مجلة الرسالة/العدد 226/المحفوظات التاريخية المصرية
مجلة الرسالة/العدد 226/المحفوظات التاريخية المصرية
متى تنظم بطريقة علمية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عرضت لي منذ بضعة أعوام فرصة لزيارة دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ولست أذكر الآن من زيارتي سوى ممرات حجرية ضيقة تفضي إلى غرفة عتيقة شاسعة قد طرحت فيها الأوراق الصفراء أكداساً على الأرض، وغصت جنباتها وزواياها برزم متناثرة من الوثائق القديمة؛ ولم يكن يومئذ بالدار سجلات أو فهارس منظمة، ولم تكن تعرف محتوياتها بالضبط ولم تلفت محتوياتها حتى اليوم أنظار الباحثين
وفي أواخر هذا الصيف زرت دار المحفوظات النمسوية بمدينة فينا، وترددت عليها مراراً لمراجعة بعض الملفات والوثائق التي تتعلق ببعض مباحثي فدهشت لما رأيت من دقة التنظيم وحسن التنسيق وسهولة البحث والمراجعة، وشهدت كيف يستطيع الباحث أن يعمل في جو من النظام والترتيب، وكيف يتاح له أن يظفر في الحال بما يطمح إلى مراجعته من الوثائق والملفات، منسقة مصنفة طبق الموضوعات والتواريخ، مدونة في سجلات دقيقة تدل في الحال على ما فيها، وترشد الباحث إلى غايته بأيسر أمر
وقصدت أيضاً إلى دار مجموعة الصور التاريخية النمسوية - وهي من أعظم المجموعات العالمية في نوعها - لأشاهد صوراً لبعض الشخصيات التاريخية، ولأستأذن في نقلها، فقدمت إليّ الصور المطلوبة في دقائق معدودة، واخترت في الحال للنقل منها ما شئت؛ ذلك لأن هذه المجموعة الحافلة قد نظمت بمنتهى الدقة ورصدت محتوياتها مرتبة وفق العصور والتواريخ والأسماء، ويكفي أن يلقي الموظف المختص على السجل المعين نظرة ليعرف في الحال إن كانت الصور المرغوبة ضمن المجموعة، وليستخرجها في الحال من مكانها
أعجبت بهذا النظام الدقيق الذي يوفر على الباحث كثيراً من الوقت والعناء، وذكرت في كثير من الأسف ما انطبع في ذاكرتي من مناظر دار المحفوظات المصرية، وكيف أن هذه الدار التي تغص جنباتها العتيقة بكثير من وثائق التاريخ المصري في مختلف عصوره - ولاسيما العصر التركي وعصر محمد علي - لا زالت بحالتها الساذجة، وأكداسها المختلة المجهولة مغلقة على البحث والتحقيق إن لدور المحفوظات مهمة من أجل المهام التاريخية والعلمية فهي مستودع الماضي وسجلاته ومستودع وثائقه السياسية والدينية والاجتماعية؛ وهذه السجلات والوثائق هي أهم مصادر المؤرخ والمحقق، وهي أصدق الدلائل على أحوال عصرها لأنها تصطبغ غالباً بالصبغة الرسمية، ومنها الوثائق الملوكية والإدارية والعسكرية ومنها الوثائق والمعاهدات الدولية المختلفة؛ ثم هناك الوثائق السرية التي لم تعرف في عصرها، وهي أنفس ما في دور المحفوظات، تتلقاها من مكامنها في عصر متأخر أو تحتفظ بسريتها فترة من الزمن حتى يختتم العصر الذي صدرت فيه ويختتم آثاره؛ وتقدر هذه الفترة عادة بخمسين عاماً، تعرض بعدها هذه الوثائق لأنظار البحث والتحقيق؛ وفي دور المحفوظات الأوربية كنوز من الوثائق المختلفة الملوكية والإدارية والدولية التي ترجع أحياناً إلى عصور متأخرة، والتي تلقي أعظم ضوء على تواريخ الأمم الأوربية وعلائقها في مختلف العصور
