انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 235/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 235/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 20 -

تحت راية القرآن

الجديد والقديم. . .! هنا ميدان الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره؛ فمنذ نحله أديب منهم زعامة المذهب القديم في مقال كتبه لمجلة الهلال سنة 1923، نشط الرافعي ليجاهد هذه الدعوة التي يدعون إليها بتقسيم الأدب إلى قديم وجديد؛ إذ لم تكن هذه الدعوة عنده إلا وسيلة إلى النَّيل من العربية في أرفع أساليبها، وسبيلاً إلى الطعن في القرآن وإعجاز القرآن، وباباً إلى الزراية بتراث الأدباء العرب منذ كان للعرب شعر وبيان. ومن ذلك اليوم نصب الرافعي نفسه ووقف قلمه على تنفيذ دعوى التجديد؛ فجعل همَّه من بعد أن يتتبع آثار الأدباء الذين ينتسبون إلى الجديد ليردَّ عليهم ويكشف عن باطلهم. وما كان يرى في عمله ذلك إلا أنه جهاد لله تحت راية القرآن؛ فمن ذلك كان اسم كتابه الذي جمع به كل ما كتب في المعركة بين الجديد والقديم، من سنة 1908 - 1926.

هو كتاب لم ينشئه ليكون كتاباً، ولكنها مقالات تفرقت أسبابها واجتمعت إلى هدف واحد، وكانت مزقاً مبعثرة في عديد من الصحف والمجلات فجمعها بين دفتي كتاب، فاجتمع بها رأي الرافعي في القديم والجديد على اختلاف أسبابه ودواعيه وما كُتب له؛ على أنك لا تكاد تبلغ من صفحات هذا الكتاب إلى الصفحة المائة من أربعمائة حتى يخلو الميدان من كل أنصار الجديد إلا رجلاً واحداً هو الدكتور طه حسين بك، ويتوجه إليه الخطاب والرد في كل ما بقي من صفحات الكتاب؛ فكأنما أنشأه الرافعي وجمعه كتاباً للرد عليه هو وحده، وكأنه هو وحده الذي يدعو إلى الجديد وينتصر له ويحمل رايته؛ فإذا أوشكت أن تفرغ من الكتاب فرغت من الرافعي ومن رأيه ومن حديثه، لتقرأ جلسة من جلسات البرلمان يرأسها سعد ويتداول الحديث فيها طائفة من النواب عن طه حسين ورأي طه حسين ف وفي الدين وفي القرآن، ويحتدم فيها الجدل بين حكومة عدلي وبرلمان سعد في شأن هو إلى الأدب أدنى منه إلى السياسة؛ وإنها لجلسة ممتعة خليقة بأن تكون في موضعها من كتب الأدب وتاريخ النقد الأدبي.

وليس الكتاب على استواء واحد في أسلوبه؛ ففي المقالات الأولى منه تقرأ رأي الرافعي هادئاً متزناً فيه وقار العلماء وحكمة أهل الرأي ورحابة صدر الناقد البريء؛ فإذا وصلت من الكتاب إلى قدر ما، رأيت أسلوباً وبياناً غير الذي كنت ترى، وطالعتك من صفحات الكتاب صورة جَهْمةٌ للرافعي الثائر المغيظ المحنق، جاحظ العينين كأنما يطالب بدم مطلول، مزبد الشدقين كالجمل الهائج، منتفخ الأنف كأنما يشم ريح الدم، سريع الوِثاب كأن خصماً تراءى له بعدما دار عليه طويلاً فهو يخشى أن يفر، وهو هنا يعني طه حسين وحده!

وليس عجيباً أن ترى هذين اللونين من النقد لأديب واحد بين دفتي كتاب؛ فإن هذه المقالات وإن صوَّبتْ إلى هدف واحد قد اختلفت دواعيها وأسبابها ومن كُتبت له؛ وقد كان بينها في التاريخ الزمني سنوات وسنوات، والكاتب المتجدد لا يثبت على لون واحد من عام إلى عام.

على أنك تقرأ للرافعي من هذا الكتاب رأيه في طريقة تدريس الأدب بالجامعة غداة تأليفها سنة 1908، فتراه يدعو إلى مذهب جديد في تدريس الأدب، وتقرأ له - من الكتاب نفسه - ردَّه في سنة 1926 على طه في طريقته الجديدة لتدريس الأدب، فتراه ينكر عليه هذا الجديد؛ فتعلم من هذا وذاك أن الرافعي لم يكن يعني بحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يردَّ إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد أن يتنقص من القديم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن ولغة الحديث ومن تراث أدباء العربية الأولين.

ليس يعنيني هنا أن ألخص رأي الرافعي في الجديد والقديم، فمراجع البحث عن رأيه في ذلك واسعة مستفيضة، إنما قصْدت إلى تعريف هذا الكتاب إلى قراء العربية في عرض موجز ووصف كاشف؛ أما ما دون ذلك فله من شاء من أهل الرأي والنظر، وله مني غير هذا المجال من الحديث.

