مجلة الرسالة/العدد 209/الجيل الجديد
مجلة الرسالة/العدد 209/الجيل الجديد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
زارني منذ بضعة أيام عدد من شبان هذا الزمان فنظرت إلى ثيابهم الجميلة وتفصيلها المحبوك على قدودهم الممشوقة وتحسرت على أيامنا. وكان بينهم واحد يلبس بنطلونا قصيرا فقلت له: (أتلبس هذا عادة؟) قال: (نعم. سبور) قلت: (في أي مدرسة أنت؟) قال: (في الخديوية) قلت: (أسمع. أنا أيضاً كنت تلميذا في المدرسة الخديوية ولا أذكر إني رأيت فيها - في تلك الأيام - تلميذاً يلبس بنطلوناً قصيراً، لا أدري لماذا؟ ربما كانت الروح (الاسبور) تنقصهم في تلك الأيام، ولكني أعرف أيضاً أني في صغري كنت لا أقبل أن ألبس هذا البنطلون القصير. . . كان أخي الأكبر يأخذني قبيل افتتاح المدارس إلى محل (ماير)، وكان أشهر محلات الثياب في تلك الأيام، فيعرض على البائع أمثال هذا البنطلون فأقول لأخي: هذه سراويل لا بنطلون، وآبى كل الإباء أن أتخذها. وأصر على البنطلون الطويل فيضحك أخي ويقول للبائع: (هات له بنطلوناً طويلاً. . إنه يريد أن يكون رجلاً ويحس انه رجل، فلا داعي للتنغيص عليه). وأنا أفهم أن تلبس هذا القصير حين تلعب ولكن الحياة ليست كلها لعبا. . فيها ساعات للعمل والجد على ما أظن)
فقال أحد زملائه: (إنه لا يزال صغيراً)
قلت: (لا أدري. لقد كنت أيضاً صغيراً لما كنت أرفض ارتداء هذا البنطلون. كنت في التاسعة من عمري يومئذ. وأحسب أن من كان في التاسعة جدير بأن يسمى صغيراً. . وليس للإحساس بالرجولة وقت معين أو سن مخصوصة. . فمتى تريد يا صاحبي أن تشعر إنك رجل!)
والتفت إلى إخوانه وقلت لهم: (ليت واحداً منكم يقول لي كيف تقضون يومكم)
فترددوا، وصار واحد منهم يبتسم، وثان يفرك يديه، وثالث يتمتم بكلام غير مسموع فقلت لهم: (أنا اصف لكم كيف كنا نقضي اليوم في حداثتنا. . . كان بيتنا في ذلك الوقت عتيقا جداً، وله فناء واسع كبير فيه شجرة جميز ضخمة. وكان في الفناء (حاصل) رحيب فيه أيضاً بئر، فكنت أستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً - صيفا وشتاء - فأنحدر إلى هذا الحاصل وأدلي دلوي في البئر فأملأه وأصبه على بدني - بعد خلع ثيابي طبعاً. كان هذ يقوم عندي مقام (الدوش) في أيامنا هذه. . . فقد كان الماء يحمل إلى البيوت في القرب على ظهور السقائين لا في الأنابيب كما هو الحال اليوم. . . ثم أصعد إلى المسكن فأفطر وأتناول كتاباً وأقرأ حتى يدنو موعد المدرسة فألبس ثيابي بسرعة. . . في دقيقة واحدة بلا مبالغة، وما زلت الآن قادراً على ارتداء الثياب في مثل هذا الوقت القصير. . . أي في دقيقة. . . وأحسب إني لو عملت في فرقة تمثيلية لأدهشت المتفرجين بسرعة اللبس. . . ما علينا. . . إنما ذكرت هذا لأني رأيت كثيرين يضيعون ساعات في ارتداء الثياب: يقفون أمام المرايا ويتأملون أنفسهم في صقالها من الخلف والأمام ومن اليمين والشمال كأنهم سيعرضون في مسابقة للجمال، أو كان أهم عمل للإنسان في هذه الحياة هو أناقة الملبس وحسن البزة وجمال الهندام. إذا مالت ربطة الرقبة نصف ملليمتر كان هذا عيباً فظيعاً؛ وإذا كانت هناك ذرة واحدة من التراب على نعل الحذاء خربت الدنيا وقامت القيامة في البيت على الخادمة المهملة. ما علينا كما قلت. ثم أذهب أجري إلى المدرسة أجري بالمعنى الحرفي لأني كنت أقرأ فلم أجعل بالي إلى الوقت وموعد المدرسة. وما أكثر ما كنت أجري وفي يدي ربطة الرقبة فلا يتيسر لي أن أضعها حول رقبتي إلا في الصف أو في المكتب. ولو تخلفت عن المدرسة لما كان في ذلك بأس ولا منه ضير، فقد كنت أنا ولي أمر نفسي، ولكنا نحب المدرسة وكانت لنا رغبة في التعلم. وينقضي اليوم المدرسي فنكر راجعين إلى بيوتنا ثم نخرج للرياضة والنزهة والترويح عن النفس ساعة أو ساعتين
