انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 215/رسالة الشعر في ظلال الأرز

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 215/رسالة الشعر في ظلال الأرز

مجلة الرسالة - العدد 215
رسالة الشعر في ظلال الأرز
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 08 - 1937



للأستاذ امجد الطرابلسي

قلبيَ يا ابن الفناء! ماذا ... يُصِيبكَ في هيكلِ الخلودِ؟

أيُّ جمالٍ تَراه يبدو ... يا قلبُ في مَقْبَرِ العهود؟

وأيُّ لحنٍ هناك يشدو ... به وُجومُ المدي البعيد

أراكَ يا أيُّها المُعَمَّى ... في الأرض كالهارب الطّريد

تَفِرُّ من نَقمةِ البرايا ... وتَتَّقي زحمةَ الوجود

تمشي على هامش الفَيافي ... مُجتنباً رنّةَ القُيود

مُلْتمساً ملجأً بعيداً ... عن الوشاياتِ والحُقود

كالوحش ليستْ تَقَرُّ عيناً ... إلا ببيداَء خلفَ بيدِ

بالأمسِ في بَعْلَبَكَّ، ذكرى ال - زّمانِ من عِزِّهِ التَّليد

قمتَ على رسمها تُغَنَّى ... غناَء مُستوحشٍ عَميد

غنيّتَها رائع المعاني ... يميسُ في أجملِ البُرود

واليومَ في الأرْز يا فؤادي ... وغابِهِ الأعطرِ البَرود

في حِضْن لُبنانِهِ المُوشّى ... وعرسِه الضاحكِ السعيد

تُجَنّ في بَحْرِكَ القوافي ... كالموجِ في الزّاخرِ المديد

ويحكَ يا قلبيَ المُدَوي! ... يا نبعةَ الحبّ والقصيد

درُّك صُنْهُ ولا تبدِّدْ ... يتيمَهُ البكرَ في الصّعيد

كَرِّمْهُ يا قلبُ فهو أغلى ... من الدّمِ الطاهرِ الشهيد

تَعَوَّدِ الصمتَ فهو أولى ... بالحرّ في دولة العَبيد

خيرُ صلاةِ الحزين دمعٌ ... يَفيضُ من ناظرٍ شَرود

يا أَرْزَ لبنانَ! يا مُصَلى ... ما فاتَ من غابرِ العهودِ

أليسَ في دوحِكَ المُعَلىّ ... أَرائِكُ الأَعْصُرِ الهُجودِ؟

تَفَيَّأَتْ ظلَّه وأغضتْ ... من بعدِ إعيائِها الشَّديدِ

يا مريضَ الثلج يا مَحَطَّ ال - نُّجوم يا مأمنَ الشَّريدِ! بِنْتَ وَحَوَّمْتَ في الأعالي ... نَسراً تَحرّى ذُرى الفُنودِ

تُرى تَعاليتَ عن مُناخ ال - نفّاقِ والذلِّ والسّجود؟

أمْ قَدْ تَرَفَّعتَ عن فَناءِ ال - وَرى فأمعنتَ في الصّعودِ؟

يا أرزُ لا تظلمِ البرايا في دهرِها المُنجِبِ المُبيدِ!

ما أجدرَ الناسَ بالتَّحَني ... لا بالزِّرايات والصُّدود!

وا رحمتا للورى جميعاً ... من حَمَلٍ أعزلٍ وسِيد!

وا رحمتا للورى جميعاً ... الموقِدِ الشَّرَّ والوَقود!

والآسرِ الخلق والأسارى ... والحاسدِ النّاسَ والحسيدِ!

إيهِ أُولُمْبَ العصورِ! ماذا ... لدَيْكَ عن أعصرِ الجُدود؟

لعلّ أدواحَكَ الرواني ... مثلُ أبي الهَولِ في الجمود

نسألها، والسكوتُ دوماً ... خيرُ جوابٍ لها سَديدِ

هاتِ الأحاديثَ عن (عَبيدٍ) ... وعن (كُلَيْبٍ) وعن (لَبيد)

ونسرُ (لُقمانَ) ما دهاه ... من بعدِ عُمرٍ له مديد؟

أيُّ الأساطيرِ نَسَّقَتْها ... قريحة الشاعرِ المُجيدِ

وأيُّها قد شهدتَ حَقاً ... في الزَّمَنِ الغابر التليدِ

وأيُّها نَسْجُ أُمّهاتٍ ... في الّليلِ حولَ الصَّلى قُعودِ

يَقْصُصْنَها للبنينَ شغلاً ... لهم عن اللِّعب والهُجودِ

يا ليتَ شعري! وأين شعري ... من ظُلُماتِ المدى البعيد؟

لعلَّ أمس الحياةِ شطرٌ ... من قَصَصِ الجَدِّ للحفيدِ!!

