انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 210/شخصيات مجهولة في الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 210/شخصيات مجهولة في الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 210
شخصيات مجهولة في الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1937



إبراهيم بن سهل الأشبيلي

بقلم محمد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي

كثيراً ما رأيت من بعض الأدباء جهلاً شائناً بذلك الشاعر المطبوع إبراهيم بن سهل؛ فخدمة للأدب، وإحياء لذكره، أتقدم بهذه الكلمة الموجزة إلى صحيفة العلم و (رسالة) الأدب، راجياً أن أتبعها أخرى إن سمحت لي الظروف وكان في صفحات الرسالة متسع

نسبه، ميلاده، وفاته

هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بعيش بن سهل الاشبيلي، نسبة إلى إشبيلية مدينة من أعظم المدن الأندلسية. ولد سنة ستمائة وتسع عشرة هجرية، ومات غريقاً في البحر وهو أبن أربعين، سنة ستمائة وتسع وخمسين هجرية كما ذكره أبو الحسن الخزرجي

قال صاحب نفح الطيب: غرق وهو أبن أربعين سنة في البحر. وقيل وقد جاوز الأربعين. ولما غرق قال فيه بعض الأكابر: عاد الدار إلى وطنه. وذكر مالك بن المرحل في غرقه قصة طويلة، خلاصتها أنه كان من كتاب أبي علي بن خلاص صاحب سبتة فأرسله مع أبنه المستنصر ملك تونس فغرقا في البحر لشدة هيجانه. ولما بلغ المستنصر غرق ابن سهل قال: عاد الدر إلى وطنه.

إسلامه

كان يهودياً وأسلم، وقد أختلف العلماء والمؤرخون في صحة إسلامه، فمن قائلا إن إسلامه كان ظاهراً وباطناً، ومن قائل أنه في الظاهر فقط. ولا بأس أن أنقل هنا بعض أقوال الفريقين. قال محمد صغير الأفراني المراكشي: كان يهودياً ثم من الله عليه بالدخول في الملة المحمدية وحسن إسلامه. وقد مدح النبي بقصيدة بارعة، قال أبو حيان وقفت عليها، وهي من أبدع ما نظم في معناها. وقال العزفي: كان يتظاهر بالإسلام ولا يخلو من قدح أو اتهام. وقال ابن مرزوق: صحح لنا من أدركنا من مشائخنا أنه مات على الإسلام. وقال صاحب نفح الطيب: اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس فسألوه - لما أخذت منه الراح عن إسلامه - هل هو في الظاهر والباطن أم لا؟ فأجابهم: للناس ظهر ولله ما استتر. وقال ابن سعيد القيسي في كتابه القدح المعلى: كتبت إلى ابن سهل أستدعيه إلى أنس بثلاث أبيات فأجابني سراعاً بأبيات آخرها

سآلفها إلف العتيق كتابه ... ولأشتهي ورداً سواها لدى الخمر

فلما وصل أظهرت استحسان سرعة جوابه غير أني أنكرت عليه منزع بيته الأخير فقال: أليس في الجنة نهر خمر؟ فقلت: بلى فقال: حسبي لا أبغي به بدلا. فقلت: بحرمة ما بيننا إلا ما أصدقتني هل أنت على دين أسلافك، أم على دين المسلمين، وأزلت عني شك الناس فيك. قال: للناس ما ظهر ولله ما استتر. وقال في عنوان الدراية: سمعت شيخنا أبا الحسن الأندلسي يقول: شيئان لا يصحان: إسلام ابن سهل وتوبة الزمخشري من الاعتزال. وقد أستدل الأفراني المراكشي على حسن إسلامه بقوله:

تسليت عن موسى بحب محمد ... ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي

وما عن قلى قد كان ذاك وإنما ... شريعة موسى عطلت بمحمد

جاعلاً أنه قصد بموسى الكليم عليه السلام، وبمحمد نبينا عليه الصلاة والسلام، وعندي أنه لا دليل في هذين البيتين (رغم اعتقادي حسن إسلامه)، وأن موسى المذكور غلام كان يعشقه، وذكر أسم محمد تورية، وقد جاء ذكر موسى هذا في شعره كثيراً، من ذلك قوله:

كساني موسى من سقام جفوله ... رداء وأسقاني من الحب أكؤسا

وقوله:

ليس ثاري على موسى وحرمته ... بواجب وهو في حل إذا وجبا

وقوله:

أشاعوا أنني عبد لموسى ... نعم صدقوا عليّ بما أشاعوا

وفي بيتيه الآتيين فصل القول أنه معشوقه لا الكليم عليه السلام:

