انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 217/رابطة النقد بالأثر الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 217/رابطة النقد بالأثر الأدبي

مجلة الرسالة - العدد 217
رابطة النقد بالأثر الأدبي
ملاحظات: بتاريخ: 30 - 08 - 1937



وأهداف النقد

للأستاذ خليل هنداوي

نص المحاضرة التي ألقيت في حمص بروضة البلدية في 17 يوليه على جمع غفير من هواة الأدب. وكانت حفلة زاهية دلت على إقبال شديد على حوض الأدب. وقد تخللها قصائد ومقطوعات لشعراء حمص الشباب جددت عهد ديك الجن الحمصي، وقد أطرب الزائرين عزف نادي (دوحة الميماس) ولا عجب في تعانق الأدب والفن في مثل هذه الحفلة، فإنهما عنصران يتمم أحدهما الآخر. وهكذا سادت الجو روح وثابة مفعمة بالخواطر الرفيعة والشعر الجميل. وفي هذا الجو العالي ألقيت هذه الكلمة. . .

(خ. هـ)

كنت أود أن أزوركم خفيفاً لا مثقلاً، أمتع العين ببهجة مدينتكم ولا أجهد عقلي وعقولكم. كنت أود أن آتيكم زائراً لا محاضراً حتى أرى ألوانكم الطبيعية وتروا لوني الطبيعي. ولكن الأخ الأستاذ محمد روحي فيصل ألح علي في أن تكون الزيارة للمحاضرة، ولكنه روعني كثيراً وكاد يدخل الجزع في نفسي لأنه وصفكم لي وصفاً يبعث على الخوف. قال لي: إنك ستنزل في قوم يدرسون آثار الأديب ويحصون عليه خطراته، ويمنعون فيها تحليلاً وتعليلاً. بل سترى فئة عرفت آثارك وتعرف أفكارك ما تجانس منها وما تنافر. لأنهم قوم يقرءون ويدرسون ويحللون ويناقشون. فقلت له: ما دام الأمر هكذا فدعهم على الأقل يتناولوني وأنا بعيد عنهم، ويسلقوني بألسنتهم الحداد من حيث لا تشوى نارهم جسدي، ولا تبلغ مديتهم ودجىَّ. أتريد أن تسلمني إليهم يداً بيد؟ ولكن ما دواعي هذا الجزع؟ ولم أخشى الفئة المناقشة؟ ألسنا ندعو إلى أدب عميق يستمد من ثقافة عميقة؟ ألسنا نحرره من الدجالين ونغزوه عزواً مستمراً بالفكر حتى يغدو أدب الحياة وأدب الحقيقة؟ وكيف أخشى قوماً هذا عملهم؟ وإنما الأجدر بي أن أكون واحداً منهم فيما يعلمون. والأجدر بي أن أشكر هؤلاء القوم لأنهم مراقبون - لا بمعنى لجان المراقبات والحياد السياسي - ولكن بمعنى المراقبة الحقيقية التي تجعلنا نتحقق إذا كتبنا، ونتأنى إذا فكرنا، وإذا كان هدف من الأدب هذا الهدف فلمن ننشد هذا الأدب؟ الشباب لا يقرءون أم لشباب يقرءون، ولا يفكرون؟

يظن الصديق الكريم أنه روعني وفي الحقيقة شجعني. إذ الخير لي أن أعطي فكرة تُناقش وترد لي محطمة من أن أعطي فكرة تضيء بين عميان يقدسونها ولا يحسونها!

هذه ظاهرة حسنة من ظواهر أدبنا تدل على الاتجاه الثقافي الذي اتجه إليه أدبنا في العهد الجديد. وقد كنا في عهد إذا وجد الأديب لم يوجد القارئ، وإذا وجد القارئ لم يوجد الأديب، وقد بدأنا بعهد يستطيع الاثنان فيه أن يوجدا!

