مجلة الرسالة/العدد 22/نوبل
مجلة الرسالة/العدد 22/نوبل
للدكتور أحمد زكي
في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي أحتفل القوم بمرور مائة عام على ميلاد (الفريد برناد نوبي) وما كان العالم في حاجة إلى التذكير بميلاد نوبيل أو بموته فذكراه تتجدد كل عام. تجددها تلك الجوائز السنوية الخمس التي تحمل أسمه والتي أنشأها عند وفاته عام 1896 ووقف عليها ريع ثروته الهائلة. وقد يبلغ الخمسين ألفا من الجنيهات في السنة الواحدة. قال نوبيل في وصيته. . ويقسم هذا الريع هكذا: نصيب للفرد الذي يأتي بأخطر استكشاف في الفيزياء، ونصيب للفرد الذي يأتي بأخطر ابتداع في الكيمياء أو بتجديد خطير لابتداع قديم، ونصيب للفرد الذي يأتي بأكبر جديد في الطب أو في الفسلجة ونصيب للفرد الذي ينتج في عالم الأدب أجل نتاج على أن ينحو فيه صاحبه منحي الادياليين والنصيب الخامس والأخير للشخص الذي زاد أكثر من غيره في إخاء الأمم، وجاهد في أكثر من سواه في إلغاء الجيوش أو في إنقاصها وفي جميع المؤتمرات وزيادتها تحقيقا للسلام. . وأني أعلن رغبتي الصريحة في ألا تكون لجنسية المترشحين أي اعتبار مهما قل عند القرار يمنح هذه الجوائز).
هذا نوبل كما يتراءى في وصيته: رجل حباه الله الثروة الواسعة، ومنحه العقل الذي يدرك به خطر العلوم الطبيعية في تقدم الإنسان واسعاده. ووهبه قلب الشاعر الذي يزهد في صور الكون الواقعة، وحقائقه الراهنة، لقبحها ولنقصها، ويستلذ صورا من خلق الخيال لا حقيقة لها، لأنها تمثل الكون على ما يجب أن يكون، والإنسان على أتم حال من جمال ونيل، والأشياء على أكمل اتساق وانتظام، فالنتاج الأدبي الذي يجيز عليه يجب أن يكون ادياليا كماليا لا حقيقيا واقعيا، واتسع هذا القلب حتى وسع الأمم جمعاء فخشى عليها مهالك القتال وأشفق عليها من متالف الحروب.
أما نويل قبل الوصاة، نويل القرن التاسع عشر فرجل عالم مهندس كيميائي، صرف مواهبه في استكشاف بوائق الحروب والتفنن في أساليب الموت وتشجيع القتال بأبحاثه حتى كفل للحكومات الحجة التي لا تدفع في فض الخصومات.
ولد نوبل في استكهولم عاصمة السويد عام 1833 وذهب أبوه به صغيرا إلى عاصمة روسيا حيث أنشأ معملا لصناعة الطوربيد، ثم عاد به إلى السويد وخلَّف أخاه الأكبر قوّاما على ذلك المعمل فوسعه ومدده. وفي السويد بدأ نوبل بدراسة الناسفات. وكان الوقت ملائما لهذا الدراسة، فأن النزاع بين الدول كان يشتد وأسباب الخصام تتكاثر، وزادت الريبة وأشكل المستقبل ورأت كل أمة خلاصها من الحرب في العدة للحرب. ومن الغريب أن العالم لم يكن يعرف ويألف من الناسفات إلى ذلك العصر غير البارود، وكانت الكيمياء الحديثة قد بدأت تشب. والتفاعلات الكيماوية تدرس فتعرف فكان من الطبيعي أن تتجه الأمم في تنافسها إلى الكيمياء علها تجد عندها سلاحا جديدا أمضى من الحديد، أو مرادفا أقوى وأفتك من البارود. فدرس الدارسون وأجتهد المستنبطون، تارة يستحثهم المجد، وتارة يغريهم المال، وتارة أخرى تلهبهم القومية وما تتضمنه من ضرورة في دفاع، أو إشباع لأطماع، فكشفوا في النصف الأخير من القرن الماضي عن طائفة من الناسفات طالعنا آثارها في الحروب التي تتابعت من ذلك العهد، رأينا فعلها وسمعنا دويها في الحرب الكبرى الأخيرة التي ذهبت ببضعة ملايين من بني الإنسان.
