انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 223/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 223/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 24 -

الفلسفة الصينية

العصر المنهجي

لم يكد حكم أسرة (تشو) ينتهي حوالي القرن السابع قبل المسيح حتى هوت بلاد الصين في أعمق أنواع الفوضى والاضطراب، وظلت ترزح تحت نير هذا التدهور السياسي والاقتصادي والأخلاقي نحو خمسة قرون. فلما ضيقت هذه الأزمة الاجتماعية الخناق وأحكمت الضغط، كان من الطبيعي أن تنفجر العقول الجبارة بعد أن استاءت الضمائر النبيلة؛ وكان من الطبيعي كذلك أن يحدث هذا الاستياء وذلك الانفجار آثاراً بارزة في الحياة الاجتماعية عامة، وفي الحياة العقلية بنوع خاص، وهذا هو الذي كان، إذ لم يكد ينتهي الثلث الأول من القرن السادس حتى كان كوكب تلك الشخصية البارزة الممتازة وهي شخصية (لاهو - تسيه) قد سطع في سماء الصين سطوعاً أعقبه انفجار ينبوع عبقرية أخرى فاقت الأولى عمقاً وسمواً، وتكاتفت وإياها على رفع الفلسفة الصينية إلى صفوف منتجات الأمم الراقية، تلك هي عبقرية (كونفيشيوس)

عرف (كونفيشيوس) (لاهو - تسيه) ولكنه لم يكن معه على وفاق في الآراء الفلسفية، بل كان وإياه على طرفي نقيض في أهم النظريات، إذ لم يكد (كونفيشيوس) ينضج ويعلن مذهبه حتى لاحظ الناس أن بين المذهبين خلافاً جوهرياً في القواعد الأساسية؛ ولم يكن هذا الخلاف حول عقيدة دينية أو رأي نظري، وإنما كان في الفلسفة العملية، لأنه نشأ من سؤال هام دعت إليه الحالة الاجتماعية في بلاد الصين، وهو: (ما هي الوسيلة الناجعة لإنقاذ البلاد من هذا التدهور؟) بينما كان (لاهو - تسيه) يرى أن التنسك والزهادة واحتقار الحياة العملية هي الوسيلة لهذا الإنقاذ المفتقد، كان (كونفيشيوس) يعلن أن الوسيلة الوحيدة لهذه النجاة هي العناية الفائقة بتنظيم الحياة العملية على أساس الخير الأخلاقي الذي ينتهي حتما إلى الصلاح الاجتماعي، وصرح أن الاهتمام بالعمران المنظم والقضاء على الرذائل التي تنخر في بناء صرحه هما وحدهما الكفيلان بإعادة الرفاهية والهدوء إلى الدولة، وقد كان من المفهوم بعد تأسيس هذا الخلاف أن يتسع البون بين هذين المذهبين في أكثر نظرياتهما الهامة، وهذا هو الذي حدث بالفعل

غير أنه ينبغي لنا أن نشير إلى أن محاولة حل هذه المشكلة ليست من مستحدثات هذين الفيلسوفين، وإنما هي محاولة قديمة ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ؛ غاية ما هنالك أن ذلك الخلاف كان في الماضي نظرياً فحسب، لأن البلاد لم تكن قد هوت بعد في هذا التدهور، أما في هذا العصر فقد أضحت هذه المشكلة عملية يجب الاعتناء بها

الآن وبعد أن ألمعنا إلى هذين الفيلسوفين هذه الالماعة العاجلة نريد أن نتناولهما في شيء من التفصيل بادئين بأولهما

لاهو - تسيه

حياته

ليست هذه الكلمة اسمه ولا اسم أسرته، وإنما معناها: (الأستاذ القديم) أو (العالم القديم) أو (الحكيم القديم)؛ أما اسمه الحقيقي، فهو (بي - يانج)، واسم أسرته (لي) وقد دعاه الناس بعد موته: (تان)، وهو لقب مشرف كان الصينيون يطلقونه على الحكماء بعد موتهم