ها قد جئت ولا أدري ما يكون نصيبي بعد ما سكن روعي. ولكني أرجو أن يكون حظي في هذه المدينة حظ ذلك المكان المسحور الذي شاع عنه أنه لا يبيت فيه بائت ليلة إلا لقي حتفه حتى جاءه رجل يريد الموت، وما أشد عجب الناس حين وجدوه حياً، لأنه بإرادته الموت عاش. وهكذا أرجو أن أفك هذه الطلاسم لأني أريد أن أراكم غير مطلسمين. وأريد أن تروني غير مطلسم!

وعلى ذكر النقد وشيوع النظرة النقدية عندكم آثرت أن تكون كلمتي - بينكم - حول النقد ورابطة النقد بالأثر الأدبي.

تدركون جيداً المرحلة التي فصلت بين انحطاط أدبنا الأخير وبين تباشير النهضة الأدبية الحديثة، وتدركون أن آفاقاً كثيرة تفتحت، وأن اضطرابات فكرية هزت عالمنا الجامد؛ وتدركون أن النقاد يرجعون هذه البوادر إلى مدرسة الأدب الغربي التي هي أعمق وأكثر ألواناً وصوراً وأكثر درساً للحياة واكتمالاً من الناحية الفنية. على أن للأدب الغربي - في أدبنا - جوانب أبرز من جوانب، والجانب الأكثر بروزاً في نظري هو جانب النقد الذي يسرني أنكم غلبتموه - فيكم - على كل شيء. فنظريات النقد التي شاعت في أدبنا يعود لها الفضل في هذا التقدم. والنقد كما يفهم الأدباء ظاهرة يخلفها الأثر الأدبي، إذ لا نقد إلا بعد الأدب. ولكني أريد أن أفهم اليوم هذه النظرية معكوسة عندنا لأنا بدأنا بالنقد قبل أن نبدأ بالأدب. ولأن الأدب الغربي الذي خلق لنا أجواء نقد، وأعطانا مقاييس نقد صحيحة، لم يفتح عندنا أجواء إنتاج بعد!

تقلبت مدارس النقد في الأدب الغربي كثيراً تقلب الأدب نفسه، والنقد فيه كان مصاحباً للأدب. وليس للنقد حدود واضحة؛ ففيه نزوع إلى الجمال ونشدان الحقيقة وتسجيل التاريخ الأدبي. وقد قسم الكاتب الفرنسي (فان تيجام) ثقافة الأدب في كتابه (الأدب بالمقارنة) إلى ثلاث مراحل: الأولى المطالعة بلذة؛ والثانية المطالعة بنقد؛ والثالثة تاريخ الأدب. ولكن هذه النتيجة الملائمة للمنطق تأتي مشوشة، فهو لم يوضح عمل النقد، ولكن يبدو له أن عمل النقد شيء ذاتي ولا يمكنه أن يكون تاريخاً. أما تاريخ الأدب فهو يريد به دراسة قوية حقيقية للآثار الأدبية وما تحتويه وما تتجه إليه وما تكنّ من فن وثروة. على أن هذا هو ما ينشده النقد وينزع إليه ما استطاع

سأل الأستاذ (روزو) في مجلته (الآداب الحديثة) الأدباء: (إلى أين يذهب النقد؟) فأجاب الأستاذ (لانسون) محدداً علاقات النقد وتاريخ الأدب: (قد تمكن كتابة تاريخ الأدب بدون نقد، ولا تمكن كتابة النقد بدون تاريخ الأدب. فإذا أردت مثلاً أن تدرس المدرسة الشعرية الرمزية، فأنت مضطر إلى أن تصعد إلى أعلى وأن تسبق هذه الحركة وتطلع على ما هيأها)

ويقول (أدمون جالو): (إن النقد لا يستطيع أن يتفوق على تاريخ الأدب؛ ومن العسير أن نحكم على رجل حياته. وأظن أن القلق في أحكامنا التي نصدرها على معاصرينا إنما يأتي من هذه الناحية) على أن الناقد وإن لم يكتب التاريخ فهو يهيئ عناصره وموارده، وكثيرون من الناقدين يهيئون الأماكن المقبلة للآثار الحاضرة

