انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 224/في أي عصر تعيش مصر؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 224/في أي عصر تعيش مصر؟

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1937



للدكتور محمد البهي قرقر

لكل عصر من عصور التاريخ التي حصل فيها انقلاب تطوري للشعوب والعقل الإنساني على العموم، طابع خاص يتميز به عن غيره. ومن أهم تلك العصور التي كان لها حدث تاريخي عظيم في ذلك الانقلاب وخصوصاً في نشأة الدول وتطور النظم الحكومية عصر القرون الوسطى والعصر الحديث.

فالاستبداد أي قيام طائفة بعينها بالحكم في الرعية وادعائها أنها وحدها هي التي تصلح للحكومة والمختارة للسيادة - ظاهرة من الظواهر التي تكون طابع عصر القرون الوسطى. فهذه الطائفة كانت ممثلة في رجال الكنيسة، وكان مصدر اختيارها على حسب زعمها هو الله، وحكومتها تعرف في التاريخ السياسي بالـ

وهنالك ظاهرة أخرى لا تقل عن سابقتها شأناً في تكوين هذا الطابع، وهي ظاهرة التمسك بالنصوص القانونية والجمود في تنفيذها ولو كان في ذلك التضحية بالمصالح الحيوية للرعية وعدم التمشي مع ما تتطلبه العدالة العامة التي هي الغرض المقصود من أي قانون وضعي أو مصبوغ بالصبغة الدينية، وهذه الظاهرة تعرف في تاريخ التطور العقلي بالـ

وكون تلك النصوص في هذا الوقت كانت لها صبغة دينية لا يغير من قيمة هذه الظاهرة ولا من كنهها وهي التمسك بالنصوص القانونية من حيث هي نصوص، كما أن كون الطائفة الحاكمة كانت من القساوسة وأرباب الكنيسة لا يبدل من حقيقة الظاهرة الأولى وهي أن الحكم كان استبداديا، إذ أتصاف الطائفة التي حكمت والنصوص القانونية التي سادت في هذا العصر بالوصف الديني لا يدل إلا على مصدر حكم السلطة التنفيذية، وإلا على مصدر التشريع، كما أن الوصف بالديمقراطية في العصر الحديث لا يعين أكثر من أن مصدر الأمرين جميعاً هو الأمة. أما كون القانون في ذاته أو الحكومة في نفسها عادلة أو غير عادلة فليس بضروري أن يكون مرتبطاً ارتباطاً تاماً بالمصدر، وإنما هو شيء آخر سبيل معرفته الناحية العملية في الحياة الإنسانية، وكونه طبق مصالح الأغلبية من الرعية أو ليس على وفقها. فقد يكون مصدر الحكم جمعياً، وهو الأمة مثلا في الحكم الديمقراطي والذي هو مظنة العدل، ومع ذلك لا يكون طبق مصلحة السواد الأعظم من الشعب؛ وقد يكون فردياً كما في الحكومة الاستبدادية والتي هي مظنة الجور، وبالرغم من هذا يكون وفق ما تتطلبه المصلحة العامة في الأمة، إذ الواقع إنه في الحكم الديمقراطي قد لا تمثل الحكومة في أسلوب الحكم رأي الأكثرية وإنما تمثل قوة الزعيم الشخصية التي تمكنه من الاستيلاء على نفوس الأغلبية، أو الضعف النفسي للأغلبية التي يجعل قيادها سهلا والتحكم فيها أمراً هيناً.

وسواء اعتمدت تلك الطائفة حقاً في حكومتها وفي تعلقها بالنصوص القانونية على المبادئ الصحيحة للدين المسيحي أم على تعاليم الكنيسة أي تعاليم تلك الهيئة التي تمكنت باسم الدين وهو هو دائماً الوسيلة القوية في تملك الشعور الإنساني، من سيادة أرستقراطية دامت مدة طويلة، سواء أكان هذا أو ذاك فذلك بحث أخر خارج عما أريده هنا.

وهناك أيضاً ظاهرة ثالثة كانت أيضاً من مكونات طابع عصر القرون الوسطى، وهي اتجاه التعليم نحو الناحية التي كانت تقصد إلى الإنسانية المحضة ? وربما نشأت هذه الظاهرة من تلون الحكم والنصوص القانونية بلون ديني في ذلك الوقت، لأن الدين لا يعرف جنساً من البشر بعينه ولا يقصد إلى تهذيب أمة لكونها أمة مخصوصة، وإنما لكونها جماعة إنسانية، ولعلها كانت نتيجة لرغبة تحقيق الفكرة الإمبراطورية للكنيسة. وتحقيق مثل هذه الفكرة يتأثر تأثراً سلبياً بالدعاية لمبدأ التعليم القومي.