بدأ نوبل دراسته فوقع على مادة اسمها (النترو - جلسرين) وذلك عام 1864. وهذا المادة كان قد وقع عليها من قبله كيماوي آخر يدعى سبريرو عام 1846 وحضرها بأسترة الجلسرين وحامض الأزوتيك الا أنه لم يحقق ماهيتها ولم يدرك خطرها في النسف وشدتها عند الإلهاب والطرق. فاتجه نوبل إلى دراستها رجاء إحلالها محل البارود، وإلى تحضيرها جملة، وإلى تعرف أسباب الحيطة لتجنب أخطارها أثناء التجهيز. ونجح في كل هذا بعد أن أصابه من مخاطرها ما لا بد منه، فحضرها مادة مائعة ثقيلة تشبه الزيت، فبدأ يشيع استخدامها في المرافق الحربية والمدنية. وهي إذا تفرقعت استحالت فجأة إلى أحجام كبيرة من غازات أهمها غاز الكربونيك والازوت والأوكسجين وبخار الماء تزيدها حرارة التحلل تمددا. حسب نوبل مقدار ما ينبعث من غاز فوجد أن الحجم الواحد من الزيت يخرج 1200 حجم من الغاز، هذا باحتسابه في حرارة الجو العادية وتحت الضغط العادي، أما وهو في حرارة التفاعل فيبلغ ثمانية أضعاف ذلك. وعلى ذلك فهذا الزيت أقوى من البارود ثلاث عشرة مرة. إلا أنه لم يكن كالبارود لينطلق بسهولة. ومع هذا كان إحساسه عند الاصطدام كبير. ففكر نوبل ثم فكر، فخال أن يدس فيه شيئا قليلاً من البارود يصله بفتيل قابل للالتهاب يطيله كيف شاء، ثم يشعله فتسري فيه النار، حتى إذا وصلت إلى البارود في خزانته الصغيرةفانطلق بانطلاقه (النتروجلسرين). وهذه أول مرة عُرفت أطلق فيها ناسف يناسف، وهو احتيال لعب دوره الكبير في الناسفات، ولا يزال يلعبه كبيرا إلى وقتنا هذا، وبه أفلت (النتروجلسرين) من خيبة محققة، إلا أنه ما كاد يذيع حتى ذاعت بذيوعه فواجع ونكبات لوصول أيدٍ غير خبيرة إليه. وزاد في خطرة قوامه المائع ومظهره الرطب الهادئ، فطمأن اليه بلهاء نالوا منه حتوفهم. كان ينقل على عربات تجرّ، فذات مرة صرت العجل وصرّ فما كان من صاحبنا الحوذي الطيب القلب إلا أن شحمها بالزيت الذي يحمل. وكان الحطابون يزيتون به أحذيتهم ويدهنون به أعنة خيولهم، وبعد ذلك يحكونها ويلمعونها. وتكررت الحوادث وتتابعت انفجارات ذهبت إحداها بأخي نوبل، فسنت الحكومات القوانين بتحريم بضاعته، وثار حنق الجماهير على نوبل إذ تمثلوه رجلا لا قلب له يسعى لصالح نفسه، ويطلب المال مما فيه دمار الناس. عندئذ ضاعف نوبل جهده وحشده قواه ليؤمن الناس من شر تلك النكبات. فبحث عن جسم صلب مساميّ يمتص النتروجلسرين. وبعد تجارب عدة في هذا السبيل وجد أن (الكيزلجور) يمتص أكثر من سواه. والكيزلجور طفيل ذو مسام كثيرة، أصلة نباتات من الطحالب العائمة التي تعيش في البحار والأنهار على السواء ذات خلية واحدة متسلس جدارها، ماتت فرسيت هياكلها فتكونت منها طبقات كثيرة ُتستعدن الآن. وهي في الجلاء وفي أراض أخرى. فخلط نوبل سحيق هذا الطفل بثلاثة أمثاله من النتروجلسرين فتشربه وتكون منها خليط ناسف أسماه (الديناميت) كان أضعف من النتروجلسرين قوة ولكنه كان أكثر أتزانا منه وأقل حسا بالصدمات وآمن في النقل، فأطمئن الناس إليه وذاع أمره في البلاد شرقا وغربا.
