مجلة الرسالة/العدد 214/كان لمصر أسطول
مجلة الرسالة/العدد 214/كان لمصر أسطول
فهل يعيد التاريخ نفسه؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مصر بين الدول التي دعتها الحكومة البريطانية إلى الاشتراك في حفلة العرض البحري الكبرى التي أقيمت لمناسبة تتويج جلالة الملك جورج السادس، ولكن مصر اعتذرت عن إجابة هذه الدعوة لأنها لا تملك من الوحدات البحرية اللائقة ما يصلح لاشتراكها في مثل هذا الحفل الدولي العظيم
وبالأمس احتفلت مصر بتتويج جلالة مليكها الفاروق احتفالا رائعاً يذكرنا جلاله وروعته بمجد عصورنا الذاهبة وعظمتها، وروعة أيامها ومناسباتها المشهودة؛ واشترك الجيش المصري الباسل بوحداته البرية والجوية في هذه المناسبة السعيدة اشتراكا يذكرنا بماضيه العسكري الباهر، ويبعث إلى الأمل في أن يغدو سراعا كما كان في الماضي درع البلاد وحصنها الحصين
ولكنا لم نسمع للأسف صوت الأسطول المصري، ولم نشهد أثره في تلك المناسبات العظيمة لأن مصر لا أسطول لها
هذه الحقيقة المؤلمة يجب أن تلفت أنظار مصر المستقلة إلى مركزها الدقيق بين دول البحر الأبيض المتوسط، وإلى ما يمكن أن تواجهه في المستقبل من الأخطار من هذه الناحية خصوصاً في هذا العصر الفياض بالتطورات والاحتمالات السريعة، وفي هذه المياه التي تنذر من آن لآخر أن تضطرم بكدر الخصومات والمنافسات التي تتفاقم عواملها يوماً بعد يوم
فمصر بلد بحري بلا ريب تمتد شواطئه إلى مسافات بعيدة على طول البحرين التاريخيين العظيمين: بحر الروم أو البحر الأبيض المتوسط، وبحر القلزم أو البحر الأحمر؛ وقد لعب هذان البحران العظيمان منذ فجر التاريخ في تاريخ مصر وفي مصايرها أدواراً خطيرة؛ وسوف يلعب كلاهما بلا ريب دوره الخطير في مستقبلها
وقد شعرت مصر دائماً بمركزها البحري الخطير في هذين البحرين، فكان لها منذ أقدم العصور أساطيل حربية تجوس خلال هذه المياه وتذود عن شواطئها، وأساطيل تجارية تحمل تجارتها إلى أقصى ثغور العالم القديم
وكما أن لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البرية التي بلغت أحياناً قاصية الأناضول شمالاً، وأقاصي السودان والحبشة جنوباً، فكذلك لمصر تاريخ مجيد في الغزوات والفتوحات البحرية، بل إن تاريخ مصر البحري يبدو أحياناً في ألوان من العظمة تضارع سيرة أعظم أساطيل هذه المياه في العصور الوسطى؛ فقد كان الأسطول المصري طوال هذه العصور يملك ناصية شرق البحر الأبيض، ويناهض أسطول الدولة البيزنطية، وأسطول البنادقة أعظم أساطيل العصر، وكانت له في تلك المياه جولات وفتوحات عظيمة حتى أواخر القرن الخامس عشر
ومنذ القرن الرابع الهجري (القرن العاشر الميلادي) نرى مصر تعنى بأسطولها عناية فائقة، وتنشئ دور الصناعة أو المصانع البحرية العظيمة لتغذي أسطولها باستمرار بمختلف الوحدات البحرية؛ وكانت دور الصناعة بمصر والإسكندرية ودمياط أيام الفاطميين تخرج أعظم الوحدات البحرية المعروفة في ذلك العصر. وبلغ الأسطول المصري في أوائل عهد الدولة الفاطمية نحو ستمائة قطعة ترابط في الإسكندرية ودمياط وعسقلان وفي البحر الأحمر. وكان للأسطول وشئونه ديوان خاص يعرف بديوان الجهاد أو ديوان العمائر؛ واشتبكت مصر أيام الفاطميين مع الدولة البيزنطية في عدة معارك بحرية شهيرة. وفي أيام الدولة الأيوبية لعب الأسطول في المعارك الصليبية دوراً خطيراً؛ وكانت الحراقات أو قاذفات النار المصرية عاملا حاسما في هزيمة لويس التاسع ورده عن مصر. ومع أن الأسطول لم يحظ أيام دول السلاطين بمثل العناية التي حظي بها أيام الفاطميين، فإنه لبث منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر عاملاً هاماً في التوازن الدولي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي أوائل القرن