فالأمة الإنكليزية مثلاً في العصر الحديث - وكذا كل أمة لها سياسة استعمارية عالمية - تعلم الناشئة فيها سياسة الحكم الإمبراطوري والعمل لأداء (رسالة) إنجلترا في الإمبراطورية الإنكليزية على يد رجال الشعب الإنكليزي وحدهم، وهي تربية قومية محضة، ولكنها في الوقت نفسه تعلن خارج بلادها وفي حدود إمبراطوريتها تأييد التعليم الدولي وأن الغاية منه بلوغ الكمال في الإنسانية، لأن ذلك من الوسائل السلمية لضمان بقاء الاستعمار وضغط الشعور القومي في البلاد الخاضعة لها من طريق ظاهرة المحبة والإخلاص.

أما القانون الخلقي لهذا العصر فكان العمل للسلام الإنساني والاعتراف لكل من القوي والضعيف والمفكر والأبله وغير هؤلاء من نوعي الإنسان بالتمتع بالحياة كاملة على حد سواء. وربما كان ذلك نظرياً فقط لأن حوادث التعذيب التي تنسب إلى الجهة العليا يومئذ أي إلى الكنيسة ضد العلماء يصح أن تكون دليلاً على أن السلام الذي كان يعترف به كمبدأ خلقي كان يقصد به عدم إثارة أي نزاع ضد الطائفة الحاكمة وهي الطائفة المنتخبة من الله والموكلة بأمره في الخلق.

وهكذا اليوم مثلاً دعوة السلام التي تقرر كمبدأ سياسي دولي والتي تذيعها جمعية عصبة الأمم في كل يوم وكل مناسبة ليست إلا أمراً نظرياً يقصد منه ترك القوي يتمتع بسيادته على الأمم الضعيفة في أكبر قسط من الراحة وهناءة البال دون أن تزعجه مطالبها القومية ورغبتها في الاستقلال بالسيادة.

والعصر الحاضر يتمتع بطابع مخصوص تنم عنه جملة ظواهر تكاد تكون على الضد من الظواهر السابقة.

فالديمقراطية، أي كون الشعب هو الذي يباشر حكم نفسه بالأسلوب الذي يختاره: بالأسلوب البرلماني أو الشيوعي أو الفاشي تكون جزءاً كبيراً من هذا الطابع.

كذلك سياسة الواقع ? ومراعاة المصالح القومية ظاهرة أخرى لهذا العصر. وقد تكون هي وحدها محور المشاكل الدولية اليوم، والسبب الرئيسي في شل عصبة الأمم وإظهارها بالمظهر الخيالي الذي يتضاءل أمام الحقيقة، فضلا عن أنها منذ خلقت لم تكن إلا حلماً لذيذاً للأمم الضعيفة، وستاراً ولكنه شفاف، يكشف دائماً عن مقاصد القوى وسياسته ذات الوجهين.

ولعل من سياسة الواقع واتباعها رفض نظرية التعليم الدولي وبناءه على الأسس القومية وتوجيه نحو الصالح الوطني، واستبدال الغرض (الوطني) بالآخر الإنساني. وهذه ظاهرة أخرى توضح طابع هذا العصر.

أما قاعدته الخلقية فهي تحقيق مبدأ تنازع البقاء والاعتراف بأن الصالح للحياة هو القوي والأصلح المنتج. ولعل الإيمان بهذه القضية الخلقية نتيجة للشعور الوطني الذي ساد الأمم والدويلات، وتمكن من نفوس الجماعات البشرية المختلفة في الجنس والعادات اللغة. فإحساس كل أمة بوجوب استقلالها وخضوعها لسيادتها الذاتية فحسب أذكى قوة النضال فيها وحفظها من التوزع داخل الأمة في مكافحة الأحزاب السياسية الوطنية بعضها بعضاً ثم صوبها نحو الخارج: أي أن كل أمة وجهت قوة الكفاح نحو الأمم الأخرى دفعاً لما عساه أن يحدث من خطر يذهب بسيادتها الذاتية. ومن النتائج الضرورية للكفاح بقاء القوي واستمرار تمتعه بالحياة. وهو حادث طبيعي؛ غير أنه أخذ في العصر الحديث صفة خلقية ونال استحساناً عقلياً وتأييداً عملياً، وهذا هو الذي جعل تلك القضية الخلقية من مميزات هذا العصر.

