انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 225/أي زمان هذا؟!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 225/أي زمان هذا؟!

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1937


فرغ الشيخ منصور من قراءة (الأهرام) ثم ألقاها من يده الراعشة على الوسادة وقال بلهجة الساخط القانط: (أي زمان هذا؟) هل أتى أمر الله وقامت القيامة؟

وكنا خليناه لنفسه ساعة شغلها بالنظر في الجريدة، وشغلناها في شأن من شؤونه. فلما تحرك هذه الحركة العصبية، وقال هذه الجملة التعجبية، أقبلنا عليه نستفهمه الأمر ونناقله الحديث. والشيخ منصور هذا فقيه نابه من فقهاء الأزهر القديم، قضى عمريه في خدمة الدين وعلومه وهو على الحال القروية الأولى من بساطة الطعام والمنام والملبس، فلم يشْك داء ولم يشرب دواء قط!

أولاده مثقفون مترفون، يشغلون المناصب الرفيعة ويسكنون المنازل الأنيقة وينعمون بمتع الحضارة؛ ولكنه لا يزال هو وزوجه الشيخة يعيشان في دارهما العتيقة في حي الباطنية على النمط الأول: يأتدمان بالفول، ويتفكهان بالتمر، ويستصبحان بالزيت. ولا يخرجان - إن خرجا - إلا لصلة رحم أو لزيارة ضريح. والشيخ لا ينفك يحمد الله على أنه لم يركب سيارة، ولم يغش قهوة، ولم يشهد حفلة، ولم يتعلق بشيء من أسباب الدنيا إلا بما لا بد منه لسلامة البدن والدين؛ فلولا أنه يقرأ الصحيفة كل صباح، ويسمر مع نفر من تلاميذه كل مساء، لكان بينه وبين هذا العالم المتغير (كمال الانقطاع). وهو اليوم يدخل في حدود التسعين من سنيه قطيعَ القيام قعيدَ الغرفة، إلا أنه سليم الحواس شاهد اللب؛ ويرى أن الفضل فيما يتمتع به من طول العمر ونقاء الجسم وفراغ البال، إنما يرجع إلى الإيمان بحكمة الله والرضى بقسمة القدر. وبلغه أن قوماً من العلماء يسكنون في أحياء الأغنياء، ويستطيلون على الناس بالجاه والثراء، وأن أحدهم بلغ من ترفه وسرفه أن اشترى ثلاجة بعشر جنيهات، فاستهال الخبر، وتعاظم الأمر، ثم بكى وقال: يا حسرتا على الدين والعلم! إن العالم إذا امتلأت عينه من الدنيا، فرغ قلبه من الدين!

سأله أحدنا: ماذا قرأت يا مولانا في الجريدة فأنكرته على الزمان؟ فأجاب بلهجته تلك:

(حرب داخلية في الغرب، وحرب خارجية في الشرق، وحرب عالمية تترقب في البحر، وتتوثب في البر، وتتنزى على ألسنة الساسة المساعير من أبناء المدنية وربائب الحضارة؛ ثم سقوط الفرنك في سورية، وحبوط السياسة في فلسطين، وهبوط القطن في مصر، وقنوط الناس في كل مكان من صلاح الحال وانفراج الأزمة؛ ثم وباء الدنج الذي يؤازر الملاريا والأنفلونزا على خمود الحياة وشل الحركة. لقد كنا لا نرى الموت إلا حيث تكون الشيخوخة الفانية، ولا نسمع بالمرض إلا قُبيل الموت المرغوب، ولا نعرف من الأطباء إلا طبيب المركز يوم يزور القرية كل أربع سنوات، فيأمر بتسوية التلال، وكنس الأزقة، ورش الحيطان الخارجية بالجص؛ وكانت النفوس راضية مطمئنة تسبح في فيض من نعيم السلام والدعة، لا يُرمضها حقد على إنسان، ولا يقلقها حرص على شيء؛ وكان الناس لا يعلمون عن أوزار الحرب إلا ما يتسقطون من أنبائها الحين بعد الحين بين العثمانيين والمسكوف؛ وكانت السلامة أدوم، والأعمار أطول، والأرزاق أيسر، ورحمة الله أقرب، وأمة الرسول بخير

أما اليوم فكأنما أصاب الناس سُعار من الجحيم فلا يبرحون بين عمل دائب، وهم ناصب، وطمع شره، وتنافس دنيء، وعداوة راصدة. ثم فشا الطب ففشا المرض، وانتشر العلم فانتشرت الجريمة، وفاض الخير وغاضت البركة، واستبحرت المدنية المادية فخَفَت بين ضجيجها الآلي صوت الضمير، وهلك في عبابها المزبد سلام النفس. وكان الظن بالمدنية والعلم أن ينزعا من نفوس بني الإنسان غرائز الحيوان، ويهيئا لهم حياة الجنة التي حرمتهم إياها رذيلة الطمع. فهل رُفع الإيمان من الأرض حتى عم الناس هذا البلاء، وأصاب العلماء منه ما أصاب الجهلاء؟

فقلت له يا شيخنا! كان عدد الناس في صدر أيامك قليلاً، وخير الله بالنسبة إليهم كثيراً؛ فكانت الحياة وادعة، والنفوس قانعة، والجوارح عَفّة والجوانح سليمة. وبراءة الصدور من الحسد تصل قطيعة القلوب بالألفة، وترفه لغوب العيش بالمعونة؛ وخلو البال من الهم يدفع المرض عن الجسم، ويصد الرذيلة عن الروح. فلما جاءت المدنية الكاذبة وفرت وسائل الصحة، ومدت أسباب الأمن، فزاد النسل أضعافاً مضاعفة، وكثرت الحاجات كثرة فاحشة، فتزاحم الناس على موارد الرزق، وتكالبوا على مواد العيش؛ ثم أيأستهم هذه المدنية من عزاء الدين، وشككتهم في ثواب الله، وأرابتهم في غَناء الخُلق، فعادوا في حضارتهم الزاخرة بعجائب العلم كأوابد الوحش، لا يقودهم إلا غريزة الحي، ولا يحكمهم إلا قانون الحياة. والله وحده يعلم كيف المصير

فقال الشيخ منصور في تسليم المصدق واستسلام المؤمن: (الأمر لله يا بني! لا يقع في ملكه إلا ما يريد. نسأله تعالى أن يبقينا فيكم على سلامة، ويخرجنا من دنياكم على خير)

احمد حسن الزيات