وأذكر لكم شيئا. . كنا ثلاثة أو أربعة لا نكاد نفترق. ولم نكن في مدرسة واحدة ولكنا كنا نلتقي بعد المدرسة في بيت أحدنا ومعنا كتبنا أو بعضها فنتبادل الدروس التي تلقيناها في يومنا، ثم نمضي إلى قصر النيل أو غيره - على أرجلنا - فإذا كان اليوم خميس ركبنا زورقاً على النيل وكان أبو أحدنا رجلاً فيه شذوذ، فكان يتفق أن يجيء إلى بيتي يقف في الفناء الرحيب تحت الجميزة ويصفق، حتى إذا شعر أن أحداً أطل من النوافذ العليا كف عن التصفيق وانطلق يصيح: (يا أهل عبد القادر. . حوشوا أبنكم عن أبني. . أفسد أخلاقه وعلمه السهر إلى الساعة اثنين) فيخيل لمن يسمعه يصيح إننا نسهر إلى الساعة الثانية صباحا أي بعد منتصف الليل، ولكنه كان يعني لا ساعة الثانية بالحساب العربي: أي العشاء أو بعد ذلك بقليل. . .) فقال أحد الشبان: (لم يكن في أيامكم سينما ولا غيرها من الملاهي التي تضيع الوقت)
فقلت: (إن اللهو ميسور في كل وقت. وطالبه لا يعدمه في أي مكان أو زمان. والمهم هو إرادة اللهو لا اللهو في ذاته. وأنا أراكم تريدون الحياة كلها لهو لا جد فيها ولا عمل؛ وهذا هو الفرق بيننا وبينكم، فقد كنا ندرك أن اللهو ساعات لا ينبغي أن نعدوها، أما أنتم فلا يكاد الواحد منكم يدرك أن للعمل وقتا أو أن العمل واجب. . تريدون اللقمة ممضوغة بل مهضومة قبل أن تضعوها في أفواهكم، بل أنتم لا تريدون أن تكلفوا أنفسكم عناء بلعها وازدرادها. . من منكم يعنى بأن يفتح كتابا غير كتب المدرسة؟ لقد كنا نذهب إلى المكاتب ونبحث فيها عما نريد من الكتب. . وانتم تنشر لكم الصحف إعلانات مشوقة مرغبة مغرية عن الكتب فلا يخطر لأحدكم أن يشترى منها كتابا. . حتى كتب المدرسة لا تقرؤونها. . وشكواكم أبداً من الامتحان وصعوبته. . وسعيكم دائما إلى التسهيل والتخفيف والرأفة. . وما أحسبكم تطلبون إلا أن تعطوا الشهادات بلا امتحان. . والوظائف بلا استحقاق. . وقد سمعت بعضهم يقول أن الجرائد والمجلات تشغل الطلبة في هذه الأيام عن الدرس والتحصيل، وأعتقد أن هذا كلام فارغ فقد كانت في أيامنا جرائد ومجلات كنا نقرأها جميعا. . اللواء والمؤيد والجريدة والمقطم والدستور والهلال والمقتطف، بل كنا نذهب إلى دار الكتب لنقرأ فيها المجلات القديمة مثل الضياء والبيان لصاحبهما المرحوم اليازجي. . . وكذاب من يقول إنكم تقرءون الصحف، فما تقرءون فيها حين ترونها إلا أخبار الامتحان والإضراب والمظاهرات الساعية إلى الوزارات تستجدي النجاح. . . وما تقرءون إذ تقرءون إلا المجلات الهزلية لأن حياتكم هزل بحت)
فقال أحدهم: أن الحركة الوطنية هي المسئولة عن انصراف الطلبة عن التحصيل. فلم يقنعني قوله هذا وبينت له أن الحركة الوطنية كانت أيضا في أيامنا. . . بل كانت في ذلك الوقت أحمى، وكان مصطفى كامل يقيم البلاد ويقعدها بخطبه ومقالاته اليومية. ولكن قراءة أو سماع الخطبة لا يستغرق اليوم كله ولا يستنفد الجهد أجمعه. . . وقد كانت هناك في أيامنا جمعيات أدبية شتى وكنا نعنى بأن نشهدها كلها. ولو أن جمعية أدبية قامت في زماننا هذا لما حضرها إلا مؤسسوها. . . وحتى هؤلاء في مواظبتهم على الحضور شك كبير. . وفي كل أمة صحف ومجلات وأمور تشغل أبناءها، وما أظن أن أحدا سيدعي أن مشاغلنا أكبر من مشاغل الشعب البريطاني أو الألماني أو الفرنسي. . ومع ذلك لا نرى هذه البلادة المخيفة والانصراف الموئس عن الجد.
