مجلة الرسالة/العدد 233/الأخلاق
مجلة الرسالة/العدد 233/الأخلاق
بين النجاح والفشل
تعال يا صديقي! جعلتموني مظهراً لثورتكم على الأخلاق فحسب الناس أني ثائر معكم عليها وهي مصدر سعادتي ومنبع رضاي. فلماذا لا تمضي ما تقول باسمك كما يفعل كل رجل له رأي وفيه صراحة؟
فقال صاحبي وقد استوى على المقعد الذي يحبه من المكتب وكفَّاه تدوران على عدد مطوي من الرسالة أظنه الأخير:
إن مقال الثائر المجهول كقبر الجندي المجهول يعبر عن فكرة ويرمز لطائفة. ولو كان ذلك رأيي الخاص لأمضيتُه، ولكنه رأى جميع المنكوبين بأخلاقهم وإخلاصهم اضطرب على لساني حديثاً بعدما اضطرم في نفوسهم ثورة. ولقد كان فيما قلتُ وقال الإخوان تفريج لما كرَب صدورنا من وقاحة الحال وصراحة الواقع؛ غير أن في نفسي بعد أن قرأت هذا العدد كلمة
قلت وماذا تريد أن تقول بعدما أجرَّتْ لسانَك الأخلاقُ بعقلين متيني الحجة من عقول دعاتها وحماتها؟
فقال: (إن الأستاذين الجليلين عزاماً والخولي أطلا علينا من قُدْس الأقداس وكلمانا بلغة الدين الذي يتجاهل الكفر، ولهجة الحق الذي يتناسى الباطل. وقدس الأقداس كما تعلم مكان بين النجوم ينزله الأحبار والفلاسفة فينظرون إلى السماء أكثر مما ينظرون إلى الأرض، ويتصلون بالملائكة أكثر مما يتصلون بالناس، ويدبرون أمر هذا الكوكب المظلم على أنه مَرَاد الصلاح الخالص والخير المحض، فلا يريدون أن يقيموا وزناً للمنكر، ولا أن يلقوا بالاً إلى الشر، حتى أنهم ليغفلون ذكر الفواحش في كتب الدراسة ليجهلها الناشئ، كأنما جهلك الشيء يمحوه من الوجود! والشر منذ معصية آدم وجريمة قابيل قسيمُ الخير في الأرض. والرذيلة هي الطبيعة الحرة لهذه الحياة، أما الفضيلة فهي قيد لها وحدٌّ منها
لا أريد أن أقول لعلماء الأخلاق زاوِجوا بين الخير والشر ينتج منهما مزاج مستقل لا هو الخير كله، ولا هو الشر كله، فتلك تجربة نعوذ بالله من غوائلها إذا طاشت؛ ولكني أطلب إليهم أن يعالجوا مشكلة الفضائل على أساس التسليم بأن للرذائل جاذبية ومنفعة، وأن مصلحة الفرد لا ينبغي أن تذوب هذا الذوبان في مصلحة الجماعة. ذلك أدنى إلى أن يكون العلاج أنجع والشفاء أتم. أما أن تكون القاعدة في رأي الأستاذ الخولي أن الفاضل لابد أن ينجح، والرذيل لابد أن يخيب، إذا تساويا في الاستعداد والاجتهاد والكفاية، فإذا وقع العكس كان شذوذاً يؤكد هذه القاعدة ولا يهدمها، فذلك على ما أظن حكم لا يصححه القياس ولا يناصره الواقع. وليس الأستاذ الخولي بالرجل الذي نضرب له الأمثال من الماضي، ونذكر له الشواهد من الحاضر، فإنه يعلم علم اليقين أن تاريخ الدنيا يسجل في كل زمان وفي كل مكان أثر الرذيلة الخطير في النجاح الخارق، سواء أكانت الرذيلة في الناجح أم فيمن يلابسه. هذان فرسان رائعان اشتركا في خصائص القوة والفتوة، ثم ضُمِّرا على نمط واحد، وركبهما في السباق فارسان على كفاية واحدة؛ فلو أنهما تراكضا بالحق لاستوليا معاً على الأمد؛ ولكن صاحب أحدهما حقنه بمادة يعرفها بياطرة السباق ويحظرها القانون، فجعلت من كل شعرة فيه جناحاً بلغت به الغاية قبل أن يتوسط قِرْنه الميدان. وأحرز الفرس المحقون الرهن الضخم فأصبح ملك الخيل وسبع الليل. وشبيه بهذين الفرسين رجلان تماثلا في الشهادة والكفاية والاستعداد والخلق، ثم سارا معاً في طريق الحياة جنباً إلى جنب، وكان لأحدهما زوجة جميلة لبقة، فحقنت زوجها حقنة تعرفها هي، جعلته في اليوم التالي سيداً للناس ورئيساً على الآخر. لا يستطيع المسبوق أن يستعد لمثل هذه الرذيلة لأنه لا يعرف مأتاها، ولو عرف لما استطاع أن يحتقن بمثل هذه الحقنة وهو عالم. ولو تقصينا أسباب النجاح السريع - وهو الكثرة الفاحشة - لوجدنا هذه الحقنة هي جماع تلك الأسباب في شكول مختلفة. وحصر الدعة واللذاذة في الثراء الحلال البطيء آت من شعور الأستاذ نفسه. فإنه إذا لم يجد المراءة والهناءة إلا في لحم الخروف، وجدهما ألوف غيره في لحم الخنزير. وإذا عد الأستاذ تاجراً من تجار الغلال أثري بطيئاً وهو وادع بفضل الخلق، عددنا له ألفاً من تجار المخدرات أثروا سراعاً وهم آمنون بفضل الشُّرَط
يقولون إن نجاح الأخلاق الفاضلة مشروط باستعداد الفاضل. والاستعداد أهبة الكفاح ووسيلة النجاح ما في ذلك شك؛ ولكن كيف اتفق أن يكون أكثر الأراذل قادرين وأكثر الأفاضل عجزة؟ لقد ذكَرْنا بذلك فكاهة من قال إن أكثر أهل الجنة الأغفال والبُله من النساك والمشعبذين والجهلة، وأكثر أهل النار العباقرة والأفذاذ من الفلاسفة والحكام والقادة.
لم لا يجوز أن يفسَّر هذا النقص العام في الفضلاء بأنهم يُلزمون أنفسهم الطريق الوعر إلى الغاية البعيدة، بينما يجد غيرهم إلى الغاية الواحدة ألف طريق؟
لقد سرني أن فسر الأستاذان الجليلان ما عبنا من بعض الفضائل هذا التفسير، فإنه - وإن كان أبعد المعاني عن فهم الناس لهذه الأخلاق - أقربها إلى القصد الذي تتوخاه من التعديل والإصلاح. ولعلك تلمح في هذا التفسير اعترافاً مضمراً بأن من الفضائل ما لا يلائم بمفهومه الشائع طبيعة هذا العصر ولا روح هذا المجتمع و. . . . . .)
ورأيت صاحبي يتمكن في مقعده الوثير، ويسحب سيكارة من علبته الأنيقة، ويريد أن يرخى للحديث العنان. فقلت له: حسبك! حسبك! فقد انتهت الصفحة وضاق الوقت. وليته اتسع حتى أسرد عليك حديث أحد السعداء الناجحين بالأَخلاق أَفضى به إليَّ قبل أن تدخل علي، فربما وجدت فيه ما يرضيك ويهديك. فإِلى فرصة أخرى
أحمد حسَن الزيات