أما الدعوة إلى السلام العالمي الذي ينادي به نظام جنيف، والذي ربما يتنافى في الظاهر مع إقرار مبدأ تنازع البقاء إقراراً خلقيا، فهي دعوة مدخولة وأقرب إلى الخديعة منها إلى نداء إنساني عام يرجى من ورائه سعادة الجماعة البشرية، لأن القائم بها يفهم من السلام العالمي ترك النائم في أحلامه واستسلام الضعيف لضعفه واستمرار المستعمر في اذلاله، بينما هو يمثل لديهم جميعاً دور الحكم الذي اختير للفصل من خالق العالم.

تلك مظاهر العصرين ومنها يتكون طابعهما. فإذا نظرنا الآن إلى مصر، إلى مركز النص القانوني وقيمته فيها، وإلى نظامها الحكومي، وإلى المبدأ الخلقي للسياسة العملية فيها، وأخيراً إلى مبدأ التعليم واتجاهه، إذا نظرنا إلى كل هذا فهل يمكننا أن نظفر بحكم قطعي على طابع الحياة فيها؟ وهل يتهيأ لنا بصفة حاسمة أن نقول إن مصر تعيش في وقتنا الحاضر، أو في عصر القرون الوسطى، أو أنها لا تعيش في كليهما؟ وإذن في أي عصر تعيش هي؟

لنسترجع هذه الظواهر واحدة واحدة ونستعرضها في مصر حتى يكون الحكم نتيجة صحيحة لمقدماته.

أليست الـ والمبالغة في تقديس القانون من حيث هو (نص) قانوني فقط هي التي تحمل على أن يقوم برياسة الوظائف الفنية الكبرى التي تحتاج إلى تخصص وخبرة تامة في الفن كوظائف الصحة والتجارة والاقتصاد والمعارف. . . رجالُ كل مؤهلاتهم أنهم درسوا القانون الجنائي أو القانون المدني أو الدولي مثلاً؟ أليس شأن هؤلاء كشأن القساوسة في العصور الوسطى الذين ولوا الوظائف المدنية الفنية وليس لهم مؤهلات إلا أنهم من رجال الكنيسة ومدرسة القانون الديني؟

لماذا هذا الظلم وهذا الإجحاف الذي يصيب الفلاح سنوات وسنوات بسبب قانون تحريم تعديل ضريبة الأطيان قبل مضي ثلاثين سنة على وضعها أو تعديلها؟ أهذا شيء آخر غير التمسك بالنص القانوني وإن ذهبت مصالح الشعب الحيوية ضحية ونفذ الظلم في صورة (مشروعة) في صورة قانون؟

لماذا تترك (العقبة القانونية) تتحكم في إنجاز مشروع مجلس المعارف الأعلى وهو المجلس الفني في أمور التعليم وفي سياسية البلد الثقافية سنوات عدة ولو سادت مع ذلك الفوضى في تعديل برامج التعليم وذهب وقت الرئيس، الرجل (القانوني) الذي يجب أن يكون وقته خالصاً لمصالح الأمة في دراسة تكميلية فنية شخصية أي دراسة شئون التربية التي لا تغنيه عنها شيئاً دراسته القانونية؟ أهذا أمر آخر غير التمسك بالنصوص القانونية من حيث هي نصوص فقط؟

لماذا يضحي بالكفايات الشخصية في العمل الحكومي؟ ولماذا يسود هذا القانون البيروقراطي قانون الوظائف الأوتوماتيك الذي يجعل المكافأة بالعلاوات على مدة الخدمة لا على نوعها؟ وربما يقال إنه قانون عادل لأنه يحرم طريق الاستثناء! ولكن لم لا تكون قاعدة الاستثناء هي الكفاية بدل المحسوبية؟ ولم لا تجعل الجدارة الشخصية مع مراعاة الأقدمية بعض المراعاة مبدأ للترقية المادية؟ أمن عدل القانون أن يحرم على الناس استخدام مواهبهم الشخصية في المصالح العامة؟ أمن عدله أيضاً أن يكون من جماعات الإنسان آلات أوتوماتيكية، أو من عدله أن يشجع الكسل ويعترف له باستحسان شرعي؟ أم ذلك كله هو التمسك بنص القانون من حيث هو نص فحسب؟