الخامس عشر افتتح الأسطول المصري جزيرة قبرص في عهد الملك الأشراف بارسباي (سنة 1425 م)، وغزا رودس أكثر من مرة؛ وكان يشتمل يومئذ على نحو ستين قطعة، وكان معظم بحارته من المتطوعين الذين يهرعون إليه كلما دعا داعي الجهاد. وما زالت مصر أيام السلاطين تحتفظ بأسطولها حتى الفتح العثماني، بل نرى السلطان الغوري آخر أولئك السلاطين يجدد الأسطول المصري ويعده لمحاربة البرتغاليين للمحافظة على طريق الهند القديم الذي كانت مصر حارسته وكانت تعلق عليه أهمية تجارية خاصة. وفي سنة 1508 م أعني قبيل الفتح العثماني بأعوام قلائل نرى الأسطول المصري بقيادة أمير البحر حسين يهزم الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر بقيادة الأميرال لورنسو الميدا، ثم يشتبك بعد ذلك في معارك بحرية شديدة مع أسطولي برتغالي آخر بقيادة أمير البحر الشهير البوكركي على مقربة من باب المندب
والظاهر أن مصر لبثت بعد الفتح العثماني مدى حين تحتفظ بأسطولها، أو على الأقل بسمعتها البحرية، فنرى التواريخ النصرانية تنوه بشجاعة البحارة الإسكندريين في موقعة لبانتو البحرية الشهيرة التي نشبت بين الأسطول العثماني بقيادة علي باشا، والأساطيل النصرانية المتحدة بقيادة الدون خوان سنة 1571 م، واشتركت فيها إلى جانب الترك وحدة بحرية مصرية، تنوه التواريخ النصرانية بشجاعتها وبراعتها
بل ما لنا نرجع بعيداً، وقد كان لمصر في أوائل القرن الماضي أسطول ضخم، وكانت من الدول البحرية التي يحسب حسابها في شرقي البحر الأبيض المتوسط؛ ففي عهد محمد علي استعادت مصر صفتها القديمة كدولة بحرية، وأستأنف الأسطول حياته في هذه المياه بعد أن قطعت زهاء ثلاثة قرون. ومع أن الأسطول المصري لم يبلغ عندئذ قوته القديمة، فإنه لم يلبث أن غدا عاملا يحسب حسابه. واهتم محمد علي بإنشاء الأسطول منذ بداية حكمه، فأنشأ أسطولاً صغيراً في البحر الأحمر ثم قرنه بإنشاء أسطول كبير في البحر الأبيض المتوسط، وأنشأ بالإسكندرية دار صناعة عظيمة لصنع الوحدات البحرية. ومع أن الأسطول المصري قد نكب في موقعة نافارين الشهيرة في المياه اليونانية سنة 1827، فإن عبقرية محمد علي أبت ألا أن تنشئ لمصر أسطولاً آخر أعظم وأضخم، فلم تمض أعوام قلائل حتى كان لمصر أسطول ضخم قوامه ست وثلاثون قطعة من مختلف الوحدات، بها ألف وثمانمائة مدفع؛ وبلغ رجاله نحو ثمانية عشر ألف مقاتل، وذلك في سنة 1843 أعني لأقل من قرن مضى. وكانت معظم هذه الوحدات البحرية من صنع دار الصناعة المصرية الشهيرة، وقليل منها اشترى من الخارج وأنك لتدهش حقاً إذا علمت أن الميزانية المصرية لم تزد إيراداتها في ذلك الحين على ثلاثة ملايين جنيه، وكانت هذه الملايين الثلاثة كافية للأنفاق على الجيش والأسطول، ومختلف المرافق والمشاريع الإصلاحية العديدة التي اضطلع بها مصلح مصر العظيم
هذا ولسنا نتحدث هنا عن أسطول مصر التجاري، وكيف كان طوال العصور الوسطى يأخذ بأعظم قسط في المواصلات البحرية بين مصر وثغور البحر الأبيض المتوسط، شرقه وغربه وشماله، وكيف كان إلى جانب أساطيل البنادقة والجنوبيين يأخذ بقسط وافر في تجارة الهند في تلك العصور
عرضنا هذه الخلاصة التاريخية ليرى القارئ كيف كانت مصر في عصور استقلالها دولة بحرية عظيمة، وكيف كان الأسطول المصري في تلك العصور عاملا من عوامل التوازن والاستقرار في شرقي البحر الأبيض المتوسط
والآن وقد استأنفت مصر حياتها الحرة المستقلة بعد فترة من المحن قلت فيها إرادتها وحرياتها؛ الآن وقد عادت تحمل على كاهلها أعباء الاستقلال وتكاليفه، وتعد أسباب الدفاع عن هذا الاستقلال، وتعيد تنظيم جيشها الباسل ليتبوأ مكانته التاريخية القديمة بين الجيوش الحديثة، فانه يلوح لنا أن حديث الأسطول المصري مما يناسب المقام والظروف.
