انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 232/هل الحرب ضرورة؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 232/هل الحرب ضرورة؟

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1937


للأستاذ عباس محمود العقاد

جرئ من يقول أن الحرب ليست من ضرورات الطبيعة الإنسانية في هذا الزمن الذي قلما نسمع فيه إلا حديث حرب وخوفاً من حرب واستعداداً لحرب وبحثاً في محالفات ومؤتمرات ليس الغرض منها إلا اتقاء العداوات والحروب.

والواقع أن محاربة الحرب في العصر الحاضر تحتاج إلى كل ما في الإنسان من شجاعة، وكل ما عنده من رأى، وكل ما ينطوي عليه من سجية، لأنه يحارب أقوى القوى متضافرات متشابكات: يحارب قوة المال وقوة السلاح وقوة الجهل وهي أقوى عناصر هذا الثالوث.

وربما كان خير الميادين للغلبة على الحرب ميدان الثقافة وما يلحق به من ميدان التربية والتعليم. فإن التربية تصلح ما أفسدته التربية، ثم تزيد فتصلح ما لم تفسده قبل ذلك، وهي على كل حال سلاح لا غنى عنه في هذا الميدان، لأن وسائل السلم كلها لن تفيد في تعويد الناس غير ما تعودوه ما بقيت تربيتهم وتثقيفهم عقولهم على الحال التي هي عليه

في طليعة الكتاب المعنيين بفلسفة الحرب (الدوس هكسلي) حفيد العالم الإنجليزي هكسلي الكبير.

وهو وأقرانه في هي هذا الجهاد الإنساني الشريف لا يبحثون عن الحرب بحث الصحف والأخبار والمؤتمرات والوزارات، فإنهم يعتقدون وهم على حق فيما يعتقدون أن سياسة الأمم اعمق وأخفى واعرق من هذه الجوانب التي يتناولها السواس وتلغط بها صحف الأخبار، ولكنهم يبحثون الطبيعة الإنسانية وينقبون في تواريخ الأمم ليعرفوا منها ما هو طبيعي أصيل، وما هو عرضي قابل للتهذيب والتبديل. ومعظم النابهين بين كتاب هذه الطائفة ينتهون إلى أن الحرب بدعة طارئة وليست ضرورة من ضرورات الطبيعة الإنسانية ولا قانوناً من قوانين الاجتماع، وهذا هو الرأي الذي يلوح غربياً ممعناً في الغرابة للذين سمعوا وطال سماعهم لقوانين تنازع البقاء وإرادة القوة وإرادة الحياة، وحسبوا أن هذه القوانين ودوام الحرب معنيان مترادفان

كتاب (الغايات والوسائل) هو آخر كتب هكسلي في هذا العام، وإن كان قد ردد فيه بع الآراء التي شرحها في كتبه السابقة منذ سنوات.

وفصل الحرب في هذا الكتاب من أبرع الفصول التي كتبها هذا الأديب اللوذعي المطلع القدير، وهو الفصل الذي نلخصه في هذا المقال، ونعتقد إننا - نحن المصريين والشرقيين - خلقاء أن نبحث الحرب من هذه الناحية بعد أن طال حديثنا عنها من نواحيها العرضية التي تجيء وتذهب مع الأخبار، بل لعلنا أحوج ما نكون إلى تدعيم بحوثنا كلها على هذا الأسس وعلى هذه الأصول

يقول هكسلي ما خلاصته أن الحرب ظاهرة إنسانية لا وجود لها في عالم الحيوان، لأن الحيوان يتقاتل في إبان الثورة الجنسية أو طلباً للطعام أو لهوا ولعباً في قليل جداً من الأحايين، وليس من الحرب بالبداهة أن يقتل الذئب الشاة أو تلعب الهرة بالفأر، فإنما هذا شبيه بعمل الجزار حين يقتل ما يطعمه الناس، أو شبيه بعمل الصياد حين يتعقب الثعلب والأرنب. نعلم أن بعض علماء الحياة وعلى رأسهم السير أرثركيت يزعمون أن الحرب كالمنجل في يد الطبيعة تقطع الفاسد وتبقي من أفراد الحضارة وشعوبها كل صالح للبقاء