وقد تطورت مهنة النقد في العصور كثيراً. فلقد كان في عصرنا قاضياً يميز الكتاب الجيد من الكتاب الرديء، والأثر الرائع من الأثر السخيف. ولكن في هذا الحكم ما فيه من الجور لأنه يضع الحكم على الآثار في أيد ليست منها على شيء! ثم أصبح الناقد معلماً يوضح الطريق اتباعها، ولكن هذه المهنة زالت أيضاً واصبح هم الناقد غير هم المعلم. وفي هذا المعنى يقول النقادة (سانت بوف): إن مهمتي كأستاذ أن أوقظ قبل كل شيء مسالك الذوق بواسطة التحليل والتحديث. أما الناقد فله واجبات أخرى الناقد يعطي أحكامه بسكون وبملازمة نفسه!)

وقد أعلن (لاسير) أن للنقد رسالة سامية لا تقف عند تحليل المؤلفين، وإنما همه أن يؤثر في الجماعات، ومثله الأعلى أن يعد شعباً حر النزعة، مفتوح آفاق العقل، صافي العاطفة، لكي يأتي الشعراء والمبدعون من بعده ويجدوا من يفهمونهم ويمشون معهم ويسمعون إلى ألحانهم. ولعل هذه النظرية تلائم نظرية الشاعر (ستيفان مالارمي) في أن الشاعر يجب ألا يتلوه إلا شاعر، أو قارئ يستطيع أن يسمو معه في لحظة ما ويتحد معه اتحاداً شعرياً. وهذا أهم ما في رسالة النقد لأن عبقريات كثيرة - بغير النقد - تنطفئ لأنها لا ترى طريق اتصالها بالجماعات

ويرى (ماسبي) أن النقد يعمل كمعلم. . . (إننا نفتقر إلى معلمين ولا نطلب إلى النقد أن يعجبنا. . . لا شيء أصعب اليوم ولا أعسر من وضع نظام وترتيب في الآثار الأدبية والفنية. وإزاء هذه الميول والأهواء المتباينة يجب أن يكون الواجب الأول للأدب أن يرينا أين نحن؟ ومن نحن؟ وأن يفصل بين العبقريات. وبعبارة أجلى أن يكون حارساً أميناً)

ونحن مهما تجردنا من هذا النقد المعلم فمن المحال أن نتجرد منه تجرداً تاماً، لأن من طبيعة الحال أن يقبل الناس على الناقد ويروا فيه (المطلع الحاكم) الذي يصحح بجرأته بعض الأخطاء الكبيرة. ويمكن القول بأن تقدير الآثار على رغم بعض الخطأ في هذا التقدير قد يكون ضرورياً في مجتمعنا الحاضر. . . .

وبعض النقاد يعملون على أن يتجردوا ويتركوا الحكم للقارئ نفسه. وذلك بأن يفتحوا له طريقاً يسلكها ويكتشفها لنفسه. . . ولكن هؤلاء مهما تجردوا - يحملون شيئاً من أنفسهم دخل في بضاعتهم من حيث لا يشعرون.

أما مدارس النقد التي قامت وتقوضت ثم قام غيرها ويقوم غيرها فهي أكثر من أن تحصى، ولكل فوائدها واكتشافاتها. فقد نشأ النقد نشأة ضيقة منذ نشأ. كان يرى أن الشيء الجميل له قواعد معينة معروفة ولا يكون بدونها جميلاً. وهذا نقد مجرد ينصر الفكرة المجردة، ولكنه يهدم بنقد آخر لا يؤمن بالتجرد، بل يرى أن الجميل لا يكون مجرداً، وإنما هو كغيره له علاقات تربطه بغيره. وقد شاعت هذه النظرية كثيراً حتى نشأ عنها (النقد بالمقارنة والموازنة بين الأشكال الجميلة والآثار الأدبية في الشعوب المختلفة ثقافتها) وهذا النقد قد وسع آفاق النقد إلى ما لا حد له. ويعجبني في هذا المعرض سلسلة المقالات التي تنشرها مجلة الرسالة الغراء (بين الأدبين العربي والإنجليزي) للأستاذ فخري أبو السعود. ولعلها تكون فاتحة سلاسل للمقارنة بين الأدب العربي والآداب الشرقية الأخرى التي أتصل بها أدبنا وتأثرت به وتأثر بها كالأدب الفارسي مثلاً الذي لا تزال علاقاته مع أدبنا تكاد تكون مجهولة.

