انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 224/من طرف أهل الحرف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 224/من طرف أهل الحرف

يأس
مجلة الرسالة - العدد 224
من طرف أهل الحرف
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1937



ذكرتني مقالة الأديب البحاثة الأستاذ مصطفى جواد البغدادي (الأدباء المحترفون) وما رواه فيها من سيرة (الخبز أرزي) وشعره بإخوان له في الأدب والحرفة، فرأيت أن أملي بعض طرائقهم مضافاً إلى تلك المقالة البغدادية في (الرسالة الغراء):

قال علي بن ظافر: كان الوزير أبو بكر بن عمار كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن من الأدب الحسن فبلغه خبر (ابن جامع الصباغ) فمر على حانوته وهو آخذ في صناعة صباغته، والنيل قد جر على يديه ذيلا، وأعاد نهارهما ليلا، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء وأشار إلى يده وقال: كم بين زند وزند؟

فقال ابن جابر:

ما بين وصل وصد

فعجب من حسن ارتجاله. ودخل ابن عمار هذا سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم وقال:

لحم سباط الخرفان مهزول

فقال يحيى:

يقول للمفلسين: مه، زولوا

وكان يحيى السرقسطي ترك مهنته مدة ثم عاد إليها فكتب إليه الوزير أبو الفضل بن حسداي:

تَركت الشعر من عدم الأصابِهِ ... وملت إلى الجزارة والقصابه

فأجابه يحيى:

تعيب عليّ مألوف القصابه ... ومن لم يدر قدر الشيء عابه

ولو أحكمت منها بعض فن ... لما استبدلت منها ذي الحجابه

وإنك لو طلعت عليّ يوماً ... وحولي من بني كلب عصابه

لهالك ما رأيت وقلت هذا ... هزبر صيّر الأوضام غابه

فتكنا في بني العتري فتكا ... أقر الذعر فيهم والمهابه

ولم نقلع عن الثوريّ حتى ... مزجنا بالدم القاني لعابه

ومن يعتز منهم بامتناع ... فإن إلى صوارمنا إياب ويبرز واحد منا لألف ... فيغلبهم وتلك من الغرابه

وحقك ما تركت الشعر حتى ... رأيت البخل قد أوصى صحابه

وحتى زرت مشتاقاً حميمي ... فأبدى لي التهجم والكآبه

وظن زيارتي لطلاب شيء ... فأقصاني وغلّظ لي حجابه

وكان مظفر الذهبي مصوراً؛ ومن قوله:

كلفت بتصوير الدُّمي في شبيبتي ... وأتقنتها إتقان حر مهذب

وحاولت عنها رجعة ومدحتكم ... فلم أخل من تزويق زور مكذب

وكان نجم الدين يعقوب بن صابر منجنيقياً؛ ومن شعره:

كلفت بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط

وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالين من قصد حائط

قال ابن خلكان: كان ابن صابر المنجنيقي جندياً في ابتداء أمره، مقدماً على المنجنيقيين ببغداد، ولم يزل مغرىً بآداب السيف وصناعة السلاح والرياضة، ولم يلحقه أحد من أهل زمانه في فهمه لذلك، وصنف كتاباً سماه (عمدة السالك في سياسة الممالك) يتضمن أحوال الحروب وتعبئتها وفتح الثغور وبناء المعاقل، وأحوال الفروسية والهندسة والمصابرة على الحصار، والقلاع والرياضة الميدانية، والحيل الحربية الخ؛ وكان شريف النفس متواضعاً؛ وهو شاعر مجيد ذو معان مبتكرة، وجمع من شعره كتاباً سماه (مغاني المعاني) وكانت له منزلةً لطيفة عند الإمام الناصر، توفي سنة 626، ولابن صابر:

قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء

حتى سَرت وخَطاته في مفرقي ... فوددت ألاّ أفقدَ الظلماء

وعدلت وأستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فصبغتها سوداء

لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء

ومن الأدباء المحترفين السراج الوراق وأبو الحسين الجزار ونصير الدين الحمامي. قال ابن حجة في (خزانته): (وتعاصر السراج هو وأبو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية) ومن قول السراج الوراق:

يا خجلتي وصحائفي سود غدت ... وصحائف الأبرار في إشراق وموبّخ لي في القيامة قال لي: ... أكذا تكون صحائف الوراق؟!

وقال الجزار:

كيف لا أشكر الجزارة ما عشت ... حفاظاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيني ... وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وكتب إليه نصير الدين الحمامي:

ومذ لزمت الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه

أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه

فأجابه أبو الحسين الجزار:

حسنُ التأتي مما يعين علي ... رزق الفتى والحظوظ تختلف

والعبد مذ صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف

وفي كتاب (المغرب في حلي المغرب): حضر الجزار بين يدي الصاحب الكبير كمال الدين عن أبي جرادة مودعاً وقد أزف رحيل الصاحب عن مصر سنة (645) فاتفق أن وجه سلطان مصر شيئاً من التمر الذي يصل من أعلى الصعيد في المركب المبشر بزيادة النيل على وجه البركة، فأمر الصاحب أن يقدم فأكل الجزار في جملتهم، وقال في ذلك ارتجالاً فأتي بأبدع تورية.

أطعمتنا التمر الذي ... للبركات قد حوى

لله ما أطيبه! ... لو لم تشبه بالنوى

(الإسكندرية)

(* * *)