مددتُ كفّي أُصوِّرُ اسمي ... في صفحةِ الأرزةِ الهَجودِ

فارتعشتْ باليراع كفي ... واحترقتْ في دمي جُهودي

ويلي! أَأَنْعى إلى وُجودي ... بأحرفٍ من يدي وجودي؟

أينَ (لَمَرْتين) أين (جُوليا) ... هل عنهما اليوم من مُفيد

سلْ عنهما الدودَ في ثراه ... إن ضَنَّ غولُ الرّدى بدُودِ

أمسِ على قربِهِ إلينا ... أشدُّ قُرباً إلى ثمودِ إيه لمرتينُ يا صديقي! ... يا شاعر المأمل الفقيد!

يا صرخةَ الناي في الليالي! ونفحةَ الزهرِ والورود!

وهتفةَ البلبلِ المُعَنَّى! ... وبسمةَ البرعمِ الوليد!

يا شاعري! متَّ غيرَ نَقْشٍ ... عَزَّ على الموتِ واللُّحودِ

خلَّفتَهُ لِلْحجيجِ دُنيا ... من التَّصاويرِ والوُعودِ

يَرِفُّ كالزَّنبقِ المندَّى ... في جَبْهَةِ الأرزِة الوَدودِ

يضحكُ للزّائرين اُنساً ... بِهِمْ وَيَفْتَرُّ للوُفودِ

نَقَشْتَهُ لاهياً شَغيلاً ... عَنِ الفُجاءاتِ والنُّكودِ

و (جولِيا) غِرَّةٌ لَعوبٌ ... خَفَّاقَةُ الحُلْمِ والنُّهودِ

بسّامَةُ الطرفِ والأماني ... ضحَّاكة الثّغرِ والخُدودِ

تضحكُ في نَومِها وتَعدوا ... خلفَ الفَراشاتِ في النجودِ

تناغِم الطيرَ ليس تدري ... ماذا وراَء الغَدِ الصيَّيودِ

ماذا لدى الغيبِ من هَدايا ... أَو نُوَبٍ كالظّلامِ سودِ

كم عَبْرةٍ تَعقبُ ابتساماً ... ومأتمٍ نامَ خلفَ عِيد

خَطَّتْ حروفَ اسمِها غروراً ... تحتَ اسمكَ الخالدِ المَجيدِ

أملةً أن تعودَ يوماً ... فتقرأَ الخطَّ منْ جَديد

ما أخيبَ العمرَ للأماني! ... وألعبَ الدهرَ بالجُدود!

وأوسعَ القلبَ في صباه! ... وأقربَ القبرَ للمهود!

خطَّتْ وخطَّ القضاءُ سَطراً ... في لوحِهِ المُفْعَمُ الرَّصودِ

أمسكها الموتُ لم يدعْها ... تعودُ للموكنِ المَشيدِ

غاضَرَها والصِّبا غَريضُ ... بلا ضَجيجٍ ولا وَعيد

بعيدةَ الحصَّبِ والمغاني ... غَريبةَ الدار والشُّهودِ

إيه (لمرتين)! أيّ كنزٍ ... من الحشاشاتِ والكُبودِ

أودعتَهُ أرضَنا بَليلاً ... بدمعِكَ المُسْبَلِ البَديدِ

هديةُ الشاعرِ المعنّى ... لموطنِ الشعرِ والخُلودِ فريدةٌ بِعتها بجرحٍ ... في القلبِ مُسْتَعبِرِِ فَريد

وعدتَ من بعدها وحيداً ... يا لوعة الشاعرِ الوحيد!

تضربُ: بين الربى البواكي ... كالزورقِ التائِهِ الشَّريد

قيثارةً: تُرسِلُ الأغاني ... من مِزَقِ القلبِ والوَريد

تَنوحُ في هدأةِ الليالي ... وفي الأعاصيرِ والرُّعود

لِلّهِ يا شاعري دموعٌ ... ذرفتَ كاللُّؤلُؤِ النَّضيدِ

ما فَتِئَتْ في الْخُطوب تَحنو ... على جراحاتِ ذا الوُجودِ

هلاّ حبستَ النُّواحَ قهراً ... للزَّمَنِ الشّامِت الحقود

ما زالَ هذا الزمانُ خَصماً ... للعبقريِّينَ والبُنود

دَع لاهبَ الجُرحِ في الحنايا ... يأتكلُ الصَّدرَ كالوقودِ

فأسبلْ على وَقْدِهِ سُتوراً ... من البَشاشاتِ والسُّعودِ

غَلِّفْ جِراحاتِكَ الدّوامي ... بِبَسْمَةِ الساخِرِ الجَليد

وكنْ على صولةِ الرَّزايا ... أَعندَ من دهركَ العَنيد

هذا هو المجدُ لا دموعٌ ... تُسَحُّ فوقَ الثرى المَجودِ

تضحكُ من سَكبها البرايا ... في عرسِلها الناعم الرَّغيد

أَوَّاه! مالي أُريقُ شِعري ... دماً على مذبحِ الجُحود؟

أنتَ عزائي وأنتَ روحي ... فعدْ إلى القلبِ يا نشيدي؟

(دمشق)

امجد الطرابلسي