أجل! قد ولى عهد كان يرى أن الإنسان مملكة إلى قلب مملكة، وجاء عهد يرى أصحابه أن الإنسان شيء من أشياء هذه المملكة، يؤثر فيها ويتأثر بها بمقدار. . . وقد أوحت هذه النظرية للنقادة الفرنسي (تين) نظرية تحليل الأثر الأدبي بعوامل الجنس والبيئة والزمن. . . . ونظرية التطور أوحت (لبرونتيير) أن يعتبر الأنواع الأدبية ككائنات حية تتطور ويولد بعضها من بعض. وقد شاعت نظرية جديدة تقول إن الأثر الأدبي لا تكمل صفاته إلا بدرس صاحبه. لأن المؤلف إنما يصف نفسه ويمنح أشخاصه كثيراً من شخصيته. على أن الأثر الأدبي يخضع من وجوه كثيرة بالمؤلف إذا كان المؤلف نفسه ليس بسيد أثره الذي أعطاه، ولا بسيد عمله الذي يريد أن يظهره؟ بل نذهب إلى أبعد من هذا الحد ونقول: إن المؤلف هو الذي يطابق أثره ويمشي عليه، وليس الأثر هو الذي يطابقه. ومهما كان هذا النقد موضوعياً علمياً فمن الواجب أن يتبعه نقد ذاتي يبث الناقد فيه آراءه الذاتية الشخصية. ومن هذه الناحية تولد النقد (المنفعل أو المتأثر) الذي يرى أن الناقد الحقيقي عليها. ومهما أشرق على طبائع مختلفة ونماذج متباينة فهو يرعى شخصية وحدود اتصال الحادث بنفسه. ولكن هذه الذاتية إذا تطرفت كثيراً أخرجت النقد عن كونه علماً! ويطلب في الناقد الحقيقي أن يكون ذا موهبة تحليلية نفسية، وأن يكون قادراً على الخروج من حدود الذات ليمكنه تذوق الفكرة الغريبة مع صيانته لشخصيته. ونقد آخر يعمل على ترتيب درجات الآثار الأدبية، وآلة ذلك - كما يقول سانت بوف - الذوق، لأن الذوق يعبر عن كل دقيق وعن كل خفي يتمشى في أنفسنا!

ونشأ في إبان النهضة العلمية النقد الفلسفي، ويقول أصحابه: إن إلحاق النقد الأدبي بالعلم لا معنى له، إذ لا يوجد علم يختص بشخص دون شخص، والنقد الأدبي لا يعرف إلا الأفراد في الرجال والآثار. ويقول هؤلاء: إننا لا نضم العلم إلى النقد، ولكن نضم الفلسفة إليه. والنقد الحديث قد دخله شيء من مدرسة أفلاطون وشوبنهاور وبرغسون. نعم إن الغاية من الأدب والنقد إنشاء اللذة النفسية، ولكنا نريد أن نعرف تحليل هذه اللذة التي يغمرنا بها الشعراء والكتاب. وبذلك نزيدها أضعافاً مضاعفة. وهل كانت المجادلة على الشعر الصافي إلا قبساً من فلسفة ما وراء الطبيعة. ونقد (تييودي) الذي أوجد الاتصال بين الرمزية وفلسفة برغسون هو نقد مشبع بالروح الفلسفية المرتكزة على فلسفة الفنون والآداب. وهنالك النقد الاجتماعي والأخلاقي الذي يقيد الأدب والفن ويرى صلاحهما بمقدار معالجتهما للمسائل الاجتماعية والأخلاقية، ولا ينصرها إلا بمقدار ما ينصران الأخلاق. وهكذا نجد في النهاية ألواناً كثيرة للنقد نشأت لتحليل ألوان الأدب وكل غايتها أن تفتح للأدب آفاق التجديد والإبداع.