ولنا في دار المحفوظات النمسوية التي حظينا بالتردد عليها ووقفنا على بعض محتوياتها ونظمها خير مثل لما يمكن أن تؤديه المحفوظات المنظمة من خدمات جليلة للبحث والتحقيق؛ فهذه الدار التي يرجع تأسيسها إلى نحو قرنين، والتي تشكل الآن جناحاً كبيراً من دار وزارة الخارجية، تعتبر من أهم مصادر البحث والتحقيق في شئون التاريخ الأوربي منذ القرن الرابع عشر؛ ويطلق على الدار اسم (محفوظات الأسرة والبلاط والدولة) , - دلالة على صفتها الشاملة، فهي مستودع محفوظات الأسرة أعني أسرة آل هبسبرج، ومحفوظات البلاط، ومحفوظات الحكومة والدولة، وبها مجموعات هامة من الوثائق الملوكية والسياسية والإدارية والدولية، وبها على الأخص طائفة كبيرة من الوثائق السرية التي تتعلق بأعمال المجلس السري أو مجلس البلاط الخاص، وقد نظمت محتوياتها في مراحل متعاقبة تشمل جميع عصور التاريخ النمسوي والتاريخ الأوربي العام حتى سقوط الإمبراطورية النمسوية في سنة 1918، ويرجع أقدم أقسامها إلى عصر القيصر فرديناند الأول في أوائل القرن السادس عشر، وتشمل الوثائق السياسية والدينية والإدارية والعسكرية عصور التاريخ الإمبراطوري حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة في سنة 1806؛ وأهم أقسامها بلا ريب هو مجموعة وثائق مجلس الدولة السري ومجلس البلاط الخاص، والمجلس الاستشاري، وهي الهيئات الثلاث التي كانت تشرف منذ أواخر القرن السادس عشر على شئون الإمبراطورية، وتحدث بأعمالها وسياستها أعظم الأثر في مجرى السياسة الأوربية، وفي هذا القسم طائفة كبيرة من وثائق التاريخ الأوربي العام، وبه على الأخص مجموعة نفيسة من وثائق عصر الوزيرين الشهيرين كاونتز وزير الإمبراطورة ماريا تيريزيا، وقرينه ماترنيخ أعظم شخصية سياسية في التاريخ الأوربي في أوائل القرن التاسع عشر؛ ثم هنالك قسم المحفوظات السياسية، وهو يحتوي على مجموعة عظيمة من الوثائق التي تتعلق بالسياسة الداخلية والسياسة الخارجية، والمراسيم والبروتوكولات المختلفة، والمعاهدات والاتفاقات والمكاتبات الدولية، ولاسيما خلال القرن التاسع عشر، ووثائق الحكومة القيصرية منذ عصر ماريا تيريزيا حتى سقوط الإمبراطورية في سنة 1918، ثم قسم الوثائق الدستورية، وهو يضم مجموعات مختلفة من أوراق المجالس الإمبراطورية والمحلية حتى العصر الأخير. ولوثائق الأسرة، أعني أسرة آل هبسبورج قسم خاص يضم كثيراً من الوثائق والأوامر والتقارير الخاصة بالقياصرة وأعضاء الأسرة بوجه عام؛ وكذلك للبلاط قسم خاص يضم الوثائق المتعلقة به وبهيئاته المختلفة؛ وأخيراً يوجد ثمة قسم خاص للوثائق والمجموعات العلمية والتاريخية التي يهبها كبار العلماء والهواة إلى دار المحفوظات
وقد أفردت دار المحفوظات النمسوية معرضاً خاصاً لطائفة من التحف والوثائق التاريخية النادرة، يضم عدة مخطوطات لاتينية وقوطية قديمة، وقرارات إمبراطورية ترجع إلى عصور متأخرة وعدة معاهدات ومكاتبات تاريخية شهيرة رأينا من بينها مكاتبة طويلة من السلطان سليمان خان إلى القيصر، يلقب فيها (بسلطان سلاطين الشرق والغرب، صاحب ممالك روم وعجم وعرب. . الخ) وصورة معاهدة تركية نمسوية عقدت سنة 1189هـ بشأن تنظيم الحدود بين الدولتين، ومعاهدة أخرى صادرة من السلطان عبد المجيد خان، وقرارات مؤتمر فينا الشهيرة الذي نظمت فيه حدود الدول الأوربية وأحوالها عقب سقوط نابوليون وعليها توقيعات أعضاء المؤتمر، وغير ذلك من التحف والوثائق التاريخية النادرة.
