مجلة الرسالة/العدد 220/تطور علم الكلام في رسالة إنقاذ البشر من الجبر
مجلة الرسالة/العدد 220/تطور علم الكلام في رسالة إنقاذ البشر من الجبر
والقدر
للأستاذ محمد علي كمال الدين
من آثار الماضين المطمورة في الخزائن رسالة (إنقاذ البشر من الجبر والقدر) للشريف المرتضى المتوفى سنة 436هـ. قام بنشرها وطبعها الشاب الفاضل علي الخاقاني النجفي عضو منتدى النشر فيها.
لم تقتصر هذه الرسالة على طلاوة الحديث وسهولة الأسلوب فقط، بل استهلت بمقدمة وجيزة متقنة الترتيب والتنسيق والتأليف، عرضت لتاريخ تطور علم الكلام لم نجد لها مثيلاً في مطولات الكتب. ويدرك الباحث قيمة هذه المقدمة عند مقارنتها مع مقدمة مختصر كتاب الفرق بين الفرق؛ فقد كان المؤلفان متعاصرين فضلاً عن أن لهما سبقاً في التأليف على معظم مؤلفي الكتب المتداولة اليوم في مثل هذه الموضوعات.
لقد قارنا بين المقدمتين فوجدنا شبهاً بين مسلكي المؤلفين، ولو أن بين موضوعي الكتابين فرقاً ظاهراً. أما وجه الشبه فإن كلتا المقدمتين تبحثان عما جد من نقط الخلاف بين المسلمين. وأما وجه الافتراق فأن مقدمة مختصر كتاب الفرق بين الفرق لم توضح العوامل النفسية والاجتماعية الداعية لهذا الاختلاف، وأنها لم ترنا نظرية جديدة في أسباب هذه الحركة الفكرية؛ أضف إلى ذلك أنها قرنت نظرية الاستطاعة مع نظرية القدر في حين أن هذا الاقتران لا يصح منطقياً إلا على رأي القائل: إن القدر مرادف للجبر، وهو خلاف رأي ذلك المؤلف نفسه؛ فإن بحث الاستطاعة وتقدمها وتأخرها عن الفعل إنما حدث بين علماء الجبر أنفسهم، فكأنما المؤلف غفل عن التطور الفكري والظروف والمدارج العقلية التي يمكن للنظريات أن تحل أو تخلق فيها؛ في حين أن مقدمة المرتضى كما ستراها علمية فنية، فقد بدأت في نظرية نسبة المعاصي ونفيها عن الله، ثم أعقبت ذلك بنظرية العدل فنظرية الاعتزال يعني المنزلة بين المنزلتين، وتلاها بنظرية القدر ويعني بها الجبر؛ على أنه راعى في ذلك كله العوامل النفسية والاجتماعية المباشرة لخلق مثل هذه النظريات التي جاءت مرتبة بعضها وراء بعض فكان منها علم الكلام
وهذا هو الذي دعاني إلى العناية بدراسة هذه المقدمة وإلى تحليلها فلعلنا نستنتج تاريخ الكلام وتطور نظرياته. قال الشريف:
(واعلم أن أول حالة ظهر فيها علم الكلام وشاع بين الناس في هذه الشريعة هو أن جماعة ظهر منهم القول بإضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه، وكان الحسن ابن أبي الحسين البصري ممن نفى ذلك ووافقه في زمانه خلق كثير من العلماء كلهم ينكرون أن تكون معاصي العباد من الله، منهم محمد الجهني وأبو الأسود الدؤلي ومطرف ابن عبد الله ووهب ابن منبه وقتادة وعمر ابن دينار ومكحول الشامي وغيلان وجماعة كثيرة لا تحصى؛ ولم يك ما وقع من الخلاف يومئذٍ يتجاوز باب إضافة معاصي العباد إلى الله سبحانه ونفيها عنه وغيره من هذا الباب)
فأنت ترى أن الشريف بدأ مقدمته ببحث نفسي علمي عن الحالة التي ظهر فيها علم الكلام وهو وإن لم يصور في المقدمة تلك الحالة بوضوح وجلاء إلا أن تحليلها العلمي يكشف لنا عنها، فقد درج فيها مثلاً جماعة من أكابر التابعين ممن تصدوا لنفي ذلك القول؛ ومن تصدي مثل هؤلاء العلماء تتجلى لنا أهمية هذا القول وقيمة القائلين به ومبلغ تأثيرهم وتأثيره في أفكار الناس، كما أن وجود أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ بين هؤلاء الجماعة النافين، وهو المعروف بعلمه ومكانته، يدل دلالة صريحة على أن البدء في هذا القول لا يعدو هذا التاريخ، أي لا يعدو سنة 69 كما يدل على وجود رأي خاص بعلماء النفي. فنحن الآن نبحث نقطتين إحداهما العوامل التي كونت ذلك القول، وثانيتهما علماء النفي ورأيهم وكيفية تكون هذا الرأي.