لقد دخلت هذه المدارس النقدية أدبنا وعملت فيه - على غير نظام - وأثرت فيه تأثيراً مباشراً. وليس طه حسين والعقاد وأحمد أمين إلا وليدي هذه المدارس على اختلاف الاقتباس وتباين الطرائق! على أنكم إذا شئتم أن تقارنوا من أنتجهم أدبنا الحديث - بين الناقدين والمبدعين - فسدت المقارنة وشالت كفة المبدعين، لأننا لا نجدهم كما نجد الناقدين. وهذا الأمر يجعلني أعتقد بالنظرية التي أعلنتها (إنا بدأنا بالنقد قبل أن نبدأ بالأدب) فنقادنا الذين تثقفوا بالأدب الغربي قد فتحوا فتحاً جليلاً في أدبنا القديم. ولكنه فتح لم يعد بكل الفائدة على توجيه أدبنا الحديث. فأدبنا الحديث لا يزال جامداً مقلداً لا تتلمس في أقلام أدبائه المبادئ الفنية التي يجب أن تكون فيهم؛ وبهذا أفاد الأدب العربي الناقدين ولم يفد الأدباء المجددين.

قد يقول حاملو لواء التجدد: إننا نريد التجديد والتطور، ولكن القدماء يمنعون علينا هذا التطور ويجدوننا في أدبهم هدامين. ولأصحاب المذهب القديم أن يقولوا ذلك لأنهم يرون في أساليب المجددين التواء وتنكباً عن الأساليب العربية؛ ثم لا يجدون في أساليبهم ذلك العسل المصفى الذي يبشرون به. وما ذلك إلا لأن جل المجددين أنفسهم يمشون ولا يدركون أين يمشون! ويأخذون من كل ثقافة برقعة فيأتي ثوبهم مؤلفاً من رقع! فهل درسوا نظرية كل مدرسة في الفن والحياة؟ فليس الأدب الغربي كله من هذه البضاعة التي ألف أن يحملها إلينا من حين إلى حين أناس لم يستقيموا لأدبهم ولم يستقم الأدب العربي لهم. وإنا إذا دعونا إلى التجديد وإلى تدبر الأدب الحديث فلا ندعو إلى تعطيل الأسلوب العربي والبيان العربي، لأننا نعلم أن لكل لغة من بيانها صبغة إذا زالت زال منها كل لون من ألوان عبقريتها. ولكنا لا نجد حرجاً في خلق المدراس الجديدة ليغذي أنصار كل مدرسة مدرستهم بخير ما يغذى. وفي الأقطار العربية فئات لا ينقصها من الثقافة شيء. ولا يضير العربية تعدد هذه المدارس لأنها باعث من بواعث النشاط والتحفز.

نحن في عهد قد اتسعت فيه مناحي ثقافتنا وأصبح لا يشبعنا ما كان يشبع من قبلنا، وأصبحنا نطلب من الأدب أن يكون شيئاً غير التنميق والزخرفة والشعوذة. والأدباء والشعراء الذين كنا نطرب لهم بالأمس لم يعودوا يملئون نفوسنا، وإنا إذا طربنا اليوم ببعض آثارهم فلأن هذه الآثار تخاطب فينا جزءاً عتيقاً من أنفسنا لا يزال يمد رأسه من حين إلى حين، كالمقطوعة الشعرية مثلاً نسمعها في مناسبة ما من فم قائلها فتطربنا، ولكن إذا عدنا إلى (جوها) لم نجد شيئاً، وإذا تلوناها تلوناً فيها شيئاً كثيراً إلا الشعر. وشعراؤنا على اختلافهم ينظمون كثيراً ولا نعرف لشاعر منهم لوناً خاصاً يتميز به إذا ميزت الألوان؛ لأن جلهم لا يزال يرعى عهد القدماء (القائل) أحفظ أشعار الأوائل وانهج على منوالهم تصر شاعراً. . . ولم يعلم هؤلاء أن العصر قد تبدل وتبدلت بتبدله مطالبه، وأن الشعر أصبح ذا رسالة تفتقر إلى ثقافة عميقة وذوق مهذب فني. فهل هب من شعرائنا من يدرس النظريات الفنية؟ وهل في تحليل النظريات والاستفادة منها ما يضر مواهبهم؟ وهل يعارض أصحاب القديم في إدخالها وهي لا تهدد البيان ولا تحرف اللسان؟

