انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 219/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 219/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 09 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 21 -

الفلسفة الصينية

يلاحظ الباحثون أن لديهم مصادر لا بأس بها عن جميع الفلسفات الشرقية القديمة ما عدا الفلسفة الصينية فإنها ظلت إلى ما قبل هذه السنين الأخيرة مدروسة دراسة ناقصة، إذ لم يوفق قبل هذا العصر أحد لأن يكتب عنها كتاباً وافياً يعالج نواحي فلسفتها العميقة المتشعبة، ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الفلسفة ظلت مجهولة تماماً إلى أن ظهرت تلك البحوث الأخيرة، كلا، فهذه الفلسفة قد عرفت في العالم الأوربي المتمدين قبل الفلسفة الهندية مثلاً، إذ ترجم (كونفيشيوس) سنة 1687 و (مانسيوس) سنة 1711، ولكن الذي ظل ينقص الباحثين إلى هذا العهد الأخير هو الكتب الشاملة لجميع نواحي هذه الحياة العقلية القيمة؛ غير أن هذه الثغرة قد أخذت تضيق على أثر شعور العلماء المحدثين بوجوب استيفاء هذه الدراسة الهامة، ذلك الشعور الذي تجلى بوضوح في كتاب العالم الكبير والمُستَصْين الخطير (ا. ف. زانكير). ولا ريب أن هذا المؤلف وأمثاله قد كشفوا للعقل الحديث عن ناحية هامة من نواحي الفكر البشري كانت مجهولة لدى العامة، ومعروفة معرفة مشوهة لدى الخاصة. ولهذا الجهل أو التشويه ثلاث أسباب: الأول صعوبة اللغة الصينية إلى حد يصعب معه إتقانها واكتشاف أسرارها. الثاني فقدان الثقة نهائياً من جميع الترجمات التي نقلت النصوص الصينية إلى اللغات الأوربية لما وجد بينها من تباين واختلاف جديرين بإسقاطها كلها من صف الحقائق العلمية. السبب الثالث هو ذلك الغرور الأوربي المتعجرف الذي ظل إلى ما قبل هذه السنوات الأخيرة يجزم في طفولة بأن أول فلاسفة الدنيا هو (تاليس) وأن العقلية الشرقية - ولا سيما الجنس الأصفر - غير قادر البتة على أن تنتج آراء فلسفية ذات قيمة عالية، إلى غير ذلك من الدعاوى السطحية الت أنزلتها البحوث الأخيرة عن الفلسفة الصينية منزلة الخجل والسخرية، إذ كشفت الدراسات الحديثة عن أن للصين فلسفة عميقة مبتدعة جديرة بالاحترام يرجع تاريخها إلى عشرين قرناً قبل المسيح، وأنها استطاعت أن تلون الحياة العملية العامة للأمة جمعاء بلونها الراقي، وأنها استطاعت كذلك أن تحفظ الكيان الخلقي الكامل لهذه البلاد مدى أربعة آلاف سنة، بل إن بعض العلماء يعتقد أن الفضل في هذا التماسك الاجتماعي والمقاومة السياسية واحتفاظ الصين باستقلالها إلى الآن يرجع إلى تمسكها بالأخلاق العالية المسجلة في فلسفتها

على أن هذا لا يمنعنا من أن نعترف مع الأستاذ زانكير بأن الفلسفة الصينية لم تعرف علم النفس التجريبي على النحو الذي يدرس عليه الآن، وأن العقلية الصينية لم تعرف المناهج العلمية، بل وأنها لم تنجح تماماً في تأليف كتاب منظم متقن في علم المنطق وإن كان هذا كله يجب أن ينظر إليه بعين التحفظ والأحتياط، لأننا سنشير فيما بعد إلى المنطق الصيني، وسنبين بعض ما فيه من عمق وسمو كما أننا سنشير كذلك إلى ما لهم من مجهود لا بأس به في العلوم المختلفة الأخرى