(1) عوامل نسبة المعاصي إلى الله.
أما الحالة والعوامل النفسية التي دفعت إلى هذا القول فيمكن استنتاج رأي الشريف فيها من موضوع البحث نفسه. بحث المعاصي، فإنه من الواضح أن العرف والعادة يقضيان باستحالة ظهور هذا البحث فجأة وبدون أسباب، في حين أن الذي كان عليه المسلمون ونشئوا عليه هو الطاعة طاعة الله ورسوله التي تجلت أسبابها في عهد النبي والصحابة. فهل يمكن تغيير اتجاه الأمة فجأة، من هذا التوغل في الطاعة إلى البحث في المعاصي دون أن تجد عوامل اجتماعية وروحية مما تدفع إلى هذا التغير.
والسيد المرتضى لم يساعده الإيجاز في مقدمته على بيان عوامل البحث في المعاصي، وربما كان معتمداً على فهم القارئ واستنتاجه فإن الباحث إذا رجع إلى الأحداث التاريخية قبل سنة 69 يجد أنها بدأت في مقتل عثمان وثنت بوقعة الجمل وحروب صفين، وناهيك بمفعول هذه الأحداث وعظيم أثرها على الفطرة العربية والإيمان المتغلغل، فكان أن تمخضت عن خروج الخوارج المتصلبين في نظرياتهم الدينية والذين لم يكتف بعضهم بتخطئة علي ومعاوية وأصحابهما بل يريدون من الناس أن يحكموا بكفرهم وكفر من ناصرهما. وهذه الأحداث هي التي كونت نظريتهم في تكفير مرتكب الكبيرة وهي كما ترى عين نظرية المعاصي المبحوث عنها غير أنها توسعت بنسبة هذه المعاصي إلى الله.
وهنا يجد السؤال: كيف ومتى توسعت نظرية تكفير ذوي المعاصي فشملت إضافة هذه معاصي العباد إلى الله تعالى؟ وبتعبير أوضح كيف تطور الموضوع من إيجابي لدى فريق إلى سلبي لدى فريق آخر، ومن تكفير مطلق إلى تبرئة مطلقة، في حين أن طبائع الجماعات والأحزاب المتطاحنة تسترسل بالطعن بعضها في بعض بإصرار وشدة. وإن رأت الاعتدال فإنما يكون بالإعراض والإغفال لا في التبرئة، فإن من المعلوم أن نسبة عصيان العبد إلى ربه تستلزم نقض ذلك التكفير وتخفيف وطأته، وذلك يستحيل تحقيقه عقيب تلك الأحداث الدموية أي عقيب سنة 40، نعم يمكن أن يتكون من إصرار الخوارج على التكفير ومن حركاتهم الطفيفة ضد معاوية والعنيفة ضد ابن الزبير، ومن تفاقمها ضد عبد الملك وعامله الحجاج يمكن أن يتكون من جميع ذلك عوامل لتهيئة نفسية الأمة في تكوين جماعة ذات رأي في تبرئة الصحابة بقصد مناضلة الخوارج، والوقوف ضد تيارهم كما أن الأحداث التي قام بها يزيد بن معاوية والتي فتنت الناس في دينهم ولطخت ثيابهم بدم الحسين وبدماء أهل المدينة، وأيضاً حصار مكة المكرمة من قبل الحجاج لا بد أنها ولدت في نفوس الناس الشك والحيرة في العاقبة