مجلة الرسالة/العدد 23/القصص
مجلة الرسالة/العدد 23/القصص
سنشيتا الأسبانية
بقلم حسين شوقي
(سنشيتا) الأسبانية بطلة القصة حسناء تبيع برتقالا على عربة، يعاونها في عملها (بدرو)، وليس هو البطل الآخر للقصة وإنما هو شقيقها، وهو صبي لم يعد العاشرة، أما البطل الحقيقي فهو الشاب (خوان) خاطب (سنشيتا)، وهو صياد بارع يضارع في قوته (نبتون) اله البحر، ولكنه جميل الوجه. . أما أقارب (سنشيتا) فلم يعش منهم غير (بدرو) وغير الأم التي تقوم على إدارة المنزل. وكانت (سنشيتا) في آخر النهار إذا ما فرغت من البيع تدفع العربة أمامها في طريق الدار، يعاونها في ذلك (بدرو) و (خوان). وكانت هذه المهمة تستغرق وقتا طويلا على قرب البيت، لأن ذلك الطريق القصير كان يقطع في مغازلة مستمرة بين الخطيبين، فتارة يقارن (خوان) ما بين البرتقال وخد الفتاة في الحمرة والنضرة، وطورا تكون ابتسامة رقيقة ذات معان تبعثها (سنشيتا) إلى (خوان). . ومرة ثالثة، ملاحظة وقحة من (بدرو) الصبي على أعمال العشيقين، تثير غضب الفتاة، ولو في الظاهر. .
وقد خطب (خوان) الفتاة منذ ثلاث سنين، والخطوبات الطويلة المدى من العادات المألوفة عند الأسبانيين. .
اتفق المحبان على الزواج لدى عودة (خوان) من رحلة يزمعها بعد أيام قلائل إلى بعض الجزر النائية حيث يكثر السمك، وكانت نية الفتى أن ينقطع عن عمله مدة بعد عودته من تلك الرحلة التي سوف تعود عليه بالربح الوفير، يقضيها إلى جانب زوجه المحبوبة في هناء وسعادة. .
أزف الرحيل وكان يوما قاتما، كأن الطبيعة تشارك الخطيبين الحزن، وبكرت الفتاة في الذهاب برفقة شقيقها إلى المركب الشراعي الذي يبحر عليه خطيبها، وهو مركب قديم يندر وجوده الآن إلا في أشرطة السينما عن القرصان، وكانت الفتاة تحمل سفطا ممتلئا بالبرتقال أخذت توزعه على (خوان) ورفاقه، أقلع الشراع ولم تكن إلا هنيهة حتى غاب عن نظر (سنشيتا) الحاد. .
صارت الفتاة تتردد في غيبة خطيبها إلى غابة منعزلة كان يقصدانها أحيانا أيام العطلة، فتبث شكواها إلى أشجار الصنوبر الزاومة، وتعيد على سمعها في صوت عال وسط هذه العزلة التامة، تلك الكلمات الرقيقة التي كانت تسمعها من (خوان)، وأحيانا ولا سيما في الليل كانت تخرج إلى الشاطئ لتشاهد الأنوار العديدة الخافتة المنبعثة على صفحة الماء من زوارق الصيد التي تروح وتغدو على مقربة. وفيما هي تعود إلى المنزل بعد جولة من تلك الجولات الليلية وجدت شقيقها (بدرو) جالسا إلى المائدة يطالع في شغف كتابا مصورا، فلما رآها التفت إليها قائلا: (سنشيتا يحسن إلا تتركي خطيبك يتنقل في البحار لأنهم يقولون أن حور البحر يخطفن البحارين الحسان!) فابتسمت الفتاة لهذا القول وقبلت أخاها قبلة طويلة في جبهته. وفي ذات يوم دقت الأجراس في القرية على غير عادة، فعجبت لذلك (سنشيتا) وكانت إذ ذاك في حجرتها منهمكة في ارتداء ثيابها لتخرج إلى السوق. . رباه! لماذا تقرع الأجراس، وليس اليوم من أيام الأعياد؟ وإذا (بدرو) يدخل عليها الحجرة بغتة هاشا مسرورا فينبئها بالخبر العظيم. . بعودة (خوان)، وبأن هذه الأجراس إنما تقرع تحية له ولرفاقه الصيادين الذين عادوا من رحلتهم الطويلة. . خرجت الفتاة إلى الشاطئ وأراد (بدرو) أن يرافقها إليه، ولكن الأم احتجزته معها في المنزل ليساعدها في تنسيق مائدة الطعام إكراما للخطيب المحبوب. .
بلغت الفتاة الشاطئ فوجدت السفن راسية والصيادين يعانقون أهليهم وذويهم، ولكن. . (خوان)!. . أين (خوان)؟ أين (خوان) الجميل؟ خوان لم يؤب فقد ابتلعته الأمواج في ليل عاصف، وهو في طريق العودة إلى الوطن. . ثم دنا أحد الصيادين من (سنشيتا) قائلا: (انتظري سنشيتا سأعطيك نقود خطيبك التعس). . ولكن (سنشيتا) لم تنتظر بل قفلت راجعة إلى المنزل. . وعندما بلغت عتبة الدار وجدت شقيقها (بدرو) ينتظر متطلعا، ثم سألها في لهفة:. . (ولكن أين خطيبك؟) فأجابته في هدوء: (لقد احتفظت حور الماء بحارنا الجميل يا بدرو)!
كرمة بن هانئ