غير أن أولئك العلماء الذين استهانوا بالفلسفة الصينية ورموها بالخلو من النظريات لهم في ذلك بعض العذر، وهو أنهم لاحظوا في جميع الأطوار التاريخية لهذه الأمة أن الفلسفة العملية هي التي تفوز بأهم الأدوار فخدعهم ذلك عن الفلسفة النظرية التي هي أساس كل هذه الأخلاق العملية. وفي الواقع أن من طلائع مميزات الأمة الصينية تحوُّل النظريات بسرعة إلى أخلاق عامة في الشعب كله، ولهذا قال (سوزوكي) الياباني ما نصه: (إذا كان الدين ممثلاً في اليهود، والتنسك في الهنود، والتفلسف في الإغريق، فإن الأخلاق هي الثقافة الروحية التي التقت في إمبراطورية الوسط بممثليها الحقيقيين وبنموها المنظم المحدود)

بلغت الأخلاق الصينية من السمو إلى حد أن يروي لنا الأستاذ (زانكير) أن المبشرين المسيحيين حين اتصلوا بالصينيين في القرن التاسع عشر ورأوا ما عندهم من أخلاق بهتوا خجلاً من عقيدتهم القديمة عن هذه الأمة ولم يجدوا لهم من هذه الورطة مخلصاً إلا أن يعلنوا أن الإله قد أوحى إلى الصينيين كما أوحى إلى الإسرائيليين، وأن (شانج - تي) ليس إلا الرب السماوي المذكور في الكتاب العبري المقدس، بل إن أحد (اليسوعيين) في القرن التاسع عشر اشتغل بجمع بعض النصوص الصينية، ليثبت منها هذا الوحي الإلهي، وإن عدداً كبيراً من القسس والعلماء قد حاولوا أن يربطوا بين التوارة وبين الكتب الصينية تارة في الأخلاق وتارة في أصول العقيدة، وثالثة في اللغة على نحو ما رأينا من التحككات اللفظية التي قام بها العلماء بين الفلسفتين: الهندية والفارسية. ويستطرد هذا العالم فيقول ما ملخصه: وقد ظلت الفلسفة الصينية مجهولة القيمة في وربا إلى القرن التاسع عشر، وهذا طبيعي، لأن الفلسفة التي تسمو فيها الأخلاق إلى هذا الحد لا يمكن أن تفهم حق الفهم في العصور التي - مع الأسف الشديد - لا تعني بالأخلاق كثيراً؛ ولكن العجيب في رأيه هو هذا التناقض البارز الذي وجد كثيراً في كتب (المُستصْيِنين) والذي أنزل أولئك الباحثين في نظر (زانكير) منزلة العوام والأميين كما يصرح بذلك بعد أن يسرد طائفة كبيرة من آرائهم المتضاربة المتناقضة ثم يسأل أولئك المتعاليين متهكماً فيقول: تقولون إن العقلية الصينية غير جديرة بالأحترام، لأنها لم تترك تراثاً علمياً، فهل تستطيعون أن تنبئوني متى عرفت أوروبا العلم؟ وهل كان لديها أقل فكرة قبل القرن السادس عشر عن العلم أو عن مناهجه الحديثة؟ وهل كل شعوب أوروبا لم تكن مستوية مع الصين في هذه النقطة تمام الاستواء إلى عهد النهضة؟

على أن هذه التهمة التي رموا بها العقلية الصينية هي باطلة من أساسها؛ فالصينيون قد عرفوا منذ أكثر من ثلاثين قرناً الرياضة والفلك إلى حد أم كان لهم فيهما بحوث قيمة تدور حول بعض معقدات فروع هذين العلمين مثل معرفة الفروق الدقيقة بين السنتين: الشمسية والقمرية، ومعرفة أوقات دورات هذه الأفلاك الثلاثة: الأرض والشمس والقمر بالنسبة إلى بعضها. وفوق ذلك فقد كانت لهم دراية عظيمة بالأدب ونقد النصوص والتاريخ والجغرافيا وتاريخ الفنون وعلم اللغات. كل هذه المواد كانت معروفة ومدروسة في الصين بدرجة من العناية لم تكن تبلغها أوروبا قبل القرن السادس عشر

أما العلوم الطبيعية فيكفي لإثبات نبوغهم فيها أن نلعن في فخر أنهم هم الذين اخترعوا البوصلة وأحجار المناظير ورواسم (كليشهات) الطباعة المصنوعة من الخشب، وأنهم عرفوا الورق والحرير و (البورسيلين) والطلاءات الثابتة وبرزوا في كل هذا على أوروبا قبل عصر النهضة نعم إن أوربا قد سبقت الصين في هذه العصور الحديثة، ولكن ذلك ليس معناه نقص العقلية الصينية أو عدم استعدادها للنبوغ في هذه العلوم، كلا، وإنما هو ناشئ من أن الصينيين لم يحتكوا بأوروبا احتكاكاً مباشراً متواصلاً، فلم ينلهم نصيب كبير من هذا النمو العلمي الحديث، ويدل على ذلك أن الشبان الصينيين الذين أخذوا بحظ من العلوم العصرية لم يكونوا أقل نبوغاً من شباب أي شعب آخر