ولد هذا الحكيم في سنة 604 قبل المسيح في قرية (كيو - جين) بمملكة (تشو) التي هي الآن في مقاطعة (أونان) وكل ما يعرفه التاريخ الصحيح عن حياته هو ما يحدثنا به (سي - ما - تسيان) أقدم مؤرخ صيني من أنه أمضى الأكثرية الغالبة من حياته في (تشو). وفي أواخر حياته عين مديراً لدار المحفوظات الملكية، ولكن أحداً لا يعرف ما هي الوظائف التي شغلها هذا الحكيم قبل هذه الإدارة ولا كم سنة قضاها فيها، وإنما روى لنا هذا المؤرخ انه حينما تقدمت به السن اعتزل الخدمة في الحكومة، وانسحب إلى وادي (هان - كو) حيث اعتزل الناس جميعاً وظل فيه عاكفاً على تأملاته الفلسفية أميناً لمبادئه الأخلاقية. وفي أثناء هذه العزلة جاءه (بين - سي) وهو أحد اخصاء تلاميذه الأوفياء وألح عليه قائلا: (من حيث إنك أردت أن تدفن نفسك في هذه العزلة الموحشة، فأنا أتوسل إليك أن تؤلف كتاباً لتؤدبني به) فلم يسع هذا الحكيم بازاء ذلك الرجاء الجار الملح إلا أن يجيب تلميذه إلى سؤله، فألف كتاب (تاو - تي - كينج) وعلى اثر فراغه من كتابته غادر ذلك الوادي الذي عرفه الناس فيه وانسحب إلى حيث لم يره بعد ذلك أحد

وقد حدثنا (سي - ما - تسيان) أيضاً أنه أعقب بعده ابناً يسمى (تسونج) صار بعد أبيه من عظماء الدولة؛ وكان قائداً كبيراً من قواد جيوشها، وأن مشاهير رجال المملكة الذين لعبوا أهم الأدوار السياسية والاجتماعية فيها كانوا من ذريته

أما الأساطير الشعبية فقد أحاطت هذا الحكيم بغابة كثيفة من الروايات والحوادث التي ثبتت الاستحالة الزمنية في بعضها، وتحقق الاستبعاد في بعضها الأخر، كما أنه قد غلبت الحقيقة على البعض الثالث. فمن هذه الأساطير ما يحدثنا عن تلك المقابلة الهامة التي حدثت في سنة 525 قبل المسيح بين (لاهو - تسيه) و (كونفيشيوس) وما دار فيها من محاورات بين الحكيم والشيخ الهادئ الواثق مما يقول، وبين العبقري الشاب المتحمس المفعم بالآمال العذبة في المستقبل المنير

تحدثنا هذه الأسطورة أن الشيخ أعلن في حديثه أن إصلاح الحياة الاجتماعية بوساطة النشاط العملي مستحيل، وأنه لا يتيسر إلا بوساطة التنسك والزهادة والاعتزال، وانه لم يقل بهذا الرأي إلا بعد تجارب طويلة استغرقت سبعين سنة، وأن (كونفيشيوس) حينما سمع من الحكيم الشيخ هذا الرأي، لم يتردد في الحكم عليه بأنه خاطئ باطل، وبأن نتيجته هي الخمول واليأس؛ ثم سأله قائلاً: (إذا كان واجب كل فرد من أفراد الدولة أن ينسحب في كهف من الكهوف، فمن ذا الذي يعمر المدن، ويفلح الأرض وينشئ الصناعات، ويديم النوع البشري على سطح الأرض؟ وإذا كان هذا الاعتزال من واجب الحكماء فحسب، فمن ذا الذي سيربي الإنسان ويؤدبه ويصون الفضيلة والأخلاق؟)

وتحدثنا هذه الأسطورة أيضاً أن المقابلة بين هذين الحكيمين كانت من أجل هذا الخلاف فاترة، وان سوء التفاهم قد ساد بينهما على اثر هذه المحاورة. ويعلق أحد (المستصينيين) على هذا النبأ بقوله: (ما دام قد ثبت تاريخياً أن (لاهو - تسيه) كان مديراً لدار المحفوظات في مدينة (لو) في نفس التاريخ الذي زار فيه (كونفيشوس) هذه العاصمة، بل إنه قد ثبت أنه زار دار المحفوظات نفسها وطلب الاطلاع على بعض ما فيها من وثائق قديمة كانت دراسته في حاجة إليها، أفليست هذه الظروف كلها تدعونا إلى تصديق الأسطورة لاسيما إذا كان ما حدثتنا عنه من خلاف صحيحاً صحة علمية؟)

ومن هذه الأساطير أيضاً ما يروى لنا أن (لاهو - تسيه) بعد أن اعتزل الخدمة ارتحل إلى بلاد الهند واخذ ينشر تعاليمه هناك، وقد تلاقى مع (بوذا) فتتلمذ هذا الخير عليه، وتلقى عنه تلك المعارف الصينية القيمة التي كانت فيما بعد أساساً لمذهبه

ويستبعد الأستاذ (زانكير) صحة هذه الأسطورة، لأن (بوذا) لم يولد بعد هذا الحكيم بمائة وخمسة وعشرين عاما؛ وإذا صح سفره إلى الهند، فلا يمكن أن يصح لقاؤه مع شخص بقى على مولده خمس وأربعون سنة، فضلا عن نشأته واستعداده لتلقي العلم؛ فإذا أضفنا إلى هذا أن حكيمنا لم يعتزل الخدمة إلا بعد بلوغه سن الثمانين استطعنا في سهولة أن نجزم باستبعاد صحة هذه الأسطورة

