مجلة الرسالة/العدد 211/وحي الثلاثين
مجلة الرسالة/العدد 211/وحي الثلاثين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
على مقطع من مقاطع الزمن الذي يبنيني، أقف مستدبراً مواكب الحياة الحاضرة، لأستعرض هذه العقود الثلاثة التي كونت جسمي ذرة ذرة، وملأت رئتي شهقة وأفرغتها زفرة، وسلسلت عقلي فكرة فكرة!
وأريد في وقفتي هذه أن يكون في روحي غيبوبة وامتداد، وفي ذاكرتي صحو واجتماع، وفي قلبي حنين واهتياج، وفي عقلي سكون وإدراك، وفي جسمي صحة ووقود، وفي قلمي حساسية وبيان. . . فإن الصور التي ارصدها مخبوءة في ركام من أيامي البالية التي لبستها أمام الشمس والقمر فطبعاها بالخاتمين (الأبيض والأسود) ثم نضوتها ومعها بسمة أو دمعة أو فكرة أو ذكرى، أو قطعة من قلبي أو هزة من جسمي في غرارة الطفولة أو ضحوة الصبا أو فوعة الشباب الذي يوشك أن يمضي به ما أشاب الصغير أفنى الكبير من كرّ الغداة ومرّ العشى. .!
أمسى! يا وادي الظلال الساكنة من حياتنا العاملة الناصبة. أنا الآن في حركة أدبار وارتداد إليك، في ساعة ليس لي فيها حاضر راهن يشغلني، ولا أمل غائب يغازلني، واقف فيك على أطلالي! ابحث فيها عن صور عيني ولها فيك ظلال، وأنغام أذني، ومنها بك أصداء. . بل أني لأبحث عن سري وميراثي من عهد آدم حادراً في الأصلاب متنقلا في الأحقاب في عالم غيبي ومشهدي!
فمن لي بما يروي لي ما بين مبتداي ويومي هذا. .؟ إنها شقة بعيدة احسب أنها تعي تهاويل الخيال المسعد!
وقد قالت (الفسلجة): إني صورة تتجدد فيها خلايا جسمي كل سبع سنين. . . فلست أنا الجسم الأول ولا الثاني ولا الثالث ولا الرابع. . . وليس في بقية منها، فإذا بحثت عن أجزائي التي ماتت وأبعاضي التي غيبت، فلن أجدها إلا في ذلك الجسم العظيم الذي أنا خلية منه: الأرض. ويالها من تيهٍ لمن يبحث!
إذاً يا روحي، أنت (المكان) الذي يمكن أن ابحث فيه عني: سراً كامناً في عالم الغيب، ثم نواةً فعقدةً فَلبّاً فثمرةً مدركة. فافسحي لي من شأنك العظيم واحرقي بخوراً يعد لي جواً أعيش فيه ساعة الذكرى!
ودخلت قدس الروح المعطر، ومعي ذلك (الصندوق العجيب) جمجمتي! أتحسس الشعاع الأول الهادي إلى مفتاح حياتي، فلم أرَ ولكني سمعت نجوى تقول:
(حينما طلبت شعلة الحياة حطباً جديداً قبل ثلاثين سنة، دفع بك وأنت (لاشيء) في غيبوبة الأزل على حبل نسل تناهي إليك من أبيك عن أبيه عن. . . آدم في صف كبير مع لداتك الذين أتى دورهم في الاحتراق. . . فانعقدت البذرة وتخلقت وركبت الذات ووضعت الذرة الصغيرة التي فيها كل ميراث آدم، واتصلت بها الشرارة الخفيفة المجهولة فدار قلبك الصغير فأضاف بنبضه صوتاً إلى ضوضاء الحياة. . وبحركته دفعاً إلى موكبها. . وبحرارته جمرةً في شعلتها. . . فاختلج آدم فَمَن والاه على السلسلة التي بينك وبينه، فرحاً بالامتداد والخلود. . واستبقت الملائكة والشياطين إلى احتلال الأمكنة فيك استعداداً للمعركة المقبلة. . . وعششت في قلبك الغربان والخفافيش السود، والحمامات البيض شأنها على كل غصن. . . وطارت عليك الذرات الجامدة التائهة لتكون لبناتٍ حيةً في البناء الجديد.
