مجلة الرسالة/العدد 219/في تاريخ الأدب المصري
مجلة الرسالة/العدد 219/في تاريخ الأدب المصري
أبن الصيرفي
أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الصرفي
مات بعد سنة 542
للأستاذ محمد كرد علي
كان أبن الصيرفي من كتاب الدولة الفاطمية، ومن عظماء المنشئين والمؤلفين من المصريين في عهده؛ جزل حظه من البلاغة والشعر والخط الجميل، وأخذ صناعة الترسل عن صاعد بن مفرج صاحب ديوان الجيش، ثم انتقل منه إلى ديوان الإنشاء وبه الحسين الزبدي ثم تفرد بالديوان. ولابن الصيرفي تصانيف تجعله فوق أقدار رؤساء الدواوين وكتاب الملوك والسلاطين، ومنها في الأدب والتاريخ الترسل كتاب (عمدة المحادثة) و (عقائل الفضائل) و (استنزال الرحمة) و (منائح القرائح) و (رد المظالم) و (لمح الملح) ومنها (الإشارة إلى من نال الوزارة) و (قانون ديوان الرسائل) وهذان الكتابان مطبوعان. وله غير ذلك من التصانيف منها اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج وأبي العلاء المعري وغيرهما. وله شعر جيد لكنه أشتهر بالكتابة. وقد ضمن كتابه الإشارة إلى من نال الوزارة ذكر من تقدم من سفراء الدولة ووزرائها وسلاطينها، ولم ير أن يتوسع إشباع الموضوع قائلاً: (إذا كان الاستقصاء لا يليق بكل تصنيف لاسيما إذا خدم به سلطان ينفق أوقاته في تدبير دولة وإقامة سنة واستضافة مملكة، وإذا بقيت من زمانه فضلة استعجل بها جزءاً من الراحة، يستعين به على ما يستأنفه من مهماته) بدأه بترجمة الوزير ابن كلس الآمري وإليه أهدى كتابه. وفي هذا الكتاب مثال واضح من سوء إدارة الفاطميين أخرياتِ أيامهم، وما توسعوا فيه من الألقاب، وما أوغلوا فيه من المصادرات، وما كان لهم وعليهم. وكان من لوازم الدعاء الذي يستعمله أبن الصيرفي في كل سجل ورسالة وتقليد وكتاب، بل يستعمله الإسماعيلية الفاطميون عامة أن يقال بعد الصلاة على النبي (وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)
وذكر في مقدمة قانون الرسائل ما ننقله بحرفه: (ولما رأيت أولى الفطر الصحيحة، والعقول الرجيحة، قد سبقوا إلى النظر في سائر العلوم، ووضعوا فيها المصنفات، ونظموا ذكرها في الكتب المؤلفات، ثم انتقلوا عن ذلك إلى قوانين الأشياء فقرروا في كل منها ما كان أصلاً يعتمد عليه، ونهوا عما كان فساداً لنظامها أو أدى إليه، وخالفوا بين أحكام تلك التصنيفات لاختلاف الأزمنة وتباين البلاد والأوقات، فوجدتهم قد صنفوا في كتابة الخراج كتباً كثيرة، وعُنوا بكتابة الجيش عناية كبيرة، فألف كل من العراقيين والمصريين في ذلك ما وصلت إليه طاقته واقتضاه ما أوجبه وقته والبلد الذي يحتله. فأما صناعة الشعر وذكر بديعه وسائر أنواعه وتقاسيمه، فقد أكثر كل منهم فيه المقال، وتوسع في تصنيفه وأطال، ورأيتهم أهملوا الكلام في الكتابة الجليلة قدراً، النبيهة ذكراً، الرفيعة شأناً، العلية مكاناً، التي هي كتابة حضرة الملك المشتملة على الإنشاء إلى ملوك الدول، والمكاتبة عنه إلى من قلّ من الأمم وجلّ، وكيف يجب أن يكون متوليها وما يخصه من الأخلاق والأدوات، وما يجب أن يكون فيه من الفضائل، وأن يجتنبه من القبائح والرذائل، وكيف ينبغي أن تكون أمور أتباعه ومعينيه، وأي الحالات ينبغي أن يكون عليها ديوانه الذي يتولاه وينظر فيه)
