انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 210/الفلسفة الشرقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 210/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 12 -

النفس - خلودها - التناسخ

رأيت فيما أسلفنا من مستحدثات عهد التطور تلك النظرية الفلسفية العميقة التي تقرر أن الوجود المادي باطل، ولكنه مشتمل في داخله على جوهر سام هو وحدة الحقيقة في كل موجود، ورأيت كذلك أن هذه النظرية لم تقتصر على كائن في الوجود دون كائن، فهي قد تناولت الآلهة والأناس والحيوان والنبات، غير أن أهم ما يعني الباحث في هذا الجوهر الحق المختبئ وراء الأستار المادية إنما هو النفس.

وقد عني خاصة اليهود بها عناية شديدة منذ أقدم عهودهم بالتفكير، فقرروا أنها هي الجوهر الحق في الإنسان؛ ولذلك أطلق عليها أسم الإنسان لأنهم اعتبروا الجسم بدونها باطلاً لا يستحق أن يدل على الإنسان كما تدل عليه النفس. ولا شك أن الباحث حين يتأمل هذه النظرية للوهلة الأولى يلمح فيها عناصر نظرية (أفلاطون) في النفس والمادة حيث يقرر أن النفس هي وحدها النور الخالد والحق الأسمى في الإنسان، أما الجسمان المادي فأنه خيال باطل لا تطلق عليه كلمة (حقيقة) إلا تجوزاً، لحلول النفس فيه ولصوغه على نماذج المثل التي أبنا أن عناصرها مصرية.

ويرى فلاسفة الهند أن النفس جاهلة بالفعل عالمة بالقوة، وأن الجهل والعلم صفتان متعاقبتان عليها باختلاف الظروف والأحوال. ولا جرم أن الهنود قد سبقوا (أرسطو) بعدة قرون إلى نظرية جهل النفس بالفعل وعلمها بالقوة وفوزها بالعلم الفعلي عن طريق الكسب والتجربة، تلك النظرية التي يبسطها أرسطو بسطاً واضحاً حين يرد على أفلاطون القائل بأن النفس كانت عالمة بالفعل قبل أن تحل الأجسام المادية ثم نسيت تلك المعارف بعد حلولها في المادة الكثيفة، وهي الآن لا تتعلم شيئاً جديداً، وإنما نتذكر ما كانت قد تعلمته الماضي ثم نسيته.

والنفس عند الهدوء خالدة لا يعتورها الفناء، لأنها هي كل ما في الإنسان من حقيقة كما أسلفنا، ولهذا فهم لا يعتبرون الموت أكثر من تغيير ثياب النفس ومآويها، إذ إنها هي لا تتعرض بالموت لأي شئ إلا انتقالها من مأوى إلى مأوى بما يسمونه التناسخ أو التقمص. وقد أفاضت الكتب الهندية دينية وفلسفية في هذه العقيدة أو النظرية إفاضة جعلتها كأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهاك شيئاً مما نقله لنا البيروني خاصاً بعقيدة خلود النفس وتقمصها:

قال (باسديو) لـ (أرجن) يحرضه على القتال وهما بين الصفين: (إن كنت بالقضاء السابق مؤمناً فأعلم أنهم ليسوا ولا نحن معاً بموتى ولا ذاهبين ذهاباً لا رجوع معه، فأن الأرواح غير مائتة ولا متغيرة، وإنما تتردد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثم الشيخوخة التي عقباها موت البدن ثم العود. وقال له: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أن النفس أبدية الوجود لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم، بل هي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، لكنها تنتقل عن بدنها إذا عتق نحو آخر ليس كذلك كما يستدل البدن واللباس إذا خلق. فما غمك لنفس لا تبيد، ولو كانت بائدة فأحرى ألا تغتم لمفقود لا يوجد ولا يعود. فان كنت تلمح البدن دونها وتجزع لفساده فكل مولود ميت، وكل ميت عائد، وليس لك من كلا الأمرين شيء، إنما هما إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير). ولما قال له (أرجن) في خلال كلامه: (كيف حاربت براهم في كذا وهو متقدم للعالم سابق البشر، وأنت الآن فيما بيننا منهم معلوم الميلاد والسن؟). أجابه قال: (أما قدم العهد فقد عمني وإياك معه، فكم مرة حيينا حقباً قد عرفت أوقاتها وخفيت عليك، وكلما رمت المجيء للإصلاح لبست بدناً، إذ لا وجه للكون مع الناس إلا بالتأنس). وحكى عن ملك أنسيت أسمه أنه رسم لقومه أن يحرقوا جثته بعد موته في موضع لم يدفن فيه ميت قط، وأنهم طلبوا موضعاً لذلك فأعياهم حتى وجدوا صخرة من ماء البحر ناتئة فظنوا أنهم ظفروا بالبغية. فقال لهم باسديو: إن هذا الملك قد أحرق على هذه الصخرة مرات كثيرة فافعلوا ما تريدون فانه إنما قصد إعلامكم وقد قضيت حاجاته)