ثم فصلت عن المستودع التي التقى فيه أزلك وأبدك، وخرجت في موكب الربيع في أبريل سنة 1907 مع أوراقه وأزهاره وأغصانه وأفراخه. . كتلةً لحمية عمياء بكماء صماء. . فأسرع جو الأرض إلى رئتيك المختلجتين في ارتباك وسرعة لتلحقا حركة الحياة بالإحياء، وفتحت الأضواء أجفانك، وكل شعاع يريد أن يكون بشير النور ورسالة الشمس أم الحياة إلى (عدستك) الجديدة.
وكان أول صوت اقتحم أذنيك من ضجة الحياة، صوت الآلام. . آلام تكاليف الحياة وحمل أمانتها الفادحة التي عرضت (على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). . . صوت أمك. .
وبكيت من ازدحام هذه العوامل على جسمك الرقيق الغريب بينها فأذاقوا فاك لذته فسكت. . . وكان هذا أول درس عرفته من منطق أهل الأرض مع المزعجين.!
ثم عاشت هذه الكتلة طفيلية في حياة كحياة النبات، وفي فراغ كفراغ النائم ومضت الدنيا تدور كل يوم حول (صندوقها العجيب) فتدخل إليه على شعاع أو صوت أو طعم أو لمس لتثبت وجودها فيه أو لتخلق فيه خلقاً آخر على الأصح (والأكوان عداد العقول) كما يقول الرافعي العظيم.
وتفاعلت أشياء الدنيا مع أشياء القلب فأخذ الشخص الكامِن يبدو ويمتد فكل ذرة تلد وكل معنى يتركب من هذه الأبجدية وظهرت بعض النسب بين الأشياء، واشرأبت الأشياء إلى براهين وجودها. .
فقلت لصوت النجوى: أكانت الدنيا عدما قبلي؟!
فأجاب: قالت بعض الفلسفات: الدنيا فكرة!
قلت: لا! بدون برهان. . .
قال الصوت: أنت وأخوك قد خرجتما من مستقر واحد بجسمين مختلفين قد تقمصتك روح وتقمصته أخرى. أفرأيت لو خالف بينك وبينه فكنت إياه وكان إياك؛ أفلا كان العالم غير ما هو الآن عندك وعنده وعند الناس؟
فتأملت ولم أعط الجواب للآن.!
ثم أنقطع الصوت وابتدأت أرى في الجمجمة خيوط ضوء على حواء وآدم في شخصي ألام والاب، واسمع منها أهازيج الجنة وأصوات ولدانها في أصوات لداتي وأترابي بملاعب الطفولة، وأرى قطعة من سماء القاهرة والشمس فيها والقمر، فوق المكان الذي تيقظت فيه من الغيبوبة والذهول: حارة الروم. . . سقاها الحيا، فوقفت أبحث عن الطفل الصغير وضعفه وجهله وبراءته وفراغه وثيابه وحلواه وحيوانه وصورته التي كان يتعجب منها كثيراً. . . فوجدتها أشياء لا تزال تضحك كما كانت. . . وأنا أبكي بعلمي وأنوء بقوتي، وانفجر بامتلائي وأجن بيقظتي. .
ففتحت لها قلبي فكادت تنكره وتختنق بما فيه.
وقلت يا حمراء هل رجعة! ... قلت وهل يرجع ما فاتا!
ثم جاء العهد الذي رأيت فيه الدنيا في شخص المعلم لها عصا تلوح لي بها إلى الحق والواجب، والنفس والغير، وتشير بها إلى الأمام. . . إلى الغاية. . . إلى الرجولة، ثم تصلصل بالقيود حين يصلصل الجرس. . .