وكتاب قانون ديوان الرسائل درة نفيسة قدمه إلى الأفضل ابن أمير الجيوش وقال: (يجب أن يكون هذا الكتاب مخلداً في ديوان الرسائل يقتدي به كل من يخدم فيه، ويستضيء بهدايته ويحتذي أمثلته وأن يؤخذ المستخدمون في الديوان بفهمه وبحفظه) ثم قال: (ثم ينتفع بهذا الكتاب إذا جعل بحيث استقر مخزوناً بديوان الرسائل للقراءة فيه وتدبره كل من تصفحه أو يعمل بمقتضاه على مرور السنين وكرور الأحقاب والأعوام، فيكون كالمعلم لهم، والمهذب لأخلاقهم، والهادي لهم إلى سنن الصواب الذي قد درست معالمه وتنوسيت أحكامه)
ومما رأى أن يكون رئيس الديوان من المسلمين (ومع ذلك فيجب أن يكون متمذهباً بالمذهب الذي عليه الملك ليكون أنقى جيباً وأنصح غيباً، فان المسلمين وإن جمعتهم كلمة الإسلام، فقد أختص كل واحد منهم بمذهب يباين به بعضهم بعضاً، حتى حدث بذلك بينهم من التباعد والتنافر قريب مما بين المسلمين والمشركين) وعاد فأكد هذا المعنى في موضع آخر من أن الكاتب ينبغي أن يكون على دين الملك ومذهبه لكونه يكاتب الملوك المخالفة ملتهم ملة ملكه، وربما احتاج في مكاتباته إلى تفخيم ملة ملكه والاحتجاج لها وإقامة الدلائل على صحتها، ولن يحتج لملة من اعتقد خلافها، بل المخالف للملة إنما يبدو له مواضع الطعن ومواضع الحجاج، فان اعترض معترض بالصابي وأنه كان يكتب عن ملوك مسلمين وهو على غير ملتهم، فالجواب أنه كان من أهل ملة قليل أهلها، ليس لهم ذكر ولا مملكة، ولا لهم دولة قائمة، ولا منهم محارب لأهل الإسلام، ولا من يكاتِب ويكاتَب، ولا من يخشى من الكاتب الميل إليه، والانحراف معه. ثم إن المشهور من أحوال ذلك الكاتب أنه كان قد حفظ من ملة الإسلام وسنتها مما يحتاج إليه في كتابته ما لا يوجد عند كثير من المسلمين في زمانه، وكان في صناعته الغاية في وقته فقادت ملوك عصره الضرورة إليه، إذ لم يجدوا من المسلمين من يغني غناءه ولا ليسد مسده)
قال: (ومما يحتاج أن يفهمه هذا الكاتب أن يعرف الفرق بين مخاطبة الملوك الإسلامية وبين مخاطبة الملوك المخالفين للملة واللسان، لأن مخاطبة من يتكلم باللسان العربي مشهورة المقاصد معروفة الطرائق يستعمل فيها الأسجاع وتنميق الألفاظ وتحسينها وزخرفتها وترتيبها مع ضبط المعنى وحسن التأليف. وأما مكاتبة المخالفين للسان فإنه لا ينبغي أن يهتم فيها بالألفاظ المسجوعة، ولا ضرب الأمثال والتشبيهات والاستعارات، فإن ذلك إنما يستحسن ما دام مفهوماً في تلك اللغة وغير منقول إلى غيرها، وأكثر هذه الضروب إذا نقلت من لغة إلى لغة فسدت معانيها، وعاد حسنها قبيحاً؛ ومنها ما لا يفهم بعد نقله ببتة؛ ومنها ما إن فهم له معنى كان غير ما قصد، لا سيما إن كان الناقل لها مقصراً في اللغتين المنقول منها والمنقول إليها. وأرى أن الأفضل في هذا الباب أن يتولى هذا الكاتب نقل ما يكاتب به إن كان عارفاً بها فينقل ما يكتب به ويكتبه بخط أهل تلك اللغة ولسانهم، إما في ذيل الكتاب أو في كتاب طيه، لأنه قد لا يجد الملك الذي يصل إليه الكتاب ناقلاً ماهراً عالماً باللغتين، فربما أفسد الناقل المعنى فعاد الكتاب المصلح مفسداً فيبطل الغرض الذي قصد به. وهذا باب يجب صرف العناية إليه جداً، وليس يحتاج في مكاتبة أهل اللغات المخالفة بغير المعاني السديدة البريئة من الاستعارات، والكتابات الصائبة لمواضع الحجج التي تبقى جزاتها ونضارة معانيها وبهجتها مع النقل والترجمة.)