كان الشاعر - مثلاً - يكفيه أن يجمع بين أية فكرة وأية لفظة لا يبالي الملائمة ولا يبالي أصل هذه الفكرة! أما الآن فهو مضطر إلى أن يفرق بين الخطرة الفكرية والخطرة الشعرية، وأن يعي علاقات الألفاظ بالمعاني وينسق ألحانها دون أن يخونه شيء. وهذا يدعوهم إلى أن يمارسوا النظريات الجديدة في الفن وعلم النفس. وهذه النظريات هي وقف على العقل الإنساني الشامل لا تختص بأدب ولا تنتسب إلى قبيل، وإن من واجب المدارس الأدبية إزاء هذه التطورات ألا تقف عند نظريات معينة في النقد لتجعل من طلابها نقاداً ومؤرخين، وإنما هنالك النظريات الفنية التي تزيد في إطلاع الطالب على أعماق النفس البشرية وتجعله أكثر ارتباطا بالحياة وتفهماً لها. وبهذا تعمل على تطور الأدب - لا تاريخ الأدب - تطوراً مخصباً يعود على كل حقول الأدب بالإنتاج والابتكار. قلت: إن النقد تقدم في أدبنا، وليس معنى ذلك أنه بلغ الذروة التي يريد بلوغها. فللنقد عند الناقدين مذاهب كما للأدباء؛ وكل مذهب يفهم النقد كما يريد، بينما يقف نقدنا عند مرحلتين: (1) نقد الآثار القديمة وتنظيمها وإنشاء دراسات مخصبة عليها. وقد خطا النقد العربي في هذه المرحلة خطوة واسعة موفقة (2) نقد الآثار الحديثة وأكثره عمل تهديمي صرف، أو إضرام بخور المجاملة للأصنام الأدبية، دون أن يجرب أن يكون نقداً عميقاً يلتفت إلى البناء. وإذا كانت فائدة النقد الأول إحياء مآثر الماضين ففائدة النقد الثاني أجل وأعلى لأنه يحيى الأحياء ويفتح لهم طريق الإبداع. ومن هذا ترى سر تهافت طلابنا على الدراسات القديمة وتجمد روح الإنتاج والإبداع فيهم.

تلوت قراراً جديداً أصدرته الجمهورية الألمانية هذا العام تمنع فيه الأدباء الأحداث أن يجروا أقلامهم في ميدان النقد، لأن النقد عمل ثقافي يحتاج إلى مراس وإطلاع واختبار. وهي تزعم أنها تريد من وراء هذا أن تحمى آثار العباقرة من التهجم، ولكني أريد أن يبقي النقد وأن يتناوله الشباب. وإذا أريد حماية الأدب فلا نستطيع أن نحميه بمثل هذا القرار لأن النقد غريزة في النفس، بل ربما كان النقد وحده عبقرية. وقديماً قالوا إن النقد يرافق الأثر الأدبي ولا يخلقه. ولكني أرى أن النقد في كثير من المواطن لم يكن مرافقاً وإنما كان خلقاً. أجل! إن العبقرية تكاد تكون - كما يجمع علماء النفس - شذوذاً في الناس كالمعجزة، ولكن هذه المعجزة مرتبطة - من نواح كثيرة - بما حولها، ولولا ما حولها لفسدت. وهكذا ساعد النقد عبقريات كثيرة على الظهور لأنه عبر عنها وفسر ما يكنفها من إبهام. ولذلك لا حاجة إلى خنق النقد حماية الأثر الأدبي، لأن الأثر الأدبي والنقد لا يحتاجان إلى وسيط بينهما للتفاهم، ولا إلى قانون يحمي أحدهما من الآخر. فليوجد الأثر الأدبي من شاء، ولينقده من شاء. . . .