وسوء المنقلب، فمن الجائز أنهم لجئوا إلى وسيلة تبرئة الصحابة والتابعين كيما يحصلوا هم على هذه التبرئة ضمناً فنسبوا معاصي العباد إلى الله. ونحن نرى أن نشوء فئة تبرئ الأحزاب وتصحح أعمالها وأغلاطها لا يحصل عادة إلا بعد استقرار الوضع السياسي واطمئنان النفوس، وأيضاً بمعونة جيل جديد ينضم إلى بقايا تلك الأحزاب؛ فمن هذا النشء الجديد ومن أولئك البقية الذين كانوا شباناً عند تلك الحروب والفتن الداخلية التي انغمسوا فيها مسبوقين غير مختارين؛ فمن هؤلاء وأولئك يجوز أن تتكون فئة مختلطة تفكر أو تعتقد بتبرئة السلف - وبتعبير آخر يمكن أن يحدث على عهدها مثل هذه النظرية التي خلقها التطور الفكري - والسيد المرتضى وإن اكتفى بذكر النظرية عن تحديد وقتها أو تعيين الجيل الذي اعتنقها فإني أرى أن خير جيل وأفضل وقت يمكن أن تتجلى فيه نظرية نسبة عصيان العبد إلى الله هي المدة بين سنة 60 و 69 مراعين في ذلك سنن الاجتماع ومدى تطور عقلية الجماعة.
وإجمال القول أننا جعلنا التسعة والعشرين عاماً بين سنة 40 و 69 هي المدة التي تطورت فيها النظرية من قضية بسيطة إلى قضية مركبة، أو من دور الشعور بها فالتفكير، إلى دور نضوجها وبروزها نظرية ثم معتقداً، ذلك المعتقد الذي اضطر أبا الأسود الدؤلي وإخوانه التابعين إلى إنكاره. ومن الأدلة على صحة رأينا هذا هو المكانة العلمية التي كان عليها الحسن البصري كما يظهر من قول المرتضي (وكان الحسن بن أبي الحسين البصري ممن نفى ذلك) فإنك تعلم أن مثل هذه المكانة لا يبلغها إلا من قارب عمره 39 عاماً وقد كانت ولادة البصري سنة 30 هـ وعليه لا بد وأن تكون المدة من 60 إلى 69 هي القدر المتناسب لخلق نظرية نسبة المعاصي لله.
(2) علماء النفي ورأيهم:
أما علماء النفي فيظهر لنا من المقدمة أن المرتضي يرى أنهم جمع غفير من السلف الصالح فإنه بعد ما ذكر سلسلة صالحة من التابعين ألحقها بقوله: مع جماعة كثيرة لا تحصى. والمنطق يحكم في ذلك. فإن سواد الأمة ورجال العمل فيها مسوقين طبعاً لرفض نسبة معاصي العباد إلى الله، ذلك القول الذي ينفر منه الحس ولا يقبله العرف فقد عسر على فهم الناس الإذعان بأن الكفر والفسق وسائر الإجرام التي يرتكبها العصاة عادة - تنسب إلى الله وهو في الوقت نفسه العادل الرؤوف الرحيم. فكان رأي هؤلاء القول بالعدل وأنهم ينفون أن تنسب معاصي العباد إلى الله.
ويضيف المرتضي إلى ذلك أنه لم يكن في ذلك الدور الذي حصرناه بين 60 و 69 غير بحث المعاصي نفياً وإثباتاً.