فصحوت لأعلام الطريق واستيقظت لصحبة ذلك الشخص الغامض المبهم الذي أبتدأ يضايقني بندائه، ويشغلني بأشيائه. . . أنا! فتمنيت وتخليت وتشبهت وجاء الأمل والعمل، وأسلمني الزمان إلى عهد الشباب بنداءاته وهزاته، وأقبلت الدنيا بإعراسها واحتوائها ومباهجها ومفاتنها تتحبب وتغازل وتغنى للثمرة الناضجة. . واستيقظت الشياطين والملائكة للمعركة التي رسمت خططها واحتلت لها الأمكنة في قلب الجنين، وحامت الحمامات والفراشات البيض، والأغربة والخفافيش السود، فتغيرت نبضات القلب وسمعت منه أصوات لا عهد لها ولا تاريخ. . وقال الجسد: هاأنذا. . . وقالت النفس: وها أنذي. . . وقالت الحياة: دونكما. . .
ووقفت أنا. . . أرى المعركة وأتفرس في القتلى والمصروعين بدهشة وأسف ولذة وعجب إلى يومي هذا، وهكذا يدور الصراع والقبر الموعد. . .
وارتسمت البشرية بعلومها وآدابها كلماتٍ على ذلك العرض الأبيض الذي في رأسي: فألف وياء، وواحد وألف، وأرض وبحر وسماء، ومادة وقوة، ومثلث ودائرة، وزنوج أفريقية وبيض أوروبا، وبوذا وفينوس، والجمل وزبلن، والسلحفاة والطيارة والراديو، والقبر والقصر، والحق والواجب. . وقيل وقالوا. . . ولست أدري بعد ذلك: أهو قبض على ريح.؟. أو إمساك على ماء؟! أو سراب على سبسب؟!
أيها الدهر الذي صحبته ولبسته ذرة صغيرة إلى أن صرت كوناً فيه قلب وعقل! هاأنذا كواقف في صحراء تلتقي بها على مدى بصره آفاق السماء، إذا تلفت وراءه وجد إبهاماً وغموضاً وإذا تطلع أمامه وجد إبهاماً وغموضاً. . .
وددت لو أني كنت الرجل الأول لأشهد نشأة الإنسان والرجل الأخير لأشهد فناء الإنسان. . . الإنسان الواحد الهائل الذي يتمثل في هذه الأشخاص التي تمتلئ بها الأرض وتفرغ منها كل لحظة. . . الإنسان الذي وقع عليه كل الضوء وكل الظلام. . . وددت هذا لأعرف! ولكن ليس لي متقدم عن زماني هذا ولا متأخر.
يا لبنات الجسد. . . يا قلبي الذي لم أره ولن أراه. . يا أعضائي وأجزائي التي تجمعت لأكون. . .
يا ناصيتي وقدمي، وأهابي وفؤادي وظاهري وباطني. . .!
أما سئمتن الألفة تحت هذا الرباط الضاغط، فترون الفكاك والانطلاق؟
إني اشعر أن حملتكن إصراً، وأرهقتكن من أمري عسراً، وآذيتكن من جوار روحي: بيت النار!
إني يقظ للصحبة وفيٌّ للرفقة في هذه الرحلة، لا أبخل عليكن بالنظرة الراثية!
أيتها الأيام المقبلة التي فيها الأعباء الكبيرة والصحو من الرؤى والأحلام، وبلوغ القمة ثم الانحدار إلى الحفرة التي فيها الدوام والقرار. .
أعيذ حرارة قلبي من يدك الباردة. .، وما وراء قلبي فهو لسطوة قوانينك، وصرامة نواميسك. فهذا شعري فاصبغيه بلون الكفن. . . وجلدي فسجلي فعلك بتجعيده، وقدماي فافتلي قيدهما، وأوصالي فافصمي عراها، وإن شئت فاغلقي عيني وأحوجي سمعي إلى ترجمان، واجعليني كجذع هصرت غصبونه وذهبت حلاه وفنونه. .
أما قلبي فدعيه لي بأوتاره وأشواقه، صوتاً أخيراً وصاحباً محدثاً أعيش معه يوم يدبر الناس وتزيغ الحواس؛ حتى تطلبني الأرض جسداً تأكله!
عبد المنعم خلاف