وقصصت عليهم قصة فقلت: (إني بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين العليا وأصبحت مدرسا اتفق يوما أن كنت جالسا في مقهى بميدان قصر النيل - ميدان الإسماعيلية الآن - وكان معي كتاب (حديث المائدة) لويندل هولمز، وكنت أقرأ فيه حديث الشاعر على المائدة، فمر بي إنجليزي كان معلما لي في مدرسة المعلمين فخففت إليه وحييته، فقد كنت أحبه، فكان أول ما قاله لي: (أظن أنك لا تقرأ شيئا في هذه الأيام؟) فسألته عن سبب هذا الظن القبيح بي فقال: (ألست مدرساً وموظفاً ولك مرتب تتقاضاه في آخر كل شهر؟ فما حاجتك إلى القراءة؟) وكان يتهكم. ولو أني شئت لما عبأت بسوء رأيه هذا ولكنه شق على أن يتوهم أني ما كنت أقرأ إلا طلباً للشهادة ورغبة في الوظيفة، فرجعت إلى حيث كنت قاعدا وعدت إليه بالكتاب الذي كنت أقرأ فيه ودفعت به إليه وقلت له: (واسألني إذا شئت. . امتحني. . نعم فأني مستعد، فابتسم وقال: إنما كنت أمزح. . لأحثك على المواظبة على الاطلاع. . وأني لأعرف أنك تحب التحصيل للتحصيل، ففرحت بهذا جدا وعدت إلى مجلسي مسروراً مغتبطاً بحسن رأي أستاذي؛ وقد لقيته بعد ذلك بسنوات طويلات المدد في إنجلترا وكنت أهم بالعودة وأتزود من مكتبة هناك فقال لي: (أراك لا تزال تقرأ؟) قلت: (إن لنا مثلا يقول إن الزامر يموت وأصابعه تلعب. . صار الأمر عادة يا سيدي. . لا أستطيع أن أنام إلا إذا قرأت شيئا. . لا لأنام فان الكتب لا تنيمني، بل لأحلق في سماء الفكر وأرتفع لحظة عن هذه الأرض. .)
فاعتذر أحدهم بأن الدروس كثيرة وأنها مضنية، وهذا صحيح، فإنها أكثر مما ينبغي، ولكني قلت لهم: إن دروسنا كانت أقل وأفرع وكان أمرها أهون، ولكن الذي كنا نقرأه من تلقاء أنفسنا، بلا حث أو حض، كان أضعاف أضعاف ما تتبرمون منه. . لقد كان أحدنا يقرأ في الليلة الواحدة كتابا. . من منكم يعرف أن لداروين كتابا اسمه أصل الأنواع؟. . أو من منكم يعرف اسم داروين؟. . لقد قرأت هذا الكتاب الجاف في صدر أيامي. . وقرأته بلا معين وحطمت رأسي به. . وما أكثر ما حطمت رأسي بأمثاله. . الحقيقة أنكم قوم ولا مؤاخذة فارغون. . وأنتم الذين سيكون في أيديكم زمام هذا البلد المسكين!) ولا أعرف لماذا زارني هؤلاء الشبان، ولكني أعرف أنهم انصرفوا راضين على الرغم من هذه العلقة!
إبراهيم عبد القادر المازني