت وخالد شعر الكميت في تحريض هشام على خالد، واتهامه إياه بأنه يريد خلعه - فهو أقرب إلى الصحة مما ذكر في الرواية الأولى والثانية، ولعل الكميت فعل هذا سعياً في إفساد الأمر بين بني مروان وولاتهم، لا حباً في هشام وإرادة النصح له. وما نريد بعد هذا أن نمضي في تمحيص ما تعارضت فيه تلك الروايات، لأن ثمرة هذا التمحيص لا توازي عناءنا فيه، ولا تذكر بجانب الملل الذي يصير بنا إليه

وقد أخذ الكميت بعد عفو هشام عنه يمدحه ويمدح ولاته ووجوه دولته، ويقبل في ذلك صلاتهم وجوائزهم، ولكن مدحه لهم في نظير ذلك كان مدحاً تجارياً كسائر ما مدحوا به من شعراء عصره، ولم يكن لغاية نبيلة كتلك الغاية التي مدح بها بني هاشم في هاشمياته

والحقيقة أنه لم يكن مخلصاً في مدح بني مروان مع ما كان يناله من دنياهم، وإنما كان يأخذ في ذلك بالتقية التي يأخذ بها الشيعة في مذهبهم جميعاً، ولم يكن ذهابه إلى هشام بالشام إلا برضا أهل البيت وشيعتهم ليحقنوا بذلك دمه، ويخلصوه مما كان يراد به

وإذا كان الكميت قد أجاد في مدح بني مروان فإنما كان ذلك منه لأنه كان شاعراً فحلاً لا يرضى أن يكون شعره في ذلك دون غيره، فكان بذلك يقضي حق شعره عليه، ولا يقضي حق بني مروان في عطائهم وبذلهم له، لأنه لم يكن من أولئك الشعراء الذين يمدحون للعطاء، كما سبق ذلك في رفضه عطاء بني هاشم على مدحه لهم. وقد قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني أبو بكر الأموي، قال حدثني إسماعيل بن حفص، قال حدثنا ابن فضيل، قال سمعت ابن شبرمة قال: قلت للكميت إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل، قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن فلم يكن الكميت إذن يمدح بني مروان عن عقيدة كما كان يمدح بني هاشم، ولم يكن إحسانه في مدحهم إلا لأنه إذا قال أحب أن يحسن قوله لئلا يؤخذ عليه من الناحية الشعرية؛ ولكنا نخالف ابن شبرمة فيما ذكره من أن ما قاله في مدح بني مروان أفضل مما قاله في مدح بني هاشم، لأن أشعاره في مدح المروانيين لا تمتاز عن سائر المدائح الجوفاء في الشعر العربي، ولا يصح أن تذكر بجانب الهاشميات التي سلك فيها الكميت ذلك المسلك الجديد في المدح، وقام بما يجب عليه لأمته من مقاومة ذلك الحكم الظالم

وهناك بعد هذا أخبار متوافرة تدل على ما ذكرناه من رضا بني هاشم بما سلكه الكميت مع بني مروان، وعلى أن هذا لم يقطع صلته بهم في السر والعلن، وقد كانوا مع رضاهم بمسلكه معهم يحاسبونه إذا أسرف في مدحهم، فلا يتركهم حتى يرضيهم بصرف هذا المدح عن ظاهره، فكان يؤوله على نحو ما يفعل بعض الباطنية من الشيعة في تأويلاتهم

قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزالي الكوفي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أرطاة بن حبيب عن فضيل الرسان عن ورد بن زيد أخي الكميت، قال: أرسلني الكميت إلى أبي جعفر فقلت له: إن الكميت قد أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع، فتأذن له في مدح بني أمية؟ قال: نعم، هو في حل، فليقل ما يشاء

وقال أيضاً: أخبرني محمد بن خلف بن وكيع، قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال حدثني محمد بن عبد الله بن مهران، قال حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سيرة عن أبيه قال: دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام فقال له: يا كميت أنت القائل:

والآن صرتُ إلى أمَيَّ ... ةَ والأمور إلى المصايرْ

قال: نعم قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم، قال: أما إن قلت ذلك إن التقية لتحل

وقال أيضاً: قال محمد بن أنس حدثني المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: يا أبت إنك هجوت الكلبي فقلت:

ألا يا سلم مِنْ تِرْبِ ... أفي أسماَء من تِرْبِ

وغمزت عليه فيها ففخرت ببني أمية وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم، فقال: يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية وهم أعداء علي عليه السلام، فلو ذكرت علياً لترك ذكري وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت علياً له، ولا أجد له ناصراً من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية وقلت: إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غماً وغلبة، فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه وأفحم الكلبي

وإذا كان ذلك كله قد تم برضا بني هاشم وتدبيرهم لشاعرهم فلا يمكن أن يؤخذ عليه شيء فيه، أو يقدح به في عقيدته وإخلاصه، بل إن في ضن بني هاشم عليه بالقتل، وإيثارهم له مواراة بني مروان على بذل دمه في سبيلهم - لدلالة كبيرة على عظم تقديرهم له، وأنهم كانوا يثقون به إلى آخر حدود الثقة

عبد المتعال الصعيدي