هناك أسطورة ثالثة تنبئنا بأن هذا الحكيم قد كتب ألف كتاب، منها تسعمائة وثلاثون في شرح فن الحياة العملية والأخلاق والسلوك والمعاملات الإنسانية، والسبعون كتاباً الباقية في السحر، وعلى الأخص في صنع التمائم التي يجلب حملها السعادة للأحياء

لا ريب أن هذه الأسطورة لا تقل عن سابقتها بطلانا، لأن هذا الحكيم لم يثبت عنه أنه كتب غير كتاب (تاو - تي - كينج) الذي أشرنا إليه آنفا، والذي خصصه لتسجيل مذهبه الفلسفي. بل إن النقاد المحدثين يجزمون بأن هذا الكتاب على حالته الراهنة ليس من تأليف (لاهو - تسيه) وإنما هو مجموعة من آرائه وحكمه مضافاً إليها آراء وحكم لبعض القدماء الذين سبقوا عصر هذا الحكيم، ويرجحون أن هذا الكتاب قد كتب بعدة أقلام مختلفة، بعضها لتلاميذ هذا الحكيم، والآخر لبعض المتمذهبين بمذهبه

مذهبه

اختلف الباحثون المحدثون في المذهب النظري لهذا الحكيم اختلافات شتى جعلت اليقين عسيراً على كل من يحاول الحكم على هذه الفلسفة (اللاهو - تسية) والسبب في وقوع كل هذه الاختلافات بين العلماء هو صعوبة معنى كلمة (تاو) التي اتخذها هذا الحكيم عنواناً لكتابه؛ ولكن ليس معنى هذا أن تلك الكلمة كانت في الأصل غامضة أو عويصة؛ كلا، فقد مرت بنا في عصر ما قبل التاريخ وعرفنا أن معناها إما (الصراط السوي) وإما (واجب الإنسان) أو (الفضيلة العليا) أو (الغاية المثلى) ولكن الصعوبة حدثت من المعنى الجديد الذي أسبغه حكيمنا على هذه الكلمة حين اختارها عنواناً لكتابه الفلسفي ولم يصرح في تحديده بكلمة قاطعة؛ بل ترك الباحثين يستنتجون هذا المعنى الحديث من المشاكل التي درست في هذا الكتاب؛ فلما عالج العلماء الأوربيون هذا البحث ذهب كل منهم مذهباً يناقض مذهب الآخر؛ بل إن بعضهم ألقى سلاحه بازاء هذا العنوان وانسحب من الميدان؛ ومن هذا القسم الأخير المسيو (دينيس سورا) الذي أعلن أن هذه الكلمة غير مفهومة. وإذاً فالمذهب النظري لهذا الحكيم غير مفهوم. أما الأستاذ (زانكير) فقد أفاض في شرح هذه الكلمة وتعقب مراميها المختلفة تعقيباً يروي غلة الباحث الشغوف. وخلاصة ما قاله في هذا الشأن أن هذه الكلمة تحمل من المعاني ما لا يمكن أن يؤدى بلفظة أوربية. ولهذا يكون خاطئاً كل من حاول ترجمتها بكلمة واحدة من لغاتنا الحديثة، بل الواجب ترجمتها بجملة طويلة أو بعدة كلمات، فمن معانيها مثلا: الروح الأزلي المشتمل على جميع القوى الحيوية، والكائن النقي، والجوهر الأساسي لكل موجود، والحياة الحقة لكل كائن، والمدبر العام للكون كله، وفوق ذلك كله فهذه الكلمة قد احتفظت بمعانيها القديمة التي كانت له في عصر ما قبل التاريخ، وهي: الصراط السوي، والفضيلة، والواجب، والغاية، والتطور، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا التطور ليس إلا أثراً ظاهراً لهذه القوة، أما هي نفسها فثابتة لا تتغير

واكثر من هذا أن (لاهو - تسيه) يصرح بأن (تاو) هو الـ (في ذاته)، بل هو الكائن الغير القابل لِمُدْرِكِيَّة العقل البشري، لأن أي كائن متى حصره التفكير الإنساني ووضع له اسماً مُحدِّداً، فقِد فَقَدَ نقاءه ولا نهائيته

ولا شك أن من يلقي نظرة عاجلة على المدرسة الأفلاطونية الحديثة ويستعرض ما قاله (أفلوطين) عن الإله يجد الشبه عظيماً بينه وبين هذا الرأي

(يتبع)

محمد غلاب