فإن قيل إن النقطة الأولى أعني البحث في نسبة المعاصي لله يؤول إلى القول بالقدر الذي هو بمعنى الجبر على رأي المرتضي، وأيضاً النقطة الثانية أعني البحث في نفيها عنه بنسبتها إلى الإنسان تؤول إلى القول بالاختيار وهو الذي يدعوه المرتضي العدل. قلت: ولكن هذا المآل لا يتحقق فعلاً قبل تفهم الأمة حقيقة بواعثه نفسها وقتلها بحثاً ودرساً ثم تطبيقاً، ومن الجائز تحقق ذلك وتحقق هذا المآل ولكن بعد سنة (69) أي بعد تقادم نظرية نسبة المعاصي ونفيها، وأيضاً بعد مرور زمن يتناسب مع مدى تقدم عقلية الأمة، وعليه فيكون عهد نظرية القدر ونظرية الاختيار متأخراً كما قال المرتضي بعد عهد طويل.
ولا يذهبن بنا الظن إلى أن معنى تأخر هاتين النظريتين أنهما لم تخطرا ببال أحد ولم يعرض لهما الكتاب والسنة والأحاديث مطلقاً، فقد عرض الكتاب في مختلف الموارد إلى القدر والاختيار تصريحاً وتلميحاً وكناية، وكذلك الحديث؛ غير أنا لا نرى أن ذلك يستلزم أن تصبح علماً مفرداً لدى الناس إذ ليس كل ما يعرض له الكتاب والسنة يتفهم الناس نظرياته العلمية فعلاً، فقد جاء أن الكتاب يحوي بين دفتيه علوماً لم تكتشف بعد. ولذلك رأينا الشريف المرتضي قد خطأ القائلين أن القدر أول موضوع في علم الكلام فقال: ولم يك ما وقع من الخلاف حينئذٍ يتجاوز باب نسبة معاصي العباد إلى الله ونفيها عنه. ومن هنا نعرف أن رأي المرتضي لا يتفق مع رأي القائلين بأن معبد الجهني وغيلان الدمشقي هما أول القائلين بالقدر وإنما يرى فيهما كما عرفت في أنهما يقولان بنفي معاصي العباد عن الله وهي النظرية العدلية. وخلاصة رأي المرتضي كما يأتي:
(1) إن أولى النظريات في علم الكلام الإسلامي هي نظرية نسبة المعاصي إلى الله
(2) ثانيتهما النظرية العدلية وهي رأي علماء النفي
(3) يستنتج أن عام 60 - 69 هو أعلى حد يمكن أن يكون مبتدأ لتاريخ علم الكلام؛ وذلك لأنا ضبطنا الأرقام على أساس تاريخ وفاة العلماء أي على أخس المقدمات. ومن هنا يعرف القارئ أن تاريخ علم الكلام يجوز أن يتقدم على سنة 60 ولا يمكن أن يتأخر عن سنة 69، وهكذا الشأن في جميع أرقام بحثنا التالية فيجوز عليها التقدم ولا يجوز التأخر وسيتجلى رأي المرتضى أكثر في أجزاء المقدمة التالية قال:
(بيان القدرة والمقدور وما أشبهه. فأما الكلام في خلق أفعال العباد في الاستطاعة وفيما اتصل بذلك وشاكله فإنما حدث بعد دهر طويل، ويقال إن أول من حفظ عنه القول بخلق أفاعيل العباد جهم بن صفوان فإنه زعم أن ما يكون في العبد من كفر وإيمان ومعصية فالله فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحيويته، وأنه لا فعل للعبد في شيء من ذلك ولا صنع، والله تعالى صانعه، وإن لله تعالى أن يعذبه في ذلك على ما يشاء ويثيبه على ما يشاء. وحكى عنه علماء التوحيد أنه يقول مع ذلك إن الله خلق في العبد قوة بها كان فعله، كما خلق غذاء يكون به قوام بدنه، ولا يجعل العبد كيف يصرف حاله فاعلاً لشيء على حقيقة، فاستبشع من قوله أهل العدل وأنكروه مع أشياء أخرى حكيت عنه. ولما أحدث جهم القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان يقول بالعدل فانتفت عنه المعتزلة واطرحته، فخلط عند ذلك تخليطاً كثيراً وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم وخرج عما كان عليه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بعد ما كان يعتقد فيهما من العلم وصحة الرأي لأنه كان في الأول على رأيهما وأخذ عنهما)
(لها بقية)
(العراق - النجف)
محمد علي كمال الدين