مجلة الرسالة/العدد 209/من روائع أدب الغرب
مجلة الرسالة/العدد 209/من روائع أدب الغرب
ناقوس القرية
لشاعر الحب والجمال: ألفونس دي لامرتين
الحياة: موجة في خضم تأوهات، صبرها الشهد، كأس المجد،
تملأ بالعبرات.
(لامرتين)
كالزفرات تعلو خفقات الناقوس الخاشع المتئدة. الإحراج تمسكها. الوديان تبددها. يد الصغير، توازن كأسه، وتفرغ نغمات الروض العلوية، في نسيم الليل المدلهم.
رجف من أصواته العالية، جزع من خفقاته المتوالية. البلبل يطير تاركا بيته المضطرب مياه الغدير المتموجة، تجنى الأزهار اليانعة من جوانبه. أرملة القرية، تركع لصدى نغماته تترك خيط مغزلها لترسل الرحمات للموتى.
يوقظ في قلبي، غناء هذا البرج الرنان. . .
لا سرور النهار الذي انتهى،
ولا بؤس اليوم الذي انقضى،
ولا صور الماضي الفتية، والذكريات الغنية، التي تهدمت في هذه الطرقات بين الأنوار الذابلة.
لا نومي الهادئ في ظلال أغصان الدلب الندية،
ولا أول نسمة في حياتي،
ولا صوت أقدامي التائهة، فوق هذه الذروات العالية، ولا السرور العظيم تحمله إلى موجاتك يا نسيم الصبا، المثقل بالروائح العطرة التي لا تنضب.
لا ذكرى الجواد الواقف في المرج وقد لوى عنقه الحريري على يدي المدربة، ومزج ضفائر عنقه، بشعرات رأسي الشقراء، والأرض ترن تحت سنابكه القوية كالسندان، بي ردفه يحملني، وزبد شدقيه يكسو فضة ناصعة حشائش الوادي.
لا الحب نفسه. . .
الحب، الفجر الأول في الحياة.
حيث شهور الربيع تجري ماء الحياة في نسغ النبات، فتزهر العقول وتخضر الأحراج.
في الظلال أصوات العذارى الحاملات الجرار لملئها من الينبوع، تصل لسمعي وئيدة، فتدب في جسدي الرعشة ولا أنت. . .
أنت التي أبكيك أبدا،
الفورة الأولى لدمي،
صوت الفؤاد الذي يفنى، ويوقظ في روحي الدمدمة السحرية، معطرة بالعنبر، فتنثر في الأجواء رياح الشعر
أواه. أيها المجد، ولا أنت. . .
لا الشتاء يحمل إليك دون أسف أيامي مع بقايا الأعشاب الفارغة من الحب.
ونثرات الأوراق الذابلة، وصدى المجد الفارغ.
أعشاب الطريق، مزروعات علوية، تعطر الأقدام، ولكن جذورها لا تغرس في القلوب.
لا أكاليل الأعراس، يقطفون زهورها في المساء. فيسممها الحقد، ويذبلها الحسد.
ولا ما يهب الحياة نشوة، تاج المجد المحطم تحت يدي. الزهرات المعارة، لا تمسكها ساق، تذبل وتجف، ثم تقع من فوق الحبيين
هو ذاك اليوم.
أصواتك ممتزجة بزفرات امرأة، مخضلة بالعبرات، مترعة باليأس، رنت في أرجاء الوادي، تبكي نعشين مرا، يجللهما الحزن، ويسبل عليهما الألم رداءة،
في قبر واحد، دفنت أرواح ثلاثة ونسيت على حافة اللحد.
من الفجر حتى الليل، من الليل حتى الفجر، تذرف الدمع أيها الناقوس. كما أذرفه. تجمع بين قلبينا زفرة محرقة. الأهوية والسماء تردد نواحك، كما لو فقد كل كوكب أمه، وكل نسيم ولده.
من ذلك اليوم رنانك المقدسة ارتسمت في ذاكرتي المفجعة. وامتزجت بكأس آلامي المترعة. اختلطت زفراتك بأصوات قلبي، وتردد صداها في أنحائه. معدنك الرنان المغموس في اللهيب يماثلني عندما يبكي، هو قطعة من روحي، يوقع عليها ملاك نغماتك.
أرقد لغفلتك، وانهض ليقظتك. صوت نعيك، صديق تسمعه أذناي. بين رنين الأجراس، أفرق نغمتك. تغمرني موجاتك. كالأجراس تعلو في جنباتها رنات بعوضة طائرة.
أقول لنفسي: هذه الزفرة الحزينة المبهمة، يحملها إلي نسيم الليل العميق، موجة اثر موجة. أواه لأجلي تتردد هذه الأصوات العالية. أفهم ما يقول. ويدرك ما أفكر. والهواء الجاهل في هذا السكون المحتدم يحمل إلى لهجته المؤثرة.
أقول لنفس: صوت هذا المعدن المتردد، قبل أن يصل إلى قلبي، ويغمر جنباته ويغرق قطعاته. اهتز فوق أطلال الماضي الراقد، يحمل إلي من بقايا قبته المتهدمة أشياء.
حجر القبر، حيث دفن حبي، يقرع بهذا اللحن العذب. لا تعجب يا ولدي إذا اهتزت أفكاري لأصوات هذا الناقوس. مغرم بصمته الأمين للردى. لأول رنة تختلج تحت قبته أقف مصغيا لما يحمله إلي الحمام
أما أنت، مذياع الحزن البشري الذي اخترعته الأرض لتجهر بآلامها. غن نشيد القلوب المحطمة الرائع، فزفراتك تهب الأحجار روحا، والمقل الجافة دموعا، والصلاة خشوعا أبديا، والقبور حزنا سرمديا.
عندما يحمل العمال نفسي وبقايا حطامي، تبقى هنا روحي تقذف حممها الملتهبة نحو السماء. الباكون، حاشية باردة، تسير خلفي لتضع جسدي، تحت باب حقير، ترتمي عليه أشعة الشموس.
إذا يد ورعة قرعتك لشرفي. فلا تحزن مخلوقا بزفراتك المتصاعدة. لا تنشر الدموع في الأفق. التمس جرس العيد واقرع فوق لحدي، برنة سلسلة سجن قرحة تقع على عتبته
غرد كالعندليب لحنا خالدا، يرتفع من منزلك، والسوط الأسمر يوجه نحو فجر النهار خفقته المحزنة.
غن أنشودتك المترددة في أعماق السموات تطفئ شهوة الخصوم المتشبثين بأدران الحياة.
إليك
اقرع قبل اليوم، دق رويدا الساعة. صديق في منزلي الحقير، يحضر ليضيء في هذا القلب المهدم، الحزن العميم، ويترك قبل أن يذهب قطرتين من العطر تضمخان طويلا كفني.
حسين تفكجي