وإذا كان من حسن الطالع أن تكون مصر صديقة وحليفة لبريطانيا العظمى أعظم الدول البحرية؛ وإذا كانت مصر تستطيع إلى حين أن تعتمد على معاونة حليفتها العظيمة في رد اعتداء المعتدين عليها وخصوصاً من البحر؛ وإذا كانت بريطانيا العظمى ترى من مصلحتها الحيوية أن تعاون بأقصى ما تستطيع في سلامة مصر من كل اعتداء خارجي، فإن ذلك كله لا يمنع مصر من أن تفكر في المستقبل وأن تتطلع إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تنظم لنفسها نوعاً من الدفاع البحري إلى جانب الدفاع البري والدفاع الجوي.
ونقول نوعاً من الدفاع البحري لأننا لا نطمع أن تغدو مصر دولة بحرية في المستقبل القريب؛ وإنما نطمع في أن يكون لمصر في الفرصة الملائمة قوة بحرية دفاعية تؤيد سيادتها في المياه المصرية وتقوم بقسطها من الدفاع عن الطوارئ والمفاجآت، وتكون نواة لأسطول مصر المستقبل. ذلك أن مصر باعتبارها دولة بحرية من دول البحر الأبيض لا نستطيع أن نقصى عن هذه الحقيقة إلى الأبد، ولا مندوحة لها من أن تساير تطور الحوادث والظروف
ولمصر أسوة بدول أخرى من دول البحر الأبيض ليست أكبر منها ولا أعظم موارد، مثل اليونان وتركيا؛ فكتاهما تملك قوة بحرية متواضعة، ولكنها في نفس الوقت تكفي لأغراض الدفاع المحلية، وكلتاهما تعتبر من الدول البحرية في هذه المياه
إن عصرنا الحاضر عصر التسليحات والأهبات الدفاعية؛ والبحر الأبيض التوسط ليس مكفول السكينة، بل يخشى أن يكون في المستقبل القريب مسرحاً لمنافسات وخصومات ربما أصاب مصر رشاشها؛ ومن بواعث الأسف أن تكون حقوق الأمم اليوم عرضة للإنكار والانتقاص من جانب بعض الأمم التي تعتد بقوتها؛ ففي مثل هذه الفترات المضطربة من الحياة الدولية التي يسود فيها قانون القوة، ترتجف الأمم الضعيفة إشفاقاً على مصايرها، وتستمد من بعض المحالفات القوية ما تعتمد عليه لدرء الخطر، ولكن ذلك لا يعفيها من واجب الأهبة والاستعداد قدر استطاعتها؛ وإذا كانت مصر لظروف خاصة قد تخلفت في هذا المضمار عن غيرها من الأمم، فان عليها أن تستكمل اليوم ما فاتها بالأمس، لكي تستطيع مسايرة الحوادث والظروف، ولكي تثبت قبل كل شيء أنها تحرص على استقلالها الذي نالته بعد طول كفاح
وهذه هي تكاليف الاستقلال الفادحة؛ فان استقلال الأمم لا تكفله الحقوق الدولية إذا لم تدعمه أهبة الدفاع؛ ومصر اليوم تبدأ في هذا الميدان حياة جديدة، وتعنى بتنظيم دفاعها يحفزها إلى هذا الواجب المقدس تاريخ جيشها المجيد؛ ولكن مصر أيضا دولة بحرية، وقد كان لها أسطول مجيد كما كان لها جيش مجيد. فلتذكر إذن تاريخ هذا الأسطول الذي بسطنا خلاصته في هذا الفصل؛ وإذا كانت ظروفها الحاضرة لا تفسح لها مجالا للعمل السريع في هذا الميدان، فان المستقبل القريب قد يمهد لها سبيل التفكير، وقد يمدها أيضا بالوسائل والموارد التي تعاونها على تحقيق هذا المشروع الحيوي الجليل.
محمد عبد الله عنان