مجلة الرسالة/العدد 213/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 213/الكتب
قلب غانية وقصص أخرى
تأليف الأستاذ محمود تميور
للأديب محمد فهمي عبد اللطيف
للقصة اليوم في الأدب العالمي خطر كبير، ومكانة معتبرة، فهي في الأمة مظهر رقيها الأدبي، وتقدمها الفكري، وهي وسيلة للكاتب يضمنها ما يريد من إبداء فكرة ناضجة، أو شرح ظاهرة اجتماعية، أو تحليل شخصية غريبة، أو توضيح عاطفة نبيلة، حتى قضايا التاريخ، ومسائل العلم، ومشاكل السياسة، كلها قد أصبحت تؤدي بالقصص، وتروي بالحكاية. ولعل من المعلوم أن القصة بمعناها الفني الدقيق لون جديد في الأدب العربي كان في طليعة المضطلعين بأعبائه المرحوم محمد تيمور الكاتب المسرحي مؤلف (الهاوية) و (العصفور في القفص) و (عبد الستار أفندي) وغيرها من القصص التي نسج بردها بأسلوب نازل، وأخرجها في لغة عامية مهلهلة، بحجة أنها أقرب إلى عقل الشعب، وأنفذ إلى قلبه، فكان في صنيعه هذا إرضاء للفن بالموضوع والفكرة وخذلان في الأداء واللغة. فلما استأثرت به المنية - عليه رضوان الله - قام من بعده سيد آخر هو الأستاذ محمود تيمور، فحاول أن يكون نبوغه جماع ما كان لأخيه من الروح الفنية، وما كان في نفس والده من النعرة العربية، فصار يكتب القصة بأسلوب مبين ابتعد فيه عن الجفوة والخشونة، وارتفع به عن السقط والابتذال، وكأني به قد ألفى نفسه وحيداً في الميدان، واستشعر عظم الأمانة الملقاة على عاتقه، فأخذ يسد الفراغ بكلتا يديه، وراح يعمل في نشاط وتوثب، مرهفاً العقل والحس، حتى أخرج للناس وللفن جملة طيبة من القصص الممتع، نشر جلها في الصحف وطبع منها نحو ثماني مجموعات آخرها هذه المجموعة التي بين أيدينا (قلب غانية وقصص أخرى) وهي موضع النظر، ومدار الحديث. . .
ثماني قصص أو قل ثمان قطع فنية هي التي تشتمل عليها هذه المجموعة مقدمة بكلمة المؤلف عن حافظ القصصي في يوم ذكراه. وقصص الكتاب تختلف طولا وقصراً، فأطولها (قلب غانية) التي وقعت في صدر الكتاب، وأقصرها قصة (أم) التي جاءت في ختامه، ثم هي أيضاً تختلف في جوها وبيئتها، وتتباين بأبطالها وشخصياتها، ففي قصة (حنين) يدلف بك تيمور إلى صميم الريف العظيم، فيستطيع أن ينقلك إلى (شمسه المحرقة وظلاله الوارفة، وهوائه الساخن، ونسميه اللطيف، وغدرانه الوديعة، وسواقيه الناعسة) حتى ليسمعك (خوار بهائمه، وأغاني فلاحيه) ويريك (البهائم متراصة أمام معالفها ورؤوسها محنية على العلف تأكل في شره فلا تسمع منها غير جرش وقضم وأنفاس ترددها بين الحين والحين)، وفي (قلب غانية) يقودك إلى (حي غير مشهور) إذ وراء جدرانه حب قائم، وغرام يضطرم، فيطلعك على طراز من الناس تجري بهم الحياة وهم بطئان، وتتغير الدنيا في تقاليدها وألوانها وهم لا يريمون مكانهم، إذ الحياة (لا تستحق عندهم أكثر من حشو البطون، والنوم ملء العيون وما لهم من الفراغ بعد ذلك فهم يقضونه (في اطمئنان وتبلد) بين النارجيلة والثرثرة حول سلوك الناس؛ وفي قصة (سراب) و (حورية البحر) و (السجينة) يأخذ تيمور بيدك إلى منابت الأرستقراطية، فإذا أنت في أسر من أفرادها الباشا والبك ومن أهون متاعها السيارة والمسرة، ولها الأمر والنهي، وفيها الخدم والحشم، والظئر والمربية، (حياة كلها رخاء وبهجة تسير وفق الهوى) وكل شيء فيها ميسور (المال والمرأة والأخوان) أما في قصة (قبلة) فتيمور يهبط بك إلى طبقة نازلة فإذا أنت في (حارة قديمة ضيقة عابثة خالية من المصابيح لا تكاد الشمس تغرب عنها حتى تستولي عليها وحشة كئيبة) وهناك ترى (الدخاخني والمكوجي وبائع الفول) وتتعرف على السايس والعربجي والزبال إلى آخر ما هناك من الأشخاص والمعالم.