وذكر فصلاً في عمل من يستخدم خازناً لديوان الرسائل فقال: (ينبغي أن يؤخذ بجعل كل شيء من الرسائل مع شبهه، وجعل كل سنة على حدتها، ويجعل لكل شهر إضبارة، ولكل صفقة من الأعمال إضبارة وعليها بطاقة في مضمونها) قال: (وينبغي لهذا الخازن أن يحتفظ بجميع ما في هذا الديوان من الكتب الواردة. وينسخ الكتب الصادرة والتذاكير وخرائط المهمات، وضرائب الرسوم وغير ذلك مما فيه - احتفاظاً شديداً، ويكون بالغاً في الأمانة والثقة إلى الحد الذي لا مزيد عليه، فإن زمام كل شيء بيده؛ ومتى كان قليل الأمانة أمالته الرشوة إلى إخراج شيء من المكاتبات من الديوان، وتسليمه إلى من يكون عليه فيه ضرر أو لمن يأخذه نفع. وهذا أمر متى أعتمده الخازن أضر بالدولة ضرراً كثيراً من حيث لا يعلم الملك ولا أحد. ومن أحسن ما سمعته في أمانة خازن ما رواه علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة في كتابه المعروف بجواب المعنت في الخراج من أنه كانت تجمع الأعمال والحسابات بالعراق بعد كل ثلاث سنين إلى خزانة تعرف بالخزانة العظمى، وكان يتولى في وقته ذلك رجل يعرف بمحمد بن سليمان الكانجار. وكان شديد الأمانة بالغاً فيها إلى المبلغ الأقصى، وكان رزقه كل شهر خمسمائة درهم تكون بخمسين ديناراً من صرفهم ذلك؛ وكان لهذا الخازن خازن يعينه يقال له إبراهيم، فحدث إبراهيم أن رجلاً لقيه في بعض طرقه من أسباب أبي الوليد أحمد بن أبي دؤاد فقال له: هل لك في الغنى بقية عمرك وأعمار عقبك من بعدك من حيث لا يضرك؟ فقال: هذا لا يكون. فقال: بلى، في خزائنك دفتر في قراطيس أعرف موضعه من بعض الخزائن من رفوفها، وأسألك أن تنقله من ذلك الرف إلى رف غيره ولا تخرجه ولا تغيره وأحمل إليك مائة ألف درهم وأعطيك كتاب ضيعة تغل لك كل سنة ألف دينار وتخرج عن الديوان. قال: فارتعد من هول ما سمعه وقال: ليس يمكنني في هذا شيء إلا بأمر صاحبي، فقال له: فاعرض ذلك على صاحبك وأجعل هذا الشيء له ونجعل لك شيئاً آخر. فعرف محمد بن سليمان الخازن صاحبه بالخبر، وكان في منزله آخر نهار، فقال له: ماذا قلت للرجل؟ قال: قلت له إني أستأمرك، فأمر ابناً له وابن أخ بالتوكيل به، فلم يفارقاه طول ليلته، فلما أصبح صار معه إلى الديوان فوقفه على الدفتر، فأخذه محمد بن سليمان الخازن وحمله في قبائه ولم يزل يترقب علي بن حسين صاحب الديوان حتى حضر، فلما حضر صار إليه، وكان أبو الوليد في حبسه فقص عليه القصة، ودفع إليه الدفتر فنظر فيه فوجده نسخة كتاب من بعض النظار بما وقف عليه من فضل ما بين القوانين التي كانت تلزم ضياع أحمد بن أبي دؤاد وبين ما يلزمها على معاملة العامة لجميع السنين، أن جملته أكثر من ثلاثين ألف ألف درهم (ثلاثة ملايين دينار) فأحضر علي بن عيسى أبا الوليد وأسمعه كل غليظ على جلالة رتبته، وأمر بأخذ قلنسوته وأن يضرب بها رأسه ويطالب بالمال. فلولا أمانة هذا الخازن، ونزاهة نفسه وصدفها عن المال الذي بذل مع كثرته لرغب فيه، ولرأى أن لا شيء عليه في نقل دفتر من مكان إلى مكان، وهو في الخزانة لم يبرح منها، فيتوجه عليه بذلك ضرر، ولا خرج من يده فيظهر في يد غيره، ولا يعرف موضوعه فيطلب منه، ورأى وجوه السلامة واضحة، ونيل الغنى قريباً فكان يضيع على هذا السلطان ذلك المبلغ الكثير من المال)
محمد كرد علي