موسى تنبأ بالجمال وإنما ... هاروت لا هارون من أنصاره

إن قلت فيه هو الكليم فخده ... يهديك معجزة الخليل بناره

شهادات العلماء فيه

قال ابن القاضي في كتابه درة الجمال: كان ابن سهل ممن أنتحل صناعة القريض فافتن بها وتصرف، وعنى بعالم الأدب فوعى وصرف، إلى أن بلغ الغاية في الشعر فصار فيه أوحد، لا ينعت ولا يحد. وقال أبو حسن الخزرجي في كتابه إعلام الزمن: إبراهيم بن سهل كان شاعر زمانه أسلم بعد يهوديته ومدح النبي بقصيدة بديعة. وقال مالك ابن المرحل: كان معنا ابن سهل وحسن إسلامه، ولازم صلاة الجماعة، ونظر في الأدب فنبغ في الشعر. وقال الأفراني: وإن من تتبع مقطعاته علم أن له خبرة واسعة بفن العربية كقوله:

أموسى أيا كلي وبعضي حقيقة ... وليس مجازا قولي الكل والبعضا

خفضت مقامي إذا جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا

وفي هذين البيتين تنكيت على أبي القاسم الزجاج إذ قال في جملة: (وإنما قلنا بدل الكل والبعض مجازا) وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظمه، فقال: لأنه أجتمع فيه ذلان: ذل العشق وذل اليهود.

عفافه

وقد كان فيما يظهر من كلامه عف الإزار، وبيته المشهور من أعظم الأدلة على ذلك وهو:

وأبى عفافي أن أقبل تغره ... والقلب مطوي على جمراته

وقوله:

بتنا نشعشع والعفاف نديمنا=خمرين من غزلي ومن كلماته

وقد ذهب ابن القاضي في شرحه لأبيات الذهبي لما تعرض لابن سهل إلى أن هذا من صناعته لا طبيعته، ولعمري إن هذا منه توريك وتحامل؛ وإلا فأي مانع من أن يكون العفاف فيه سجية؟

شعره:

وله ديوان شعر مشهور، وقفت عليه وهو في غاية الجودة، ولا بأس أن أثبت هنا من شعره ما يرخص الدرر، ويكون في هذه الأسطر بمثابة الغرر من ذلك قوله:

مضى الوصل إلا أمنية تبعث الأسا ... أداري بها همي إذا الليل عسعسا

أتاني حديث الوصل زوراً على النوى ... أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا

ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا ... أصبت الأماني خذ قلوباً وأنفسا وقوله:

قالوا سيسلبك العذار سفاهة ... وحصاد عمري في نبات عذاره

إن لم أمت قبل العذار فعندما ... يبدو أيسلم عاشق بفراره

مثل الغريق نجا فوافى ساحلا ... قاذا الأسود روابض بجواره

إن العذار صحيفة تتلو لنا ... ما كان صان الحسن من إسراره

وقوله:

يا حسنه والحسن بعض صفاته ... والحسن مقصور على حركاته

صافحته والليل يذكي تحتنا ... نارين من نفسي ومن وجناته

أوثقته في ساعدي لأنه ... ظبي خشيت عليه من نفراته

والقلب يرغب أن يصير ساعدا ... ليفوز بالآمال من ضماته

وقوله:

نظر جرى قلبي على آثاره ... خلع العذار فلالعاً لعثاره

يا وجد شانك والزمان وخلني ... ما المرء مأخوذ نزلة - جاره

دنف يغيب عن الطبيب مكانه ... لولا ذبال شب من أفكاره

للدمع خد فوق صفرة خده ... فتراه مثل النقش في ديناره

وقوله:

ردوا على طرفي النوم الذي سلبا ... وخبروني بقلبي أية ذهبا

علمت لما رضيت الحب منزلة ... أن المنام على عيني قد غضبا

فقلت وا حربا الصمت أجدر بي ... قد يغضب الحسن إن ناديت وا حربا

وقوله:

يقولون لو قبلته لأشتفي الجوى ... أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا

ولو غفل الواشي لقبلت نعله ... أنزهته أن أذكر النحر والثغرا

ومن لي بوعدٍ منه أشكو بخلفه ... ومن لي بوعد منه أشكو به الغدرا

وما آنا ممن تحمل الريح شوقه ... أغار حفاظاً أن أبوح له سرا

وقد أبدع في فنون البيان وأتى في شعره منها بالعجب العجاب. فمن أحسن توجيهه قوله: لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي ... فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد

فبالله برد ما بقلبي من الجوى ... بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد

وله موشح كبير، أبدع فيه وأجاد، تبارى العلماء في شرحه وإظهار معانيه ودرره، برهن فيه على سعة باعه في العربية والصناعة الشعرية، أوله:

هل درى ظبي الحمى أن قد حما ... قلب صب حله عن مكنس

فهو في جر خفض مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبس

ولعلي في فرصة أخرى أتمكن من شرح بعض أبياته وإبراز مكنوناته والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.