فتيمور من غير شك قصص شعبي لا يختص منه بطبقة من الطبقات، ولا يقصر أدبه على طائفة دون طائفة، ولكنه يضرب في كل ناحية ويجري في كل حلبة، وإن من المدهش حقا أن نرى ذلك الأديب النابه موفقاً في كل قصصه، صادقا في كل ما يصف، فكأنه نشأ في كل هذه الطبقات وخالطها ولمس أحاسيس أهلها واستشف ما يجول في خواطرهم وما يدور بنفوسهم فهو من الجميع وللجميع، يستوعب شؤونهم ويتحفز لها بقوة واحدة هي قوة الملكة المصورة، والنظرة الشاملة، فكأنه - وهو يصف - مصور لا كاتب، وكأن ما يصفه مبسوط أمامه فهو ينقله على وضعه الطبيعي، ومن ثم كان أدب تيمور هو الصورة الصادقة للحياة المصرية في أدق نواحيها، فهو للسائح في بلادنا دليل مرشد، وهو للمؤرخ القادم مصدر ناطق، وهو للاجتماعي الباحث مادة نافعة
وهناك ظاهرة في أدب تيمور يعيبها عليه بعض النقاد، وهي خروجه على حدود الحشمة والوقار والأخذ بما يسمونه الأدب المكشوف، وإنك لتجد شيئاً من هذا في قصة السجينة، وقلب غانية، وسراب؛ وتيمور يدافع عن نفسه بأن (الأدب ليس له عنده غير اسم واحد هو الأدب بمعناه الواسع، وليس له إلا هدف واحد هو الفن). وأنا لا أريد أن أفيض القول في الأدب المكشوف والأدب المستور فإن القول في ذلك يطول، ولكني أريد أن أقول: إن من الخطل أن نتخذ الدين والأخلاق ميزاناً من موازين النقد فنطمس شعر النواسي مثلا لما فيه من العهر والفحش، وإنما الواجب أن تصور الحياة بالأدب، وأن نقدر الفن للفن، وأن نفرق بين الأديب والواعظ، والظاهر أن القدماء كانوا أسمح منا نفوساً في ذلك، فقد عاب بعض النقاد شعر ابن حجاج بما تضمنه من فحش المعاني، فقال ابن سنان الخفاجي يرد عليه: (وليس الأمر عندي على ذلك لأن صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل، ويطلب في كل واحد منها صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حد واحد. . .) فإن كان في قصص تيمور بعض النواحي المكشوفة فإن في الناس من يقبلها كما أن في الناس من ينكرها، وهي على كل حال ليست بعيب في يحصى على الرجل. . .
وأما بعد فهل استطاع تيمور أن ينجو من سنان هذا القلم؟ لقد حاولت أن أتلمس ما عليه فلم أقع إلا على هفوات طفيفة كأن يقول: (وكان كساب أفندي يرتدي زعبوطا!!) وأنا ما رأيت أفندياً يرتدي زعبوطا إلا في قصة تيمور
ثم هناك هفوات في اللغة والنحو قد يكون من السهل أن يتداركها الأستاذ في طبعة ثانية، وأنا لست ممن يتساهلون في الخطأ اللغوي والنحوي، لأن الكاتب الذي لا يراعي أشراط الكتابة هو فنان ناقص!! وإني لأشهد أن تيموراً قد ارتقى أسلوبه عن ذي قبل، وهو كل يوم في تقدم مطرد، وإني لأرجو له تقدماً أوفى وأتم.
محمد فهمي عبد اللطيف