لماذا يقدم رجل عادي إداري - وكذا كل رجل صاحب نبوغ خاص يحمله دائماً على استقلاله في تفكيره ويهيئ له نضوجاً خاصاً في قوة التمييز بين العمل للمصلحة والطاعة (للنص) القانوني - من كبار رجالات مصر المصلحين الذين هم ثروة الأمة وذخيرتها إلى المحاكمة أمام هيئة عليا بحجة أنه نفذ إصلاحاً قبل تسلمه الرد بالموافقة من الوزارة المسئولة؟ أيقدم مصلح للمحاكمة لأنه حول مستنقعاً كبيراً كاد يقضي على سكان عاصمة إقليم من أهم أقاليم الوجه البحري إلى متنزه عام وشيد عليه معهداً للثقافة العقلية: مكتبة البلدية بدمنهور، وداراً أخرى لتلك الغاية على طراز آخر: سينما البلدية، وملعباً رياضياً لتقوية أجسام الشبيبة ومساعدتها على التمتع بالصحة في الشباب والشيخوخة، كل ذلك في زمن وجيز وبإرادة نافذة؟ أيقدم للمحاكمة لأنه عطف على الفلاح واعترف بنصيبه في الحياة وباشتراكه في معنى الإنسانية وبمركزه في الإنتاج الاقتصادي لمصر فاستعمل معه أسلوب اللين في تحصيل الضرائب التي يدفعها للموظف الحاكم وفي الواقع لخادمه الذي يجب أن يكون تحت تصرفه ولمصلحته في كل لحظة وبكل عناية؟

ما ذنبه إذا كانت الجبهة العليا الحاكمة تجري في تنفيذها للمشروعات على أسلوب بيروقراطي وتتمسك (بنص) قانوني كم ذهبت مصالح حيوية ضحية له. وكم دام إنجاز بعض المشروعات الهامة سنوات طويلة وقد كان لا يستغرق أكثر من أشهر معدودة لو فهمت الروح القانونية. أليست فكرة معاقبة رجال الإصلاح على هذا النحو هي فكرة الكنيسة في القرون الوسطى ضد من كان يريد أن يحكم عقله مرة ما في فهم النصوص القانونية؟

هل يفهم الإنسان شيئاً آخر سوى تحكم النص القانوني وحده إذا عرف أن أحد الكنستبلات المالطيين في بوليس الإسكندرية أعيد للخدمة ثانية بعد عزله وفقاً لنص المعاهدة، لأنه تجنس بالجنسية المصرية؟ إنني أعرف رجلين من الأرمن هنا في هامبورج تجنسا بالجنسية المصرية. أنا لم أدهش من شعور أحدهما يوم قابلني في سنة 1935 في وقت اشتدت فيه حركة الطلبة بالقاهرة للحصول على غرض شريف: للحصول على دستور سنة 1923. إنه لم يستح أن يجرح عاطفتي الوطنية إذ يفاجئني بقوله: ماذا يقصد هؤلاء الطلاب أولاد العرب من حركتهم هذه؟ ألا يستحون من مطالبة بريطانيا بالتخلي عن حكم مصر؟ ألم يفهموا للآن أنها تمدنهم وتحد من همجيتهم؟ لم أدهش حقاً لهذا لأني أعلم أن تجنسه بالجنسية المصرية لا يمكن أن يكيف شعوره بكيفية مصرية مهما حاول ذلك، كما لم أدهش منه يوم قابلني هو بعينه في شهر يونيه الماضي وجعل يردد لي حبه وتعلقه بمصر وفخره أنه يحمل على صدره العلم المصري، لأني أعلم أيضاً أنه يستتر وراء هذا العلم من مطاردة بعض أفراد النازي هنا له، لأن سحنته يهودية ولأنه هو وأخاه من التجار الأجانب الذين هم تحت مراقبة البوليس لسوء سمعتهم الأخلاقية واتباع حيل اليهود الدنيئة في كسب الربح.