ثم يعلق الأستاذ زانكير على هذا بقوله: والآن نعود إلى النقاش في مشكلة الفلسفة المنهجية فنسأل أولئك المتجنين على الصينيين: ماذا يقصدون بهذه العبارة؟ إن كانوا يريدون بها تطبيق مناهج العلوم التجريبية على الفلسفة، فنحن نوافقهم على أن الصينيين لم يعرفوا هذا الفن، ولكننا نعود فنهمس في آذانهم بأن أوروبا لم تنجح في هذه الطريقة إلى الحد الذي يبرز هذه الطنطنة، ويستدعي تلك الكبرياء. بل بالعكس إن أحدث الآراء الفلسفية المحترمة قد عدلت نهائياً عن هذه الفكرة، وآمنت بأن العلم قد عجز أن يكون أستاذ الفلسفة وملهمها، وأعلن استعداده إلى العودة من جديد إلى بنوتها والتتلمذ عليها، واعترف أن مناهجه الميكانيكية ليست إلا جزءاً من مناهج الفلسفة ابتدعته هي حينما ألجأتها الحاجة إلى دراسة المظاهر الخارجية التي لا تعرف إلا عن طريق هذه المناهج التجريبية. وأخيراً فهل سقراط وأفلاطون والقديس أوجستان والقديس توماس - ولم يعرف واحد منهم المنهج التجريبي - لم يكونوا فلاسفة في نظر أولئك المتجنين؟

نحسب أننا بعد هذا كله قد رسمنا لك صورة واضحة للفلسفة الصينية في شكلها العام، ولِمَا أصدر عليها الباحثون من أحكام متسرعة لم تلبث أن انهارت أمام النقد العصري النزيه

مصادرنا عن الفلسفة الصينية

يرى العلماء أن أهم مصادر فلسفة شعب من الشعوب هو الكتب التي سجلت فيها آراؤه الفكرية وأخلاقه العملية، وأن أصدق ما يحقق هذه الغاية عند الشعوب القديمة هي الكتب الدينية، لأن الدين والفلسفة توءمان في النفس البشرية لا يستطيع أحدهما أن يستغني عن الآخر، إذ لا تكاد العقيدة الدينية تستقر في النفس حتى توقظ التفكير الذي هو مبدأ الفلسفة، ولا تكاد الفلسفة تبدأ في مهمتها دون أن تفتتحها بالبحث عن الإله، وهو الجوهر الأساسي في العقائد. وإذن فنستطيع أن نجزم بأن الدين والفلسفة شقيقان مستقلان بدآ من مصدر واحد متجهين إلى غاية واحدة وإن اختلفت أثناء الطريق وسائلهما، بل قد يعظم هذا الاختلاف حتى يصل إلى درجة الخصومة كما حدث بين (أنا جزاجور) ورجال الدين في أتينا، أو بين الفلاسفة ورجال الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، ولكن الصينيين لحسن حظهم لم يعرفوا هذه المعارك الدامية التي شهدتها أوروبا المتمدينة بين الفلسفة والدين مراراً عدة، بل ظل العقل والدين عندهم في وئام وسلام يتعاونان تعاون الشقيقين على حل خفايا الكون ومشكلات الوجود.

لهذا كله كان من الطبيعي في الصين - أكثر منه في أي بلد آخر - أن نبحث عن مصادر الفلسفة بين صفحات الكتب الدينية وفي تقاليد الشعب وعاداته الشفهية، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذ اعتمد الباحثون العصريون في الفلسفة الصينية على ما يأتي:

(ا) العادات والتقاليد الدينية التي ظلت - بفضل العزلة - كما كانت منذ آلاف السنين، ولم تنل منها هذه العصور الطويلة كما نالت من تقاليد الشعوب الأخرى، والتي لا تزال قادرة على إعطائنا صورة أمينة لما كان عليه العقل الصيني منذ تلك العهود.