ولكن هذا كما هذا ظاهر لغو فارغ، لأن الحرب تقضي على الشبان والرجال الأشداء وتترك الضعفاء والشيوخ الذين لا يذهبون إلى الميدان. وقد دلت التجربة على أن اعنف الشعوب وأصلحهم للحرب لم يكونوا قط افضل الشعوب وارفعها في مراتب الأخلاق والثقافة، إذ ليس انفس بني الإنسان وأغلاهم قيمة في معيار الحضارة أوفاهم (نزعة حربية) وضراوة في حومة القتال.

وأوجز ما يقال في هذا الصدد أن الحرب تختار الأفراد على طريقة عكسية فتفني الأقوياء وتترك الضعفاء، وإنها تختار الشعوب على سنة المصادفة والمناسبات الموقوتة، فكثيراً ما تفنى الشعوب المقاتلة وتترك الشعوب الموادعة، وكثيراً ما كان انطباع الأمة على الحرب طريقاً لها إلى الوبال والاستئصال.

والذي يدل اكبر دلالة على أن الحرب أليست طبيعة في الإنسان ولا في الاجتماع إنها لم تظهر في التاريخ إلا بعد ظهور درجة من الحضارة ونوع من الحكومة، فهي مجهولة بين قبائل (الإسكيمو) التي تسكن الأصقاع الشمالية حتى اليوم. وقد كانت مجهولة في أطوار الإنسانية الأولى فلم يعرف عن الإنسان في تلك الأطوار انه اتخذ السلاح للقتال وحب الغلب والسيادة، إنما كان يتخذ السلاح لدفع الضواري أو لصيد بعض الحيوان

وصحيح أن (تنازع البقاء) قانون قائم في عالم الإنسان كما هو قائم في عالم الحيوان، ولكن من أين لنا أن تنازع البقاء مستلزم داوم الحرب كما ألفناها ونألفها في الحضارات الغابرة والحاضرة؟ ومتى شوهد الحيوان وهو يتجمع مئات وألوفاً ليقاتل بعضه بعضاً من فصيلة واحدة؟ فليس في عالم الطبيعة كلها ظاهرة تشبه اجتماع جيش لمحاربة جيش آخر، ولم يعلم قط أن قطيعاً من الذئاب احتشد الهجوم على قطيع مثله، أو أن سرباً من الطير فعل مثل ذلك على سنة الآدميين في الحروب.

فالقول بان الحرب قانون طبيعي قول لا يستند إلى اصل من الطبيعة الحيوانية في حالي التفرد والاجتماع، إنما هو تفسير خاطئ لقانون صحيح.

إن الآداب الأوربية قد شوهت الأخلاق حتى وهم الناس أن التضحية بالحياة أنبل ما يستطيعه الإنسان، وان الشهيد أي الميت الحسن على زعمهم افصل من الرجل العامل أي الحي الحسن. وعلى خلاف ذلك كانت آداب الشرقيين في الهند والصين، فعند اتباع كنفشيوس أن المغامرة بالحياة لا تليق، وان الحكمة افضل من الشجاعة البدنية، وان العاملين في السلم افضل من العاملين في القتال وان الفضيلة العليا أن يحجم المرء عن الكبرياء والعدوان ويروض نفسه على الوداعة ومجازاة الإساءة بالإحسان

ولما جاء المسيح بدين الوداعة والمسالمة دخلت المسيحية بين شعوب أوربا المقاتلة فجعلوا (الاستشهاد) غاية الغايات في النبل والفضيلة، لأنهم هكذا ينظرون إليه في لآداب العسكرية حتى التبست دعوة السلام بدعوة القتال.