ولو سوغ التجنس بالجنسية المصرية لهذا المالطي حقوقاً أخرى سياسية لما كان ينبغي أن يجيز له مباشرة عمل متصل بنظام الأمة الداخلي، ولكنه (النص) القانوني الذي لا يفرق بين مصري ومتمصر له من الطبائع النفسية وطرق التفكير ما يبعده أشد البعد عن طبيعة المصري أو العربي المتمصر مثلا؛ والسلوك العملي للإنسان خاضع لطبائعه النفسية ونوع تفكيره

وغير هذا من الحوادث كثير. فإذا ذهب من يريد الإسلام عن اقتناع لا عن محاولة وإكراه إلى قنصلية مصرية في الخارج ليسجل إسلامه فيها كهيئة رسمية تمثل أمة إسلامية تحتل المكان الأول بين أمم العالم الإسلامي لم يصل إلى غايته، لأن نص القانون المصري يحرم ذلك تجنباً لإشكال دولي بينما يبيح أعمال التبشير الإكراهية في مصر المسلمة التي يقول عنها الأستاذ المراغي إنها سرقة أرواح واغتصاب نفوس عملاً بحرية الأديان. ولكنه النص القانوني.

بجانب هذه الظاهرة: ظاهرة التمسك بالنص القانوني التي هي إحدى ظواهر عصر القرون الوسطى، نجد ظاهرة أخرى من ظواهر العصر الحاضر وهي الظاهرة البرلمانية التي لا تبيح استبداد الفرد أو الطائفة الأرستقراطية بالحكم. ولكن بالرغم من وجود هذا النظام الشكلي فإن أهم مكونات طابع العصر الحاضر لا يجدها الباحث إذا فتش عنها في مصر الحديثة.

فالسياسة العملية السائدة اليوم في مصر ليست سياسة الواقع ومراعاة الصالح الوطني؛ وغاية التعليم ليست قومية وطنية بل دولية بكل معانيها، إذ أعز أماني مصر الحديثة خدمة (الإنسانية) والعمل على تلاشي الفوارق الطبيعية قبل تكوين أمة مصرية يشعر كل فرد من أفرادها بأن عليه واجباً نحو نفسه ونحو وطنه. كما أن النظرة الخلقية التي تلقى استحساناً عند الطبقة الحاكمة والتي تشبعت بها نفوسهم هي تأييد السلام العالمي الموهوم، والعمل لقضية السلام، والافتخار بالاشتراك في جمعية المحافظة على السلام الدولية التي قضى عليها بالموت منذ خلقت.

فأنا لا أدري إذا كانت مصر تعيش في القرون الوسطى لهذا المظهر السائد اليوم: مظهر التمسك بالنصوص القانونية ولو كان فيه التضحية بالمصالح الحيوية وعدم تحقيق معنى العدالة. ولكن المظهر البرلماني يحول دون الحكم بذلك، لأن مظهر السلطة في ذلك الوقت كان استبدادياً قاصراً على الطبقة المختارة من الله أم إنها تعيش في العصر الحاضر لوجود هذا المظهر الشعبي؟ ولكن سياستها ليست سياسة الواقع ومراعاة المصالح القومية كما أن أسلوبها في التعليم هو الأسلوب الدولي، وقاعدتها الخلقية ليست إقرار مبدأ تنازع البقاء.

أم أنها تعيش في كلا العصرين؟ ولكن محال على أمة فتية رشيدة تسير في طريق التطور الطبيعي أن تجمع حكومتها بين الأضداد. وإذن لا بد أن تكون ظواهر أحد الطابعين خادعة

وأغلب ظني أن مصر لم تدخل بعد في العصر الحاضر صاحب الطابع الوطني؛ ولكنها تقطع الآن الفترة السابقة له، وهي فترة مملوءة بالأخطار الجسيمة التي تمس حيوية الشعب، فترة الحرية الكاذبة التي تطغي على كل ناحية من النواحي العقلية والخلقية وتتجاوز الحدود الطبيعية، فترة الرغبة في التخلص مما يسمى (قديماً) - وخير الوطن في التمسك به - والنزوع إلى الجديد المبهم غير المحدود الذي تلوكه الألسن ولا تفهمه عامة الشعب بل وكثير من خواصها - وهو لهذا خطر - فترة التحرر

فإذا قوي في الأمة شعور التمسك بالوطن وبالقديم؛ وقوي الشعور بالمحافظة على ما كان للأمة والاعتزاز به في أي ناحية، كان ذلك ابتداء الحياة في العصر الحاضر

محمد البهي قرقر

دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الأستاذ محمد

عبده.