مجلة الرسالة/العدد 213/الفلسفة الشرقية
مجلة الرسالة/العدد 213/الفلسفة الشرقية
بحوث تحليلية
بقلم الدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 15 -
كتاب البوذية
جمع تلاميذ بوذا الأولون حكمه وعظاته وتعاليمه ومناهج حياته العملية وضموا إليها قصصاً عجيبة وأساطير شيقة عن التجسد والتناسخ، وأخرى حوت كثيراً من معجزات بوذا وخوارقه للعادة وغير ذلك، فبلغت هذه المجموعة نحو عشرين مجلداً أطلق عليها كتاب (السلال الثلاث) ولكنها لم تكن مصونة صيانة (الفيدا) ولا صيانة (البيرانات) أو أي كتاب آخر من كتب البراهمة التي أقامت حولها القداسة سياجا من المناعة حفظها من التبديل. ولهذا مازج كتاب البوذية كثير من الخلط والعبث والانتحال حتى دس على بوذا ما لم يدر له بخلد أو يخطر له على بال.
تطور البوذية
لم تظل البوذية طويلا على هذه البساطة التي رأيناها، إذ لم تلبث أن تحولت إلى ديانة معقدة، فيها كثير من الظلمة والخفاء و (الماوراء) الطبيعيات، فبوذا قد تحول إلى إله خفي ذي أسرار عجيبة، منها أن الإله تجسد في بوذا، لينقذ البشرية بأن يحمل عنها عبء خطاياها القديمة، ويحول بينها وبين ارتكاب أخرى جديدة، لا بواسطة نشر نور المعرفة بين الناس كما كانت الحال في العهد الأول، بل بطريقة فيها من الأسرار العويصة ما يجعل الفرق بين العهدين بعيداً والخلف شاسعاً. وليس هذا فحسب، بل إن بوذا قد أصبح بعد هذا التطور رمزاً للإله المنقذ الذي جعل يجيء إلى هذا العالم الأرضي من حين إلى آخر، متقمصاً جسد أحد بني الإنسان، لينقذ البشرية في شخصه الذي يسمى في كل مرة: (بوذا) ويجري عليه ما لا يجري على أفراد بني الإنسان جميعاً من أكل وشرب وزواج وإن وغير ذلك من خصائص الأناسي. وقد كان بوذا الذي نحن بصدد مذهبه الآن هو الرابع من هؤلاء الأشخاص الذين تقمص الإله أجسادهم.
الفلسفة البوذية
لما تطورت البوذية على النحو الذي رأيناه آنفاً وخاضت فيما وراء الطبيعة، كان من المحتم أن يكون لها فلسفة، لاسيما وأن عناصر هذه الفلسفة موجودة في التعاليم الأساسية لهذه الديانة حيث قرر بوذا كما أسلفنا أن النجاة لا تتحقق إلا بعاملين متلازمين الزهادة والمعرفة، وأن من شأن الأولى أن توجد ديانة متصوفة، ومن شأن الثانية أن توجد فلسفة معقدة، وهذا هو الذي كان بالفعل، إذا أعلنت البوذية أن الإنسان لا يكون حكيما إلا إذا تمت له المعرفة، وهي لا تتم إلا إذا مر أمامه سلسلة مشاكل الكون المتماسكة الحلقات وأخذ في حل حلقاتها واحدة بعد واحدة. وعندها أن سلسلة المشاكل الكونية يجب أن يبدأ في حلها على النحو الآتي:
حيث إن الحياة مزيج من الألم والشيخوخة والموت، فأول الأسئلة التي ترد على الذهن هي: س: لم كان الموت؟. ج: لأننا ولدنا، ومن ولد يجب أن يموت. س: ولم ولدنا؟. ج: لأننا موجودون، والولادة والموت نوعان من الوجود، فالموت يقودنا إلى الحياة، والحياة تقودنا إلى الموت. س: ولم كان هذا الوجود؟ ج: لأننا خاضعون لارتباطات وثيقة بكل ما يغذي وجودنا، ولاسيما بالقوى الثلاث: المادية والنفسية والأخلاقية. س: ولم كان هذا الارتباط بالأشياء الخارجية أو الميل إليها أو الاتصال بها؟ ج: لأننا بالرغم من آلامنا الكثيرة نحس بظمأ إلى الحياة وشغف بها. س: ولم كان هذا الظمأ؟. ج: لأننا - وقد منحنا الإحساس - ننعطف بغريزتنا إلى البحث عن الإحساس اللذيذ، وهو يوجد في استمرار الحياة. س: ولم كان هذا الإحساس؟ ج: لأنه يوجد تماس بين أعضائنا وبين الأشياء الخارجية. س: ولم كان هذا التماس؟ ج: لأن لنا حواس ستاً تتجاوب مع ستة أنواع من الأشياء أو مع ست حقائق موضوعية وبالأحرى مع ستة اختصاصات. س: ولم كان الاختصاص؟ ج: لأن كل مشخص يتألف من كائنين: المادة والمدرك. ومعنى هذا أنه اسم وصورة في آن واحد. س: ومم جاءت الاسمية والصورية؟. ج: جاءت من أنه توجد معرفة، ووجود المعرفة يستلزم وجود كائن معنوي جدير بأن يعرف كما يستلزم وجود عملية المعرفة. س: ومم جاءت المعرفة؟ ج: جاءت من أن طبيعتنا مكونة من استعدادات شتى، وأن سلوكنا الحاضر وليد نتائج معارف سابقة. س: ومم جاءت هذه الاستعدادات؟. ج: جاءت من الجهل الطبيعي فينا، لأننا لو كنا نملك المعرفة الحقة لما سقطنا في السطحية التي تطبقها استعداداتنا تطبيقاً عملياً في كل لحظة.