ولنعد بعد ذلك إلى دار المحفوظات المصرية فنقول إنه من أشد بواعث الأسف أن تبقى هذه الدار على حالها من الخلل والفوضى، وأن تبقى بذلك مغلقة دون البحث والتحقيق، وإذا كانت محتويات هذه الدار لم تعرف بعد بطريق الحصر الدقيق؛ فإنه لا ريب أن هذه الأكداس المبعثرة من الأوراق والوثائق التي تغص بها أركانها وجنباتها، تضم كثيراً من الوثائق التاريخية والسياسية والإدارية الهامة ولاسيما في أواخر العصر التركي وعصر محمد علي؛ وإنا لنذكر بهذه المناسبة أن المغفور له الملك فؤاد الأول كان قد اهتم بأمر هذه المجموعة منذ أعوام، وندب لها بعض الموظفين الذين يعرفون التركية لنقل ما فيها من الوثائق التركية إلى العربية، ولسنا نعرف ماذا تم في أمرها بعد، وهل حققت أمنية الملك الراحل على نحو مرضي، وهل بدأ القائمون بأمر هذه الدار بتنظيمها وحصر ما فيها في سجلات منظمة تدل على ما فيها؛ ذلك أن الوقت قد حان لأن يكون لنا دار محفوظات منظمة على أمثال دور المحفوظات الحديثة، تصنف محتوياتها بأسلوب علمي طبق العصور والموضوعات، وتحمل إليها أشتات الوثائق والأوراق القديمة المبعثرة في مختلف المصالح والجهات، وتعرض محتوياتها لأنظار الباحثين والمحققين، تمدهم بمواد وحقائق جديدة تؤيدها الأدلة والوثائق التي لا ريب في صحتها
ونحن نعرف أن دار الكتب المصرية تضم طائفة كبيرة من أوراق البردي ومن الوثائق التاريخية، ومنها أعلام شرعية وحجج أوقاف ومراسيم إدارية قديمة وغيرها، وقد عهدت دار الكتب أخيراً إلى أحد العلماء الأجانب بتنظيم مجموعتها من أوراق البردي وتنظيمها وتصنيفها في كتاب خاص؛ وأما الوثائق الأخرى فهي مبعثرة في فهارسها لا تجمعها رابطة ما؛ كذلك يوجد في محفوظات وزارة الأوقاف، والمحكمة الشرعية العليا، وبعض المصالح الحكومية الأخرى أوراق ووثائق تاريخية قديمة في غاية الأهمية، وهذه كلها مهملة تبلى في ظلمات الأروقة الرطبة، ولا يكاد ينتفع أحد بمراجعتها إلا في ظروف شخصية نادرة. فمن الواجب أن تجمع هذه الأشتات كلها في دار محفوظات عامة تكون مرجع البحث العام؛ ومن المحقق أننا سنظفر من ذلك بتراث جليل، لا يقل في أهميته ونفاسته من الناحية القومية عما تحتفظ به دور المحفوظات العامة في الأمم الأخرى
لقد نشأت دار الكتب المصرية في ظروف متواضعة، وبدأت بثروة أدبية قليلة حملت إليها من بعض المساجد والمجموعات الخاصة؛ وهاهي ذي اليوم ولما يمض على إنشائها نحو نصف قرن تغص بتراثها الزاخر من مخطوط ومطبوع، وتتبوأ مكانة بين دور الكتب العالمية؛ فلنبدأ بإنشاء دار محفوظات مصرية منظمة تقوم إلى جانب دار الكتب، وتعاون البحث والتحقيق من جانبها، وتمد المؤرخ المصري بمادة جديدة نفيسة، ونحن على يقين من أنه لن تمضي فترة يسيرة حتى تغدو دار المحفوظات المصرية، كما غدت دار الكتب، مقصد العلماء والباحثين من جميع الأنحاء
(الباخرة كوثر في 24 أكتوبر)
محمد عبد الله عنان