والآن سأتجاوز الفصول الأولى من الكتاب لأتحدث عن أسلوبه في سائره؛ ويبدأ هذا الجزء من صفحة 104 - 405 وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول (رسائل الأحزان) إلى أن انتهت عند مجلس النواب حول كتاب (في الشعر الجاهلي)، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة؛ ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء؛ وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة. . .

ولكن اكثر هذه الفصول يطرد على مثال واحد إذا أنت نظرت إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب اليم من التهكم يفتنّ الرافعي فيه فنوناً عجيبة حتى يبلغ نصف المقال؛ ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو اقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر. . . بلى إنها نموذج عال في النقد العلمي الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!

كليلة ودمنة

على أن مبالغة الرافعي في التهكم قد شققت له فنوناً من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء؛ وأبدع هذه الأساليب حديثه عن كليلة ودمنة وما نحلهما من الرأي في طه حسين. وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كتاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي. وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقاً ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلة ودمنة ليقول على لسانهما كلاماً من كلامه ورأياً من رأيه؛ فلما أتم تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه - على المزاح - إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: (عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد. . . ما شئت من مثل إلا وجدته فيها؛ وقد رجعت إليها اليوم فأصبت فيها هذه الحكاية. . .

(قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلت يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع. . . . . .) ومضى في اختراعه وتهكمه حتى انتهى إلى رأي دمنة في الدكتور طه حسين. . .

ثم استمر ينقل عن (نسخته الخاصة) من كليلة ودمنة ما يجعله مقدمة القول للتهكم فيما يلي من مقالات في الرد على الدكتور طه حسين، فنشر منها ثمانية فصول طريفة ممتعة في كتاب المعركة. وإن قارئ هذه الفصول الثمانية ليرى فيها لوناً طريفاً من أدب الرافعي، لو أن الظروف واتته لأتمه فأنشأ به في العربية إنشاء جديداً له خطر ومقدار. على أن الرافعي لم يكن يقصد أول ما قصد أن يتمه كتاباً، إنما دفعه إلى إنشاء هذه الفصول السبعة بعد الفصل الأول، ما لقي من استحسان القراء لهذا اللون الجديد من أساليب التهكم في النقد؛ وأحسب أن الدكتور طه حسين نفسه كان معجباً بهذه الفصول الثمانية من كليلة ودمنة مع ما يناله فيها مما يؤلم ويسيء، كما كان يعجب فلان بما ينشر بما ينشر له من الصور الرمزية الساخرة لأن فيها فناً ومقدرة. . .!

وانتهى الرافعي من حديث كليلة ودمنة بعد انتهاء هذه المعركة وظل مهملاً (نسخته الخاصة) ست سنين بعد ذلك، حتى تذكرها في سنة 1932 أو 1933 في إبان المعركة بينه وبين العقاد حول (وحي الأربعين) فنشر الفصل التاسع منها في البلاغ بعنوان (الثور والجزار والسكين) ثم نشر في الرسالة سنة 935 الفصل العاشر بعنوان (كفر الذبابة!) يعني بها مصطفى كمال وحركته الدينية، وفصلاً آخر لا أذكره.

وقد كان في منية الرافعي أن يتم هذه النسخة من كليلة ودمنة يعارض بها كتاب ابن المقفع أو يتمه، ولكنه لم يوفق، وكان في ذلك خير؛ فهذه الفصول في موضعها من الكتب التي نشرت بها اجمل وأخف، وإفرادها بالنشر يحملها على تكلف الصنعة ويباعد بينها وبين أذواق القراء. على أن هذه الفصول لا اتصال بينها في موضوعها بحيث تصلح للنشر متساوقة متتابعة كما تتساوق الفصول والأمثال في كتاب ابن المقفع.

هذا مجمل الرأي وملخص الموضوع في كتاب المعركة تحت راية القرآن وما احتواه. وهو وكتاب آخر اسمه (على السفود) خلاصة مذهب الرافعي في النقد وأسلوبه في الجدال؛ وفيهما أشلاء المعركتين الطاحنتين بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بدمائهما، ورمامهما، ولهيبهما المستعر، ودخانهما الخانق، وغبارهما الكثيف. .

لو تجرد هذان الكتابان من بعض ما فيهما لكانا خير ما أنتجت العربية في النقد، واحسن مثال في مكافحة الرأي بالرأي مع الاطلاع الواسع والفكر الدقيق. ولكن وا أسفا، إن الإطار يحجب ما في الصورة من جمال، فمنذا - غير مالك الصورة - يستطيع أن يحطم هذا الإطار ليجعلوا الصورة في جمالها على أعين الناس!

(شبرا)

محمد سعيد العريان