الا أن هذه الرخاوة في مزاج الديناميت والهدوء في طبعه لم تعجبا نوبل (وساءه) أن يُحصِّل الأمن بإضاعة شدة الناسف ويشتري الطمأنينة ببيع شيء من قوة الانفجار، فقام لساعته ينقب عن مفجر جديد يجمع إلى شدة النتروجلسرين وأمن الديناميت، يشفع قوة الأول بطمأنينة الثاني، فخرج بعد الكد والصبر والتعرض للأخطار إلى مخلوق جديد أسماه (الجيلاتين الناسف) وهو مزيج من مادتين كلتاهما ناسفة، أولاهما (النتروجلسرين) وأخرهما (النتروسليولوز) وهو القطن بعد معالجته بحامض الازوتيك، ويتألف من خلطهما جسم كالفالوذج مظهرا، وهو الموت والدمار مخبرا.
وعالج نوبل هذا الفالوذج الجديد (بالسليولويد) أو (الطبخ) فوقع على مفجّر جديد أسماه (باليستيت) من خواصه أنه إذا انفجر لا يملأ الجو بالدخان، وهو من نوع الناسفات الشائعة في الجيوش اليوم. وكان قد أتصل بالحكومة الإنجليزية يعمل معها، فسجلت هذه الحكومة ناسفاً جديداً أسمته (كورديت) كان يشبه (الباليستيت) شبها قويا، فخاصم نوبل عليه وادعاه لنفسه واتفقا معا على رفع الأمر للقضاء والرضاء بما يقسم دون أن يعكر ذلك ما بينهما من صفاء، وكانت قضية فيها تعقد وفيها إبهام، وكان فيها للقضاة لا شك حيرة كبيرة، وأخيراً فازت الحكومة، فغرم نوبل ثلاثين ألفا من الجنيهات، فغاظة ذلك وترك في نفسه أعقابا.
أن الناسفات أداة للدمار السريع الشامل تنزل على البلد ذي الأهل الكثير والسكن المشيد فلا تترك فيه لا أهلا ولا سكنا، وتذهب في ساعات أو أيام بآثار للمدنية ظل المجهود الإنساني يعمل فيه القرون، آثار لا تقتصر على أبنية ضخمة، ومكاتب مشيدة، ودور للتحف مليئة، ومنشآت للصناعات وسيعة، بل تشمل أكبر أثر وأثمن خلف، ذلك الإنسان نفسه، تلك الجماجم البشرية التي تَطيح وبها تراث الأمم وثقافات الأجيال وودائع الدهور. والناسفات كذلك أداة للخير فقد أفادت الإنسان ونفعت العمارة والمدنية بتكسير الصخر وتفكيك الحجر وخرق الأنفاق وثقب الجبال وفي حفر القنوات حيث الأرض صلدة لا ينفع فيها عضل السواعد. والمقدار الذي يستنفد منها في ذلك أضعاف ما يستهلك في الحروب. والمنشآت الهندسية الكبرى كقناة بنما والسكة الحديدية الكبرى في أمريكا الشمالية التي تصل المحيط الأطلسي بالهادي، وبناؤها برغم الجبال العاتية التياعترضت بناءها، وغير ذلك من المستحدثات العالمية الخطيرة شواهد لا تنازع على ما أدت الناسفات من خدمات جليلة يرد نصيب كبير من الفضل فيها إلى نوبل.
استخدم نوبل في شبابه وكهولته رأس الشاب وحيلة الكهل في فك قيود عن قوى للطبيعة عاتية، ولعله رجا ان تكون وسيلة لمغالبة الطبيعة لا مغالبة الإنسان، ثم رأى حقيقة ما صنع شيخاً، وأحس خيبة ما أمل، فصرف أواخر أيامه في بث الدعوة إلى السلام، وتخيل فعلاً للأمم نظاما أشبه شيء بجامعة الأمم الحاضرة وقد ولدت بعد وفاته بربع قرن. وكأنما أراد أن يكفر عن الخراب الذي جاء الأمم على يديه في حياته، والخراب الذي خال أن يجيئها بما اقترف بعد مماته، فوقف كل ما جمع من صناعة الدمار لدره الدمار، فلنستقبل ذكراه معجبين منه برأس العالم المحتال، وقلب الإنسان النبيل.