انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 223/هكذا قال زرادشت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 223/هكذا قال زرادشت

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1937



للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

المسافر

وكان قد انتصف الليل عند ما توجه زارا إلى أكمة الجزيرة وهو يجد في السير ليبلغ الشاطئ الآخر عند بزوغ الفجر إذ كان يقصد الإبحار من هذه الجهة حيث ترسو بعض المراكب لتقل طلاب المهاجرة من الجزر السعيدة

وتذكر زارا الرحلات التي قام بها منفرداً منذ صباه فمرت بمخيلته رسوم الجبال والتلال والذرى التي تسلقها في حياته فقال: (ما أنا إلا رحالة ومتسلق مرتفعات وما تستهويني منبسطات الأرض ولا يستقر بي مقام. ومهما قُدّر عليّ ومهما وقع لي فلا تعدو الحوادث أن تكون في نظري رحلة واعتلاء. فما لي أن أرى من الآفاق إلا ما انطبع منها في نفسي. ولقد مضى الزمن الذي كان لي فيه أن أتوقع الحوادث من خطرات الحظ. وهل لي أن أنال من الدهر شيئاً لم يستقر في نفسي من قبل؟

إن كل ما يطرأ عليَّ بعد الآن إنما هو ذاتي العائدة تكراراً بعد انفراطها وتمازجها في الأشياء وتصاريف الزمان. غير أنني أصبحت الآن على مدرج آخر الذرى أمام أصعب مسلك ما اقتحمت مثله في حياتي، فأنا أبدأ الآن أشد رحلاتي عناء وأرعها وحشة

وأنىّ لمثلي أن يتجنب مثل هذه الساعة التي تهتف قائلة: إنك على مبدأ طريق المجد حيث تتداخل الذرى في المهاوي. أنت تسير على هذه الطريق وكنت تراها قبلاً آخر ما تقتحم من أخطار فأصبحت لديك آخر ملجأ تهرع إليه

إنك تسير على طريق المجد فعليك أن تتذرع بالحزم الأوفى لتقطع بنفسك خط الرجوع على نفسك

إنك تسير على طريق المجد، فأنت منفرد عليها لا يزحمك أحد من ورائك، وقد محت أقدامك آثار خطاك على ما وراءك من المسالك، ولاحت كلمة المستحيل بعينيك على آفاق هذه الطري ولابد لك إذا ما خلت المدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك إذ لا سبيل لك للاعتلاء إلا إذا اتجهت إليه وغلى ما وراءه وأنت تدوس على قلبك، وهكذا سيشفيك ما كان يحلو لديك

إن من أفرط في ادخار جهوده لا يلبث حتى يُبتلى بالخمول، تبارك كل جهد يشد العزم، فلا خير في أرض تدر اللبن والعسل؛ ومن يطمح إلى الإحاطة بأمور كثيرة فليتدرب على إرسال أبصاره إلى ما وراء حدود ذاته. وعلى كل متسلق للذرى أن يتعزز بمثل هذا الحزم إذ لا يسع من يتحرى الأمور متجسساً بفضوله إلا الوقوف عند أسهل الأفكار مثالا. وأنت يا زارا تطمح إلى الإحاطة بالعلل وإلى نفوذ خفايا الأمور، فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعالياً حتى ترى ما فيك من كواكب متصاغرة في كل أفق دون أفقك الرفيع

أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظراً إلى الأعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها، تلك هي آخر هضبة اطمح إلى بلوغ قمتها)

بهذا كان يناجي زارا نفسه وهو يصعد المرتفع معللا بالتعاليم الصارمة ما في قلبه من جراح

وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه فوقف مبهوتاً واستغرق في صمت طويل، وكانت السماء لا تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب بارداً على الأكمة

وهتف زارا حزيناً: (لقد تبينت ما قُدّر عليَّ، وهاأنذا مستعد للأقدام فهذه آخر عزلة أقتحمها

سأنحدر إليك أيها البحر المظلم المنبسط عند أقدامي، أنت الليالي المفعمة بالأحزان، أنت القضاء والقدر أيها الخضم البعيد

إنني أقصد أرفع جبالي مقتحما أبعد أسفاري فعلي إذاً أن أهبط إلى مهاوٍ أبعد في أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى الآن

عليَّ أن أذهب من الأسى إلى أغوار ما رسبت في مثلها من قبل فاصل إلى قرارة ما في الأحزان من ظلمات. ذلك ما قدّر عليَّ فأنا على أهبة لاقتحامه

لقد تساءلت فيما مضى عن منشأ الجبال فعرفت أخيراً أنها نهدت من البحار كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها، فما يبلغ الأعلى مقامه إلا لانطلاقه من المقام الأدنى)

هكذا تكلم زارا وهو ماثل على قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع، ولكنه ما بلغ الشاطئ ووقف بين نتوءات صخوره حتى حل عليه التعب وتزايدت أشواقه فقال: (إن البحر هاجع أيضاً فعينه الوسنى تحدجني بلفتات غريبة وأنفاس الحرى تهب عليَّ. إنه مستغرق في أحلامه يتقلب مضطرباً على جافيات مسانده. إنني أستمع لهديره كأنه يئن بتذكارات مفجعات، وقد يكون هذا الهدير نذيراً بالشؤم آتي الزمان

إنني أشاطرك الأسى أيها المدى المظلم الوسيع، فأنا بسببك ناقم على نفسي أتمنى لو طالت يدي فأنقذك من أصفاد أحلامك)

وانتبه زارا فإذا هو يضحك ساخراً من ذاته فتمرمر وتساءل عما كان سيبلغ به حماسه إلى إطلاق إنشاده لتعزية البحار، وعما إذا كان سيستمر مضعضعاً في سكرة غرامه واستسلامه فقال: (لقد عرفتك في كل زمان يا زارا تقتحم الأمور الخطيرة بلا كلفة وبلا مبالاة، وقد رأيتك طوال حياتك تدغدغ الوحوش المفترسة فكان يكفيك منها أن تهتاج حبك بأنفاسها الحرى وبنعومة مخالبها لتجتذبك إليها

ليس من خطر اعظم من الحب يحدق بالمستغرق في عزلته فإن المنفرد يحب كل شيء يتنسم فيه الحياة؛ وما اعجب جنوني بالحب وتساهلي فيه)

هكذا تكلم زارا وقد عاد إلى الهزء بنفسه؛ غير انه تذكر من هجر من خلانه إليه أنه يسيء إليهم بتفكيره فيهم، فنقم على نفسه وانقلب من ضحكة إلى البكاء فسالت دموعه مريرة يتمازج فيها الغضب والشوق

فليكس فارس