تقولون لي: وكأنا بك لم تكفك مقاييسنا الجديدة في النقد فما هي مقاييسك؟

إنني لا أميل إلى مقاييس تقريبية محددة مقيدة. ومن ذا يستطيع أن ينشئ للحياة وأذواقها المتباينة مقاييس. .؟ وأية عين ترى مثل ما ترى الأخرى؟ ولقد نتغذى بثقافة واحدة في بيئة واحدة، وتتجه وجوهنا شطر آفاق واحدة، ولكنا لا نتفق في النهاية على تفهم ما نراه. ولكنا رأينا الحياة جميعاً، وفهمنا منها كل بحسب مزاجه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون للنقد مناح نوجهه إليها.

فالواجب الأول - عندي - للنقد أن يكون في القارئ شخصية مستقلة في النقد، تترك صاحبها لا يقبل الشيء نقلاً، وإنما يقبله إذا قبله عقلياً. . . . استقلال الشخصية أول ما يجب أن يلهم النقد. فبقدر ما يؤلمني فقدان الاستقلال الشخصي في الأمم، كذلك يؤلمني فقدانه في الأفراد. وكما يقبل عليك الأديب بشخصيته، أقبل أنت عليه بشخصيتك

والواجب الثاني للنقد - وهو واجب ما أحوج نقدنا إليه! هو توجيه العقول إلى التوليد. وذلك بإنماء الذوق الفني في النفس حتى تتلمس مواقع الجمال، وخلق الأجواء الخاصة له. فالشعر إذا لم يكن محدوداً فذلك لأن المحدود نفسه يتحدد فيه ويفقد روحه المنطقية، ومن كان يتنبأ بأن الشعر يخضع لظروف جديدة؟ أليس علم النفس أثر فيه كما أثر في نواح مختلفة من الأدب؟ ألم يبدل فيه وجهات كثيرة وخلق منه اتجاهات كثيرة؟ وبينما كان الشعر لغة لا تصف من النفس إلا حالات العاطفة الهائجة، ومن البحر إلا أمواجه المصطفقة أصبح يهوي إلى الأعماق التي تثير هذه العواطف المتماوجة في سكون النفس! إذ ليس من الضرورة أن تصف أوعى ما في نفسك وأقربه للاهتزاز والارتجاج. ويكفي من القصيدة أنها تضرب على وتر في أعماقك تسمع رنينه ولا تسمعه! على أني لست متشائماً من تأخر الإنتاج، لأننا نؤثر أن نتكلم بالنقد على أن نتكلم بأدب غير ناضج، ولا نريد أن يذهب تأثير الأدب الغربي إلى أبعد من جو النقد. نريده موقظاً فقط لا موحياً إلينا، وفاتحاً عن أفق لا أن يكون هو الأفق!

والواجب الثالث أن يساعد النقد - كما يقول (لاسير) على أن يعد شعباً مفتوح آفاق التفكير صافي الذوق لكي يأتي المبدعون ويجدون من يفهمهم ويمشون معهم. . . .

خذوا النقد وسيلة لا غاية. وسيلة لفتح آفاق الإنتاج القوي. ولا تجعلوا غاية سيركم بل اجعلوه طريقاً إلى غايتكم. وليكن لون إنتاجكم لون نفوسكم ولون هذه الطبيعة. ولا ترتدوا ثياب غيركم لأنكم لن تحسنوا تقليد غيركم، ثم لن تجدوا بعدها لونكم الخاص. ولا تمشوا وراء خطوات غيركم مقلدين. . . إنني رحبت بالروح النقدية عندكم على أن تكون مقدمة للإبداع المنشود!

فليكن لناقدكم ضمير يوحي إليه أن يعترف بالجمال حيثما رآه!

وليكن نقدكم نقطة يتعانق فيها العدل والحق والجمال.

وليفتح لكم النقد طريقاً إلى التوليد.

وليفتح الناقدون الطريق للروح المولدة.

وإذا لم نكن عباقرة فلنمهد - على الأقل - الطريق للعباقرة.

ولعل الذي وصفكم لي بأنكم ذوو عقول ناقدة مناقشة هو الذي يصفكم لي في المستقبل بأنكم ذوو عقول مبدعة مولدة

(حمص)

خليل هنداوي