السكون عند البوذية
كل شيء حركة دائمة، وليس هناك في الحقيقة كائنات موجودة، وإنما كل ما في الكون لا يزيد على أنه حالات لهذه الحركة الأبدية يمتاز بعضها عن بعض بفروق ناشئة من سنن طبيعية لا يؤلف بينها عنصر جوهري شامل، وإنما هي موجودة من نفسها وبفعلها تتكون حوادث الوجود. فإذا اتخذنا الإنسان مثلا كنموذج لبعض الظواهر الناشئة من السنن الكونية وجدناه مؤلفاً من خمسة عناصر: المادة والإحساس والإدراك والنمو والوجدان.
وترى الفلسفة البوذية أنه لا ثبات لأي واحد من العناصر على حالة واحدة، وتتخذ من هذا برهانها على أنه لا يوجد في الكون جوهر يؤلف بين الحوادث الكونية المشاهدة، إذ لو كان هذا الجوهر موجوداً لما كان كل ذلك التعقد الذي يرافق هذه الظواهر دائماً، ولشاهدنا فوق ذلك أثره الخاص، مع أن الواقع أنه لا يشاهد لغير الظواهر الطبيعية أي أثر، فمثلا الشهوة والجهل المجتمعان أبداً ينتجان أحداثاً، والأحداث تنتج انفعالات ينشأ عنها إدراك الكائن لأنَّيِته. وهذه الانفعالات وذلك الإدراك للأنية ينتجان الوجود الشخصي، وهذا الوجود الشخصي ينتج الحواس، والحواس تنتج التماس مع الأشياء، والتماس ينتج الإحساس، والإحساس ينتج الرغبات، والرغبات تنتج تشرب المشتهيات. وهذا التشرب ينتج الصيرورة، والصيرورة تنتج التوالد، والتوالد ينتج الألم والشيخوخة والموت، والموت ينتج الحياة بوساطة التناسخ، وهكذا تتكون دائرة الحركة المتداخل أولها في آخرها تداخلا محكما.
النفس عند البوذية
تنكر البوذية النفس كما تنكر كل ما وراء الطبيعة، ولكن آخر حلقة من هذه السلسلة المنطقية التي أسلفناها وهي حلقة التناسخ لا تلبث أن تخلق مشكلة عويصة وهي: إذا كان عنصر حياة مذهبكم هو التناسخ، فما هو ذلك الكائن الذي يتناسخ؟ فإن قلتم: إنه الجسم فلا يمكن أن يتناسخ جسم في جسم، لأنه يلزم عليه أن يتضخم هذا الكائن إلى ما لانهاية، أو أن يهذب منه شيء ويحل محله شيء آخر، فيترتب على ذلك تشويش في النظام لا حد له، إذ يعاقب البريء على جريمة الآثم، ويثاب المجرم على براءة البريء، وهذا لا يقبله عقل؛ وإن قلتم: إن ما يتناسخ هو شيء غير الجسد، قلنا لكم: ما المانع من أن يكون هو النفس؟ غير أن البوذية تنفلت من هذا الجواب كما شأنها كلما أحرجت بأسئلة ما وراء الطبيعة وتقول: إن هذا السؤال غير مفيد، لأن جوابه غير محدود مادامت عناصر الشخص بعد موته ليست عينه تماماً وليست غيره تماماً، وإنما هي مزيج من العينية والغيرية معاً
مصير البوذية
حينما نشأت البوذية كانت البراهمية قد خَلِقَتْ بعض الشيء، فاستطاعت تلك الديانة الناشئة أن تهزمها وتحصرها في أمكنة معينة من بلاد الهند، ولكن البراهمية لم تلبث أن استردت قوتها وحملت على البوذية حملة عنيفة أجلتها بها عن أكثر البلاد الهندية، حتى إذا فتح الإسلام الهند أجهز على البقية الباقية منها، ولكن هذه الديانة حينما أجلتها البراهمية في القرون الأولى للميلاد المسيحي لم تكن قد انعدمت من الوجود، وإنما كانت قد تفرقت شمالاً وجنوباً إلى الصين واليابان وجاوة وسومطرة، وظلت هاك حيث التقت بالإسلام فصدمها خصوصاً في جاوة وسومطرة صدمة قاسية لم تقو بعدها على المناهضة والغلاب فتخلت له عن الميدان معترفة بأن البقاء للأصلح، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
ولكن ليس معنى هذا أن البوذية قد انمحت من سجل الكون، كلا فهي لا تزال تحتل قلوب الملايين من بني البشر وإن كانت قد تبدلت تماماً وخضعت لأهواء الشعوب التي اعتنقتها وانهزمت أمام عاداتها وتقاليدها انهزاماً جعلها أثراً بعد عين. فبعض الشعوب مثلا أدخل فيها عبادة النساء، والبعض الآخر أدخل عبادة الفيلة محتجاً بأن بوذا قد تقمص أجسادها مرات متعددة، والبعض الثالث جعل من شعائرها أن يباح للكهنة والقديسين كل موبقة مهما بلغت فداحة ما فيها من عهر ومجون مادام هذا الكاهن يدعي أنه لا يحس أثناء هذا الفجور بسرور إلى غير ذلك مما لم يخطر لبوذا ولا لتلاميذه ولا لأنصاره الأولين ببال (يتبع)
محمد غلاب