وقال باسيديو: فمن يؤمل الخلاص ويجتهد في رفض الدنيا ثم لا يطاوعه قلبه على المبتغى أنه يثاب على عمله في مجامع المثابين، ولا ينال ما أراد من أجل نقصانه، ولكنه يعود إلى الدنيا فيؤهل لقالب من جنس مخصوص بالزهادة ويوفقه إلى الإلهام القدسي في القالب الآخر بالتدرج إلى ما كان أراده في القالب الأول، ويأخذ قلبه في مطاوعته ولا يزال يتصفى في القوالب إلى أن ينال الخلاص على توالي التوالد)

وقال في كتاب (سانك): أما من أستحق الاعتلاء والثواب فانه يصير كأحد الملائكة مخالطاً للمجامع الروحانية غير محجوب عن التصرف في السموات والكون مع أهلها أو كأحد أجناس الروحانيين الثمانية. وأما من أستحق السفول بالأوزار والآثام، فانه يصير حيواناً أو نباتاً أو يتردد إلى أن يستحق ثواباً فينجو من الشدة أو يعقل ذاته فيخلى مركبه ويتخلص.

قال صاحب كتاب (باتنجل): إفراد الفكرة في وحدانية الله يشغل المرء بالشعور بشيء غير ما اشتغل به، ومن أراد الله أراد الخير لكافة الخلق من غير استثناء واحد بسبب، ومن اشتغل بنفسه عما سواها لم يصنع لها نفساً مجذوباً ولا مرسلاً. ومن بلغ هذه الغاية غلبت قوته النفسية على قوته البدنية. فمنح ألا فتدار على ثمانية أشياء بحصولها يقع الاستغناء، فمحال أن يستغني أحد عما يعجزه واحد. تلك الثمانية هي: التمكن من تلطيف البدن حتى يخفى عن الأعين؛ والثاني التمكن من تخفيفه حتى يستوي عنده وطء الشوك والوحل والتراب؛ والثالث التمكن من تعظيمه حتى يراه في صورة هائلة عجيبة؛ والرابع التمكن من الإرادات؛ والخامس التمكن من علم ما يروم؛ والسادس التمكن من الترؤس على أية فرقة طلب؛ والسابع خضوع المرؤوسين وطاعتهم؛ والثامن انطواء المسافات بينه وبين المقاصد الشاسعة.

تقاليد البراهمة

كتب كثير من العلماء الفرنجة المحدثين المشتغلين بتاريخ الفلسفة حول تقاليد البراهمة وطقوسهم الدينية، فهممت بأن ألخص لك هنا ترجمة ما كتبوه من هذه التقاليد على نحو ما فعلت في الطقوس المصرية، ولكني وجدت ما كتبه أولئك العلماء ليس إلا هيكلاً عظمياً إلى جانب ما نقله أبو الريحان البيروني عن هذه التقاليد، فلم يسعني إلا العدول عن الناقص إلى الكامل أو القريب من الكمال. وكنت أحب أن ألخص هذا النص في عبارات من عندي لكي لا أكثر من النقل عن الغير، ولكن ضرورة الاصطلاحات الفنية من جهة وخلو كلام البيروني من الحشو في هذه النقطة من جهة أخرى قد ألجأني إلى الآتيان بالنص لتحقيق الفائدة المرجوة. وهاك ما قاله البيروني عن هذه التقاليد:

عمر (البرهمن) بعد مضي سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام: فأول القسم الأول هو السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيه وتعريفه الواجبات عليه وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حياً ثم يشدون وسطه بزنار ويقلدونه زوجا من (جنجوي) وهو خيط مفتول من تسع قوى، وفرد ثالث معمول من ثوب يأخذه من عاتقه الأيسر إلى جانبه الأيمن ويعطي قضيباً يمسكه وخاتم حشيشة يسمى (دربهى) يتختم به في البنصر اليمنى، ويسمى هذا الخاتم (ببتر) والغرض فيه التيمن والبركة في عطاياه من تلك اليد، والتشديد فيه دون التشديد في أمر (جنجوي) فأن جنجوي مما لا يفارقه البتة، فأن وضعه حتى أكل أو قضى حاجته خالياً عنه، كان بذلك مذنباً لا يمحصه عنه غير الكفارة بصوم أو صدقة. وقد دخل في القسم الأول إلى السنة الخامسة والعشرين من سنيه، ووجدت ذلك في (بشن بران) إلى السنة الثامنة والأربعين. والذي يجب عليه فيها هو أن يتزهد ويجعل الأرض وطاءه ويقبل على تعلم (بيذ) وتفسيره وعلم الكلام والشريعة من أستاذ يخدمه أناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقيم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لأستاذه بعد القربان، ويصوم يوماً ويفطر يوماً مع الامتناع عن اللحم أصلاً، ويكون مقامه في دار الأستاذ ويخرج منها للسؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي أستاذه، ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه ويحمل إلى النهار حطبها من شجرتي: (بلاس) و (دوب) لعمل القربان؛ فالنار عندهم معظمة وبالأنوار مقترنة، وكذلك عند سائر الأمم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليه ولم يثنهم عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر وحمير أو صور.

وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين، وفي (بشن براين) بدل هذه الخمسين سبعون، وفيه يأذن له الأستاذ في التأهل فيتزوج ويقيم (الكذخداهية)، ويقصد النسل، على ألا يطأ امرأته في الشهر أكثر من مرة عقب تطهر المرأة من الحيض، ولا يجوز له أن يتزوج بامرأة قد جاوز سنها اثنتي عشرة سنة، ويكون معاشه إما من تعليم (البراهمة وكشتر) وما يصل إليه منه فعلى وجه الإكرام لا على وجه الأجرة، وإما من هدية تهدى إليه بسبب ما يعمل لغيره من قرابين النار، وإما بسؤال من الملوك والكبار من غير إلحاح منه في الطلب أو كراهة من المعطى فلا يزال يكون في دور هؤلاء (برهمن) يقيم فيها أمور الدين وأعمال الخير، ويلقب: (برهت)، وإما من شيء يجتنيه من الشجر أو يلتقطه من الأرض، يجوز أن يضرب يده في التجارة بالثياب وبالفوفل، وإن لم يتولها واتجر له (بيش) كان أفضل، لأن التجارة في الأصل محظورة بسبب ما يداخلها من الغش والكذب، وإنما رخص فيها للضرورة، إذ لا بد منها، وليس يلزم البرهمن للملوك ما يلزم غيره لهم من الضرائب والوظائف. فأما التتابع بالدواب والبقر والأصباغ والانتفاع بالربا فأنه محرم عليه، وصبغ النيل من بين الأصباغ نجس، وإذا مس جسده وجب عليه الاغتسال ولا يزال يقلس ويقرأ على النار ما هو مرسوم لها.

وأما القسم الثالث، فهو من ألسنة الخمسين إلى الخامسة والسبعين، وفي (بشن) بدل الخمسة والسبعين تسعون، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من الكذخداهية ويسلمها والزوجة إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الأصحار، ويستمر خارج العمران على السيرة التي سارها في القسم الأول، ولا يستكن بسقف ولا يلبس إلا ما يواري سوءته من لحاء الشجر، ولا ينام إلا على الأرض بغير وطاء، ولا يتغذى إلا بالثمار وبالنبات وأصوله، ويطول الشعر ولا يتدهن.

وأما القسم الرابع فهو إلى أخر العمر يلبس فيه لباساً أحمر ويأخذ بيده قضيباً ويقبل على الفكرة وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ورفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحداً البتة، فان قصد موضعاً ذا فضل طلباً للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع أحد إليه شيئاً لم يترك منه للغد بقية، ولم يكن غير الدؤوب على شرائط الطريق المؤدي إلى الخلاص والوصول إلى (موكش) الذي لا رجوع فيه إلى الدنيا.

وأما ما يلزمه في جميع عمره بالعموم فهو من أعمال البر وإعطاء الصدقة وأخذها، فأن ما يعطي البراهمة راجع إلى الآباء ودوام القراءة وعمل القرابين والقيام على نار يوقدها ويقرب لها ويخدمها ويحفظها من الانطفاء ليحرق بها بعد موته، واسمها (هوم)، والاغتسال كل يوم ثلاث مرات في سند الطلوع وهو الفجر، وفي سند الغروب وهو الشفق، وفي نصف النهار بينهما، أما بالغداة فمن أجل نوم الليل واسترخاء المنافذ فيه فيكون طهراً من كائن النجاسة واستعداداً للصلاة، والصلاة هي تسبيح وتمجيد وسجدة برسمهم على الإبهامين من الراحتين الملتصقتين نحو الشمس فإنها القبلة أينما كانت خلا الجنوب، فليس يعمل شيء من أعمال الخير نحو هذه الجهة، ولا يتقدم إليها إلا في كل شيء رديء. وأما وقت زوال الشمس عن نصف النهار فانه مرشح لاكتساب الأجر، فيجب أن يكون فيه ظاهراً، والمساء وقت العشاء والصلاة، ويجوز أن يفعلهما من غير اغتسال، فليس أمر الاغتسال الثالث مثل الأول والثاني في التأكد، وإنما الاغتسال الواجب عليه في الليل وفي أوقات الكسوفات بسبب إقامة شرائطها وقرابينها. وتغذي البرهمن في جميع عمره في اليوم مرتين عند الظهيرة والعتمة، فإذا أراد الطعام أبتدأ بإقرار الصدقة منه لنفر أو نفرين وخاصة للبراهمة المتوحشين الذين يجيئون وقت العصر للسؤال، فأن التغافل عن إطعامهم إثم عظيم، ثم للبهائم والطير وللنار ويسبح على الباقي ويأكله، وما فضل منه فيضعه خارج الدار ولا يقرب منه إذ لا يحل له، وإنما هو لمن سنح واتفق من محتاج إليه، سواء أكان إنساناً أو طائراً أو كلباً أو غيره، ويجب أن تكون آنية مائه على حدة وإلا كسرت، وكذلك آلات طعامه. وقد رأيت من البراهمة من جواز مؤاكلة أقاربه في قصعة واحدة وأنكر ذلك سائرهم.

(يتبع)

محمد غلاب