(ب) الكتب الدينية الخمسة المسماة: (وو - كينج) والتي يمكن أن تعد بين أقدم الكتب الإنسانية، ومع ذلك فلا يستطيع العالم الدقيق أن يطمئن إلى هذه الكتب كمصادر موثوق بها عن العصر الأول، إذ قد ثبت أن أكثرها كتبه (كونفيشيوس) ملخصاً بأسلوبه الخاص، ولهذا ينبغي للباحث الاحتياط من هذه الكتب كما يقول أحد العلماء الألمان، ولكن ليس معنى هذا أننا نتهم (كونفيشيوس) بتشويه هذه الكتب، كلا، ولكنه لما صرح بأنه لم يأت في مذهبه بجديد، وإنما أقر أنقى وأطهر ما كان في العقيدة القديمة، فقد خشي الباحثون المحدثون أن يكون قد ألغى من هذه الكتب كل ما ليس نقياً في نظره، وهذه خسارة علمية كبرى، لأن العالم يهمه أن يجد الآثار التاريخية بقضها وقضيضها، ليستطيع أن يستخلص منها الحقائق في حياد تام. وفوق ذلك فإن تلاميذ (كونفيشيوس) قد شرحوا هذه النصوص وعلقوا عليها، وربما يكونون قد حذفوا منها أو أضافوا إليها.

يوجد بين هذه الكتب الخمسة ثلاثة جديرة بالعناية، وهي: (شو - كينج)، و (شي - كينج) و (إي - كينج)؛ فأما (إي كينج) فهو أهم هذه الكتب من حيث تصوير الناحية العقلية للأمة، وقد حوى كثيراً من التطورات الفكرية المختلفة وهو لهذا يدعى: (كتاب التغير) وعليه أكثر من غيره يعتمد (المستصينون) في فهم الحياة الفلسفية لهذه الأمة، لأن التطور الذي وقع له ليس تطور حذف ولا تشويه، وإنما هو تطور إضافة وتأويل للنصوص القديمة بما يتفق مع سير العصور المختلفة. أما نصوصه فقد أثبت العلماء أن بعضها يرجع إلى القرن الثاني عشر قبل المسيح، وأن هذا البعض قد وجد عليه الطابع النحوي واللغوي لتلك العصور التي كتب فيها. والفضل في هذا التحقيق العلمي يرجع إلى العالم الدقيق (أليز) الذي استطاع بمعونة علوم اللغة أن يحدد - ولو على وجه التقريب - العصور التي كتبت فيها هذه النصوص. وإذاً، فنحن نرى أنه اجتمعت في هذا الكتاب المحافظة الدقيقة مع التطور المستمر.

وأما (شو - كينج) فأهميته كلها تنحصر في احتوائه على جميع النواحي الأخلاقية إذ أنه ضم بين دفتيه أسمى أنواع الفضائل والخيرات التي أتصف بها حكماء ملوك الصين فيما قبل التاريخ تلك الفضائل التي اتخذها (كونفيشيوس) فيما بعد نموذجا احتذاه وسار على منواله.

كان هذا الكتاب أكثر الكتب الصينية تعرضاً إلى التشويه والتبديل، إذ تحدثنا القصص الشعبية أنه كان في عهد (كونفيشيوس) مائة فصل كاملة نسخها هذا الحكيم بخطه، وأنه لما أمر الإمبراطور (اتسين - شي - هوانج - تي) بإحراق الكتب افتقد الناس كتابي: (شو - كينج) و (شي - كينج) فلم يجدوهما، فاضطروا إلى أن يستنسخوهم من جديد. وقد اعتمدوا في هذا على ذاكرة شيخ قدير وعالم جهبذ كان قد اشتهر في عصره بالدقة وقوة الذاكرة، وهو (فو - سانج). ولهذا السبب قد أصبح كتاب (شو - كينج) ثمانية وخمسين فصلاً بعد أن كان مائة.

ومهما يكن من الأمر، فإن هذا الكتاب له أهمية عظمى من الناحية الأخلاقية، لاحتوائه على كثير من الحكم والمواعظ والأمثال والقصص التي تعلي من شأن الفضيلة والخير.

هذه هي المصادر القديمة التي يعتمد عليها. وهناك كتب أخرى قد كتبت في العصور المتأخرة وسنشير إليها عندما نعرض لعصورها في شيء من التفصيل.

(يتبع)

محمد غلاب