أما في الهند فالحضارة البوذية تأبى العدوان على أحد من الأحياء وتوصي بمحاربة الشر بالكف عن مقابلته بمثله، وهو ما يسمونه عندهم (اهمسا) أي اجتناب الأذى مع الأحياء كافة حتى ما يؤذيه الآخرون طلباً للطعام.

وفي شرع البوذيين أن (الغضب) رذيلة دائماً وان الإكراه محظور في جميع الأحوال، فشاعت البوذية وعمت بين مخالفيها دون أن تلجأ إلى اضطهاد أو جاسوسية أو محكمة تفتيش

وعلى هذا، وعلى ما تقدم من نفي ضرورة الحرب، يسوغ لنا أن نعتقد أن الدعوة إلى إلغاء الحروب ليست بالدعوة التي تقاوم مجرى الطبيعة أو تعارض تيار السفن التاريخية، وانه من الجائز أن يشيع السلام في وقت من الاوقات، وبخاصة في العصور المقبلة القريبة بعدما استفحل خطر الحرب وتعذرت النجاة منه على المسالمين في البيوت والمقاتلين في خطوط النار.

واستطرد الكاتب إلى إجمال أسباب الحرب فقال ما خلاصته أنها أسباب نفسية قبل أن تكون اقتصادية أو سياسية كما يزعم الاشتراكيون ورجال السياسة، وان كان هذا لا يمنع أن لها أسباباً اقتصادية تعالج بترياق غير ترياق الدماء.

فمن أسباب الحرب الخوف، فهو يدفع إلى الاستعداد، والاستعداد يضطر الأمم إلى الحرب، لأنه يهيئ الأذهان لها بكثرة التوقع والشك في إمكان اجتنابها، وأحرى أن يكون ذلك في العصور الحديثة والبلاد المتحضرة، حيث اصبح السلاح عرضة للتغير والبلى بعد قليل من سنوات، فمن العسير أن تنفق الدول الملايين ثم تلقى بها في التراب.

ومن أسبابها شيوع الملل في الحضارة إذ يشيع الكفر بالأمثلة العليا فتعود الحياة عبثاً ثقيلاً لا غرض له ولا وجهة ولا متعة فيها أمتع من الإهاجة واستفزاز الشعور، والحرب تهيج النفوس فتدفع الملل والسآمة وتقل حوادث الانتحار كما ثبت من إحصاءات علماء النفس وفي طليعتهم دركيم وهلباش.

ومن أسباب الحرب الحرب نفسها حين تهجم أمة على أمة أخرى لانتزاع موقع لازم للتحصين ودرء المخاوف واتقاء الهجوم

ومن أسبابها المجد الكاذب وطغيان الأقوياء وتحويل أنظار الشعوب في الأزمات إلى ما يشغلها عن الثورة والانتقاض

ومن أسبابها التربية القائمة على الإفراط في اتباع النظام فان الإفراط في النظام ينشئ (العقلية العسكرية) ويجني على استقلال الأفراد، فتسهل قيادتهم إلى ما يريده القابضون على أعنة الأمور. ولو تربى الأطفال مستقلين لما استطاع القادة سوقهم إلى المجازر كما تساق الأنعام.

أما الأسباب الاقتصادية والسياسية فهي دون ما تقدم في القوة وصعوبة العلاج، وسنعود إليها والى مناقشة آراء الكاتب في غير هذا المقال على أن الرأي الذي نود أن نختم به مقالنا هذا هو إصرار هكسلي على السخر بكل ما يقال عن الحروب التي تختم الحروب

فعنده أن التاريخ الإنساني ليس (كرة أرضية) يخرج فيها الإنسان إلى اليابان فيلقى نفسه في أقصى المغرب من طريق الشرق البعيد

إنما التاريخ الإنساني خط مستقيم، فإذا أردت أن تتقدم فيه إلى إلغاء الحرب فلن تصل إلى وجهتك بالرجوع إلى الوراء

عباس محمود العقاد